دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: منذورٌ لرملٍ/ منذورٌ لشعرٍ ... د. محمود العشيري الثلاثاء 16 سبتمبر 2008, 4:00 pm | |
| قراءة في قصيدة "منذورٌ لرمل" للشاعر: نادي حافظ نص القصيدة ها هي الأبوابُ مغلقةٌ وشيءُ ما.. يفجّرُ رغبةً في أن تبلّلَ مقلتيكَ، فكيف تُزَمِّلُ – الآنَ – انفعالَكَ؟ كيفَ؟ كيفَ يمرُّ ليلُكَ في بلادٍ إذا جاعت تُطَمْئِن بَطْنَها بالزائرينْ؟ ها هُوَ الشرطيّ يمرقُ، يا تُرى هل شَمَّ رائحةَ ارتعاشِكَ؟ أمْ تُرى لمحَ اصطكاكَ الركبتينْ؟
أيُّها البدويّ: خانْتكَ المدينةُ، منذُ آتتْكَ في الحلم امرأةْ، رشَّتْ عليكَ الماءَ، قالتْ: أنتَ منذورٌ لرملٍ يشتهيكَ وأنتَ يا ….. أيَها البدويّ : خانتْكَ المدينةُ، غلَّقتْ أبوابَها، وضَعَتْكَ في التابوت، واستَبْكت عليكَ الطَّيَبينَ، رَمتْك في النيل المهجّرِ، غرّبتْكَ ، فأنتَ لا تدري - إذن- في أيِّ أرضٍ قد تموتْ. أيّها البدويّ: كانت شيمتك العزيزة، والمساءات اشتعالك، وارتحالك.. نحو كوخٍ في الفراغِ، وكانَ يكفيكَ المدى بوحًا فهل أنتَ الذي عرّاكَ وجدٌ واصطفَتكَ الريحُ.. تاريخًا لها؟ هلْ أنتَ الذي قلتَ: "سأفتحُ عيني فتسفرُ في الأفقِ شمسًا وأفتحُ أخرى فيظهرُ بدرٌ لطيفٌ وأحضرُ شيئًا من الطَمْي والنورِ والماءِ وأصنعُ ناسًا لأعطي لروحي التميُّزَ والجبروتْ"(1) هلْ أنتَ الذي قلتَ: "إِن التي (ثَقُلتْ مفاتُنها عليّ) تَبَرَّجَتْ لي - ذاتَ نورٍ- فارتكبتُ الاشتعالْ" (2) وهلْ أنتَ الذي قلتَ: "البحارُ جميعُها - يومًا – تعودُ إلى مياهي والحدودُ ستمَحى ويفرُّ يومُ الأسئلةِ ويكونُ من ذاتي حضورْ" (3) هل أنتَ يا .... هل أنتَ الذي ندَهَتْهُ - في ليلٍ- مدينةْ راوَدتْهُ.. وغلَّقتْ أبوابَها، وَرَمتْهُ في النيلِ المهجَّرِ غَرَّبَتْهُ هل كنتَ أنتْ؟ أَأنتَ يا...؟ أيّها البدوىّ: خانَتْكَ المدينةُ، حينَ قارنْتَ القصيدةَ بـ (الرّيال) وحينَ جالسْتَ (ابنَ بطوطةْ)، و (وليمْ جيمسْ) هل كنتَ خُنْتَ (الِّنفَّريّ)؟ فخلّصَتْ هذي المدائنُ ثأرَهُ وَضَعتكَ في التابوتِ، واستبْكتْ عليكَ الطيّبينْ: (محمد عبد المعطي – أشرف أبو جليل – البتول – خالد حجازي – محمد يوسف) (4) أيّها البدويّ: خانَتْكَ المدينةُ، فاسترحْ، هوَنْ عليكْ، أتراكَ قد هرمتْ رؤاكْ؟__________(1) ، (2) ، (3): مقاطع من قصائد للشاعر. (4) : من أصدقاء الشاعر.القراءة :
(منذورٌ لرمل) عنوانٌ لافت على كل تقدير. يقالُ نذر الشيءَ: أوجبه على نفسه، ومن هنا نذر ماله لله، ونَذَرَ على نفسه أن يفْعَلَ كذا. و (النذر): ما يقدمه المرء لربه، أو يوجبه على نفسه من صدقة أو عبادة أو نحوهما. من الأخير يتحدد الحقل الدلالي الذي يدور فيه استعمال (النذر)، الذي لا يبعد عن إطار علاقة الفرد بالله، بالقوى العليا المهيمنة على الكون – في الميثولوجيات – المتصرفة في الزمان والمكان. (وإذا كان النذرُ اعترافًا بجميلٍ في الماضي أو الحاضر، ألا يعد من ناحيةٍ أخرى (صَدَاقًا) لعلاقةٍ حميمةٍ في المستقبل). ومن هنا نعيد النظر في العنوان. (منذورٌ) صيغة اسم المفعول من (نَذَر)، (هو/ مَنْذُورٌ لرمل)، ومن ثم يصبح هذا الضمير الذي يشير إلى (الذات) التي يتمركز حولها الديوان هو (النَّذيرَةُ): ما يُقَدَّمُ كنذر. والفعل مبنيٌ لما لم يُسَمَّ فاعله (للمجهول كما يقال)، هذا الفاعل الذي لم يُسَمَّ هو الفاعل النحوي والدلالي في الوقت ذاته، وتقديره ضَرْبُ في كبد النص، وصولاً للمعنى الشعري. (مَنْ) - أو (ما) - الذي نذر هذه (الذات) للرمل؟ وإذا كان هذا سؤال النحو فهو سؤال الدلالة الشعرية في هذا النص أولاً وأخيرًا. ومع دلالة النذر لا نستطيع – بحالٍ – الفكاك من أسر علاقةٍ طقسيّةٍ شعائريةٍ بين الإنسان وتلك القوى العليا. ومعه نصبح أمام علاقةٍ ثلاثية الأطراف قوامها: (أ) ............ (ب) ........ (ج) فاعل النذر --> النذيرة --> المنذور له (الإنسان) .................. (قوى قاهرة)
هذه العلاقة تجريد للموقف الذي تفرضه دلالة النذر، ركنها الأول لا يتحقق إلاّ مع تأويل الدلالة الشعرية على اختلاف وجوه التأويل. وركنها الثاني (الذات)، نذيرة هذا الطقس الشعائري. أما الثالث، المنذورُ له فهو هنا (الرمل)، وذلك فضاءٌ آخر ينفتح عليه العنوان. - هل الرمل إشارة لثقافةٍ خاصة تستوعب الثقافة العربية بوصفها ثقافة الرمال؟ - هل يشير لدلالاتٍ خاصة داخل المجمتع العربي المعاصر بانقساماته وتجزؤاته ومشاحناته، فالرمل = الخليج، فنتوجه صوب وجهاتٍ أخرى، أحد معالمها الغربة والاغتراب؟ - هل هو الرمل/ العقاب؟ "اصطفته الريحُ تاريخًا لها". - هل هو الرمل/ المتاهة؟ ولن نعدم له دلالات ووجهاتٍ أخرى كثيرة تتناسل عنها تأويلاتٌ أكثر. وإذا كان المنذور له على هذا التوجه في الدلالات الثلاثة الأخيرة (الرمل/ المتاهة، الرمل/ العقاب، الرمل/ الاغتراب) فعلى أي وجه كانت (النذيرة/ الذات)؟ على سبيل الشكر والرضا؟ أم على سبيل دفع الضُّرِّ وخوف الكارثة؟ فتصبح الذاتُ/ الضحيةُ قربانَ النجاةِ للآخرين. نَذَروه للرمال ليَبْقَوْا هُمْ، ليأمنوا شَرَّها؟ أم أنه نَذْرٌ على سبيل التكفير عن الإثم والخطيئة؟ على كل الأحوال ذبيْحُهم مُصْطَفَاهُمْ؛ قربان قابيل وهابيل كان أفضل مما لدى كلٍ منهما، بقرة بني إسرائيل ظلوا يَصْطَفون في جنسها حتى عَسَّروا على أنفسهم، قربان إبراهيم عليه السلام لربه كان بأحب أبنائه إليه؛ إسماعيل في الإسلام ويعقوب في العقيدة اليهودية، وكذا كان عبد الله عند عبد المطلب. حتى البديل – كما عند إبراهيم وعبد المطلب – كان إما من عند الله أو مما يشق على أولي العزم. ويبقى في سائر الأحوال أن الذبيح/ القربان/ النذيرة هو المصطفى من المجموع في سائر الأحوال: أيها البدويّ خانتك المدينة منذ آتتك في الحلم امرأة رشت عليها الماء قالت أنتَ منذورٌ لرملٍ يشتهيك يتبدى المقطع محملاً بثقل النبوءة الكلاسية؛ نبوءةٌ من عَرّاف أو زورةٌ في الحلم يُخْبـَرُ خلالها بطلُ المأساة بما سيسفر عنه قابل الأيام، ويظل القدر في اطِّراده، وتفشل سائر المحاولات لإيقافه، هذا على افتراض الانتباه للمنحدر الذي يتجه بمصيره نحو النهاية، لكنه القدر، يظل المرء في أحبولته حتى يستيقظ على أولى سهامه في شِقّه. (هذه نبوءة أوديب تسطع، وتقع الأحداث حذو حافرها، وطيف هاملت يأتيه بالخبر وينذره للصراع). ونبوءة القصيدة نبوءة عقابية تُنْذَرُ فيها الذاتَ للرمل يضنيها ويهلكها. ومغزى النبوءة العقابية على الدوام وقوفٌ في وجه جُرْمٍ قد ارْتُكِبْ. فإذا كان ذاك العقاب، فما الجرم؟... ذلك ما تَبْنيْه القصيدة في تفاعلاتها. على كُلٍّ نحن في حضرة الشر، في حضرة المدينة/ المرأة/ الغواية. يوم أن أغوته فأطاعها؛ كانت خيانتها لعهدها المنقوض سلفًا؛ فإذا به ينفذ حُكمًا مُقَدَّرًا عليه، ولم يُقْدِرْهُ إلا استجابته للغواية. فلتبدأ رحلة الاغتراب والضياع، فلتبدأ المتاهة. والحكم الذي أطلقته نافذ بما أكدته من طقس الرش بالماء كما في الميثولوجيا الشعبية، فتُحْشَدُ للشهد هنا طوابع أسطورية. وإذا كنا قد رأينا في النذر علاقةً بالقوى العليا المهيمنة، فالنبوءة أيضًا لا تخرج عن هذا الإطار. ولا يفوت هذا المقطع أن يقيم البداوة ضديدًا للمدينة والخيانة، ومن ثم يؤكد على قيم البادية في مقابل المدينة، على (الأمانة، النجدة، الرفق، الشفقة، …) في مقابل (الخيانة، الغدر، القسوة، الضياع، ….). أيها البدويّ : خانتك المدينةُ غَلَّقت أبوابها وضَعتْكَ في التابوت واستبكتْ عليك الطيبين، رَمَتْكَ في النيل المهجّرِ، غَرَّبَتْك، فأنتَ لا تدري -إذن- في أي أرضٍ تموت. يلح النص على بنينة المدينة من خلال تصور المرأة التي تُخْتَزَل في طابع الخيانة، وبهذه العلاقة يبني النص دلالاتة الشعرية إزاء كُلٍّ منهما من خلال الآخر. تأخذ المدينة/أنـثى الغواية في التقلب بين عدة صور، لكنها كلها داخل إطار الأنـثى؛ فمن (أنـثى الحلم) في المقطع السابق إلى (امرأة العزيز) في بداية هذه المقطع، في إشارة رهيفة يسوغها تضعيف عين الفعل (غَلَّقت) مما يقوي الإحالة إلى التلاوة القرآنية. إنها هنا تخون زوجها، وتكذب على من تحب، وتحاول قهره بالسجن. ولا تلبث المدينة أن تنقلب أنـثى أخرى هي "إيزيس" بقلب "ست". فقد قلب النصُ "إيزيسَ" رمز الوفاء، التي جَدّت في البحث عن جثة زوجها وأخيها إلى أن وجدتها، ثم ما لبثت بعد أن مَزَّق "ست" الجثة وبعثرها في أنحاء مصر – ما لبثت تستأنف بحثها مرةً أخرى دافنةً كلَّ جزءٍ حيث وجدته. يقلب النص "إيزيس" لتفعل ما فعله "ست"، عندما أعد صندوقه الجميل (شَرَك الغواية) موافِقًا لجسم "أوزيريس" وظل به مع شركائه المتآمرين إلى أن جَرَّب الصندوق، فاندفعوا وأغلقوه. لقد تشربت إيزيس المعاصرة/المدينة دماءَ الخيانة، فأخذت من "ست" طابع الشر والغدر. عن "إيزيس" القديمة تقول إحدى الأنشودات المصرية القديمة: "أخته المقدسة قد حمته … بحثت عنه من غير ملل، اخترقت هذه الأرض حزينة ولم تذق طعم الراحة حتى عثرت عليه. هي التي أمدته بالظل بريشها، وبأجنحتها أوجدت الهواء. وهي التي صاحت عاليًا من الفرح وجاءت بأخيها إلى الأرض. وهي التي أنعشت ما كان هامدًا في الواحد صاحب القلب المتعب …" (1) لكن النص مازال يحتفظ لإيزيس ببعض معالمها الأصيلة: "واستبكت عليك الطيبين" لقد ظلَّتا "إيزيس" وأختها "نفتيس" – التي لم تُعْرَف في الأدبيات الفرعونية إلا بهذا الدور– ظلتا تبكيان عليه وتصرخان صراخًا شديدًا مرفرفتين بأجنحتهما الضخمة فوق مسند رأسه كي يعيدا إليه أنفاس الحياة. لقد أدت إيزيس وأختُها طقس البعث حتى عاد أوزيريس إلى الحياة، أما النص الجديد، فمع ظاهر احتفاظه بمعالم الأول ينحرف بإيزيس/ المدينة التي تخفي أكثر مما تُظهر، ينحرف بها حتى في موقف البكاء، بعد أن ماهى بين أفعالها وأفعال " ست" قاتل أوزيريس، هي تستبكي الآخرين، فهل بكت هي؟ إن العبارة التالية لها في النص تقلب استبكاءها سخرية، لقد استبكتهم ثم رمت به في النيل. ساخرةً منه وممن يبكيه. ورغم أننا لا نرى أوزيريس فاعلاً في النص، فهو لا يكاد يرى، لا لغيابه ولكن لصورته الكبرى التي تغطى المشهد كله؛ فلم تكتسب شخصيّة ما قيمةً إلا من علاقتها به؛ فأوزيريس معادلٌ للذات التي سبق أن تحدثنا عنها بوصفها النذيرة التي تدور عليها القصيدة، فهو مفعول سائر أفعال المقطع (خانتك – وضعتك – استبكت عليك – رمتك – غَرَّبتك). وهنا أيضًا نطالع الصورة المزدوجة لأوزيريس والتي يقدمها لنا معجم الحضارة المصرية القديمة "إحداهما : بشرية جدًا وقريبة من فهمنا، ترينا شخصًا طيبًا، قاسى تجربة الموت وانتصر عليه، جالبًا الخلاص للبشر في نفس الوقت. أما الصورة الأخرى: فأكثر بدائية، ولكنها لا تقل عن الأولى أهمية، وهي صورة كائن إلهي يجسد أرض مصر وزروعها التي تتلفها الشمس والتحاريق كل عام، ثم تولد من جديد في نفس المواعيد" (2)
مما بين الغربة والاغتراب من علاقة أن الغربة انقطاعٌ في المكان بالنأي والبُعْد. أما الاغتراب، فهو إخفاقُ في تحقيق الوجود الأصيل، سواء اغتربَ المرء في المكان أو ظَلَّ في مجتمعه. على أن الاغتراب وإن كان أشَدَّ ضراوةً من الغربة فإن الأخيرة تحتمله أيضًا وترشح له. ولعلها كذلك أزمة هذا النص، فغربةُ الذاتِ لم تَحْمِلْ إليه سوى الرّيِح تنْخَره، لم تحمل إليه سوى فقر الروح. يقول أبو حيان التوحيديّ: "الغريب من هو في غربته غريب …الغريب من إذا أقبلَ لم يوسَع له، وإذا أعْرَض لم يُسْأل عنه. الغريب– في الجملة- كُلُّه حُرْقة، وبَعْضُهُ فُرْقة، وليله أسف، ونهاره لَهَف، وغذاؤه حُزْن وعَشاؤه شجن، وخوفه وطن" (3) أَوَلا يشترك التوحيدي مع شاعرنا في عذابات الغربة، وشكل الألم. "كيف يمُرُّ لَيْلُك في بلاد إذا جاعت تُطمئِنُ بَطْنَها بالزائرين ها هو الشرطيّ يَمرُقُ يا تُرى هل شَمُ رائحةَ ارتعاشك أم تُرى لمح اصطكاك الركبتين" في هذا المقطع الذي يجيء في بدايات القصيدة يطالعنا (الافتراس) ليكون أولى الاستعارات التي تدخلها المدينة في أفق الشاعر. فالغريب مُنْتَهكٌ، والشرطيُّ يَشُمُّ إنزيم الخوف الذي تفرزه جرثومة القهر، ذاك الذي خَلَّفته الغربة فصار داءً مستوطنًا في الروح. وإذا كان الفضاء الدلالي لنص "منذورٌ لرمل" يتسع شيئًا فشيئًا على النصوص السابقة، فإنه ينفتح شيئًا فشيئًا على نصوصه هو نفسه، وسلطة التعديل التي يمارسها على نصوص الآخرين يمارسها أيضًا على نصوصه. فهو ذا يتناص في مواضع ثلاث – يشير إليها في الهامش – مع قصائد أخرى له، منها هذا المقطع: هل أنتَ قلتَ : "سأفتح عَيْني فتسفر في الأفق شمسًا وأفتح أخرى فيظهر بدرٌ لطيف ينبني المقطع على معرفةٍ حَسَنةِ الظن بالوجود، (الأمل) الذي تكشّف عن (سذاجة)! تُتَخَـيَّرُ من الوجود عناصرُ الطبيعة وتأملُ الأفق، وهي معالم ركينة في التجربة الرومانتيكية، لتعلن دلالةُ المقاطع الأخرى إجهاضَ هذه الرؤية؛ ليس ثمة شيء يحتاج لإيجاد، وما عليه إلا أن يفتح عينيه، ثم يعيد هو تكوينَ العالم، صُنْعَ الإنسان: "وأُحضر شيئًا من الطمي والنور والماء أصنع ناسًا لأعطي لروحي التميز والجبروت" ليكون العالم كما يهوى. إن تهشيم هذه الرؤية الرومانتيكية (الأكثر ثقةً بإعادة بناء العالم) هي وظيفة تناص "منذور لرمل" مع الإبداع السابق للشاعر نفسه. فـ (يَنْسَخُ) هذا النص نصوصَه السابقة، يَلْتَهِم النَّصُّ الجديدُ ما كُتِبَ قَبْلاً. ليبقى النصُّ دومًا هو الكتابةُ الأخيرة. ومما هو فوق ذلك أن يتناصّ مع القصيدة نفسها؛ فهو يستفتح سائر تناصاته بقوله "هل أنت الذي قُلْتَ:" ثم يأتي بمقطع من قصيدة أخرى، هكذا في مَرّات ثلاث. وكذا أيضًا في الرابعة، غير أنه يتوقف عند الموصول ويجعل جملة الصلة إعادة حكي لما سبق أن قاله قبل استعادة نصوصه: "هل أنت الذي ندهته - في ليلٍ - مديَنة …. " واطّراد المدخل ينحرف بنا إلى نفسِ طريق الاستعادة، ويجعلنا نقرأ المقطع في ضوء المقطع السابق بنفس الآلية التي جعلتنا نقرأ المقاطع السابقة بوصفها تناصًّا مع مقاطع من نصوص أخرى. والنص يعرف كيف يتعامد على رؤىً سابقة له أو للأخرين؛ يستولي عليها ويحولها. ويعرفُ أيضًا كيف يختم بهذا المقطع المتكرر الممعن في الإيلام والشماتة، أو على الأصح عقاب الذات "أيها البدويّ خانتك المدينة". ولن تُقْرأ جيدًا بقية المقاطع بعيدًا عن مطلع القصيدة، ولنضع كُلاًّ إزاء الآخر.
ها هي الأبواب مُغلقةُ ............... فاسترح وشيءُ ما ........................... هَوِّن عليك يُفَجِّرُ رغبةً في أن تبلِّل مقلتيكَ .... أتُراك قد هرمت رؤاك؟ فكيفَ تُزَمِّلُ – الآن – انفعالكَ؟
انغلاق الأبواب هنا مفارقٌ لتَغَلّقها في سائر النص؛ فإذا كانت الأخيرة تشير للمحاصرة والغدر من قِبَل الآخرين/ المدينة، فإن الأولى تعني الاحتماء عن الآخرين والانفتاح على الذات لتطهيرها وإبراء جراحها "استرح، هَوِّن عليك". كما أن السؤال في آخر النص لا يقطع بدلالةٍ واحدة غير أنه يسمح بإعادة الإشارة إلى الصمود أمام إغواء الريال، والهمز بخيانة النِّفَّري، ونخر الريح، وانفراده في دوّامات الرَّمل ليـبني كوخه في الفراغ، فيكفيه المدى بوحًا، يحرر فيه طيره الحبيس.
الهوامش : (1) د.سليم حسن: الأدب المصري القديم أو أدب الفراعنة. مطبوعات كتاب اليوم . ديسمبر 1990م. ج2ص94،95. (2) جورج بوزنر وآخرون: معجم الحضارة المصرية القديمة. ترجمة: أمين سلامة. مراجعة: د.سيد توفيق . الهيئة المصرية العامة للكتاب. ط2 ص75. (3) أبو حيان التوحيدي: الإشارات الإلهية. ص 79، 91. تحقيق: د.عبدالرحمن بدوي. القاهرة –1950م. منقول عن موقع مجلة أفق الثقافية عدد الثلاثاء 23 مايو 2006 | |
|
د. مصطفى عطية جمعة مشرف قسم دراسات وآراء في النقد الأدبي
عدد الرسائل : 183 العمر : 55 الجنسية : مصري تاريخ التسجيل : 08/06/2008
| موضوع: رد: منذورٌ لرملٍ/ منذورٌ لشعرٍ ... د. محمود العشيري الأربعاء 17 سبتمبر 2008, 8:18 pm | |
| أخي الحبيب / د. محمد تحياتي وتقديري شكرا لك هذا النشاط الجميل في نشر هذه القراءة النقدية للناقد الدكتور ( الصديق ) محمود العشيري عن الشاعر الصديق / نادي حافظ وهي دراسة تقف منذ عتبة النص / العنوان إلى أعماق النص ، بقراءة موثقة تضرب في أعماق الثقافة المصرية الفرعونية وفي أعماق الثقافة العربية ، فالرمل رمز عميق في الذاكرة الجمعية العربية . هذه الدراسة نشرت منذ سنوات ، وكانت مصاحبة للقصيدة ، والقصيدة صدرت ضمن ديوان حمل اسمها ، وقد كتبتُ دراسة عن هذا الديوان بعنوان كتابة الجسد في منذور لرمل ، نشرت في أدب ونقد وفي صحف الكويت . وهي قيد النشر في كتاب الأصداء والظلال ( النقدي ) . تحياتي وتقديري | |
|
دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منذورٌ لرملٍ/ منذورٌ لشعرٍ ... د. محمود العشيري الأربعاء 17 سبتمبر 2008, 10:38 pm | |
| أخي الحبيب دكتور مصطفى نادي حافظ ومحمود العشيري صديقان مبدعان يستحقان أكثر من هذا شكرا لمرورك الكريم وإضافتك الرائعة وننتظر نشر دراستك القيمة لتعم الفائدة ، شكرا لك | |
|