فضاء الإبداع
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فضاء الإبداع

هذا فضاء للجميع فدعونا نحلق معا في أفق الإبداع
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
دكتور : محمد ربيع هاشم
Admin
دكتور : محمد ربيع هاشم


عدد الرسائل : 1663
العمر : 53
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي Empty
مُساهمةموضوع: قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي   قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي I_icon_minitimeالثلاثاء 16 سبتمبر 2008, 5:19 pm

بقلم : د. محمود أحمد العشيري / ناقد وأكاديمي مصري
جامعة القاهرة / جامعة قطر


بعد ديوانه الأول "رحيق الشهد والمحاياه" يصدر الشاعر محمد عبد المعطي ديوانه الثاني "بنت ماولدتهاش ولادة " الذي يرسم به إحداثيات وجوده الشعري باتزان في قلب قصيدة العامية المطروحة الآن، في تطوير محسوب؛ يلبي المتغيرات الإبداعية الجمالية ولا ينقطع عن الشعر الذي أفرزه.

ويجدد نص عبد المعطي الثقة بقدرة قصيدة التفعيلة العامية على إنجاز حداثتها، فلا يزال ثمة أشياء صالحة للاعتقاد، مع عدم الثقة بإطلاقها أو موثوقيتها الطاغية، ولا تزال إمكانية الارتباط بين الأحلام الكبيرة والأحلام الصغيرة مُسَوّغة، والأرض والعشق والإبداع والقيم لا تزال أيضاً صالحةً للاعتقاد والكتابة حولها.
وليس هذا ما تضمره القصائد فقط، بل يُصَدِّر الشاعر ديوانَه بما يحيل إلى ذلك. فعنوان الديوان هو عنوانٌ داخلي على إحدى القصائد، يرسم فيها الشاعر ملامح (بنت لم تولد من قبل)، أنـثى لا يمثلها إلا هذه (الأنـثى النَّصِّيـَّة) الخاصة، التي توحي وتُمثّل بما لا يقبل التحديد، وتشير بما لا يقبل الحصر والتعيين. يراوح النص على امتداده بين وصفها وأفعالها وعوالمها الداخلية، مشاعرها وأمانيها، أحلامها، إقبالها، هواجسها، وأيضاً تفسير مواقفها ومواقف المخاطب المفترض في النص، عالما كاملاً يبنيه النص لهذه الأنـثى المثال:
" ماشيه بتتعايق قدامك
طب كلِّمها
أو حتى أرمش لها من تحت لتحت وفوز باللحظه
شايف … أهي بصت لك وكإنها غرقانه في دهشتها
وعنيها بتسأل: خجلان ولاّ بتصطنع التُقْل عليها
برضه مارديتش البصه
إزاي ودي بنت ماشوفتش زيّها ولا هتشوف .
دي موقفه رجاله على شنابها …
وماليه الشارع بهجة وزغاريد
راخيه لك إنت لوحدك في دلالها
الله يخرب عقلك
شاورت لك …
وقالت كل كلام العشق اللي ما يتقالشي لواحد
من غير ما تحرك شفايفها… فردت لك ملايتها
ومدت لك قلّه لو تشربها مش ممكن تعطش أبدًا
بس اتشجع ولاغيها وحرك مفاتنها … " (ص75).

هكذا إلى خمسة وأربعين سطراً تمتد القصيدة في مشهد واحد وصورة كلية واحدة، تمتد وتتسع وتتعدد تفاصيلها خالقة بناءً رمزيًا كليًا تنبع قيمته وأبعاده من تعدد التفاصيل وعمقها، كما يتبدى إحكامه عبر هذا التمثيل المنغلق الدائري الذي لا يوفر أيَّ قرينةٍ لفظية تُقْصِرُ التأويل على معنى دون الآخر. إن أقصى ما يسمح به البناء الرمزي هنا هو عدد من المدارات التي يدور فيها النص، مع الاحتفاظ بهذا القدر المتسع من حرية الحركة، وتعدد الاتجاهات. ويَصْدُر الرمز بهذا عن الشاعر بوصفه محاولة تعبيـر، ويتلقاه القارئ بوصفه منبعًا للإيحاء والتمثيل. فيغدو النص كتابةً عن البنت أو عن الأنـثى (بما هي هي)، وقد ينسرب في دهاليز التأويل لتغدو البنتُ ( الجوهرَ الكليَّ للحياة ) وبينهما وفرة من المعاني والدلالات.
فكما تمتاح القصيدة من رصيد الأنـثى اليومي تمس كذلك معالم الحياة والوطن والوجود والإبداع، تحتوى المخاطب في الوقت الذي تطلب فيه جواره:
" الله على بنت بتتعايق قدامك
وتعيد تشكيل العالم من حواليك
كرامتها في إيدك ومحبتها في قلبك دَبِّت
وما تعرفش سواك
إوعى تفرط فيها لتخسر وتفوت لك حَسْرتها بجد " . (ص77).

ولا تعتمد الصورة عند محمد عبد المعطي "تغريـبًا دلاليًا" على الدوام، بل هي نتاج اتزان رائقٍ ومحسوب بين مجازٍ مطروقٍ لا يخلو من طرافةٍ، يعيد تقديمه بصورة جديدة إيقاعيًّا وسياقيًّا، ومجاز آخر أكثر تجريدًا، وأقل شيوعًا وألفًة.
ولعل هذا الاتزان المحسوب يفسر جانبًا من تواصليَّـة النص محل الدراسة، وأضرابه من النصوص - مع الملتقى، خاصًة في هذا اللون من الكتابة - الكتابة بالعامية - الذي لا ينفك بحالٍ عن الارتباط بعموم القرّاء، بصوت الشارع، وقلب الحياة اليومية. ومهما تنوعت تقنياته يظل مشدودًا إلى العامة والجمهور بمسوغاته الموضوعية ومرجعياته اللغوية. ولننظر إلى المقطع التالي على سبيل المثال:
1- " سامحني
2- ما قدرتش أكون صوتك
3- ولا فكّرت أوصّل ضحكتك للناس
4- إنت في طريقك للحياه بتنوّر السكه
5- وأنا مضطر أموت فيّا …
6- وأسلِّم نفسي لخيالي ما يرسـمنيش
7- كفاية عرفت أخبارك
8- وشوفتك وإنت بتوَرِّد
9- ويكبر في العيون طيفك … نسيم شفاف
10- ملامح نور
11- وضحكة بيضا بتكسر سواد الليل " (ص27).

بالطبع، السطور (2،5،6،9) متفاوتة في درجة مجازيتها، وربما في شكل المجاز نفسه، لكن الأهم هو اختلافها عن سائر السطور في هذا الوجه من التشكيل، هذه السطور كلها جاءت متواشجة بما لا يسمح للفجوات الناشئة عن غرابة بعض السطور بحجب المعنى، بل يظل القارئ قادراً على بناء معنىً كليًا ما. كذلك لم تقدم السطور المعنى مكتملاً جاهزًا لا يثير المتلقي، بل شتَّت الغرابةُ توافقاتِه من حين لآخر؛ شُتِّتَتْ بـ (صوته الذي يريد المتكلم أن يكونه)، أو بـ (هو الذي يريد أن يموت فيه، والفاعل والمفعول الدلاليان هنا شخص واحد فعليًا)، أو (الذات التي لا يرسمها خياله رغم استسلامها له)، أو (الطيف الذي ينمو في العيون نسيمًا، يرق حتى يغدو شفافاً، بما في ذلك من تراسل البصر مع اللمس مع البصر ثانيةً). هكذا تشق لغة الديوان طريقها في اتزان نحو كتابة متميزة تحقق جدتها الفنية، ولا تقطع في ذات اللحظة اتصالها بجمهورها.

وعلى نحوٍ آخر، وعلى مستوى البناء الكلي، وفي إطار إعادة إنتاج الشائع والمألوف في إطار الكتابة نفسها - يستخدم محمد عبد المعطي موتيفةً شائعةً في نبض الحياة اليومية، شائعةً في شعر العامية بالتبعية هي "كباية الشاي"، موتيفةٌ تُستخدم لتقدم أنس الجماعة وتقارب الأفراد وجلسات المودة والتصادق. هنا يعيد الشاعر تقديمها بوصفها دليلاً على الابتذال والتكرار وسأم الأفعال، في حياةٍ تأبَى أن تأتِي بالجديد، وكل ما تأتي به من جديد "وهم":
" وأنا لسه بادوّب أحزاني ف كباية الشاي المشروخه
وباتنفس وهم والوّن ف عنيّه الدخان …" (ص52).
ولا تخفي إشارة الشرخ في جدار (الكباية) أو بالأحرى في جدار ما ينشأ حولها من علاقات اجتماعية، في ضوء النصوص الشائعة، أو في جدار الذات - في المقام الأول- في هذا النص.
إن (كباية) الشاي التي يمكن أن تضم الشاعر إلى أصدقائه، يتطارحون الحديث حولها، تغدو علامة وحدته وسأمه، وشاهد عجزه عن الكتابة التي تـتدابر دون الإحاطة بهزلية الموقف:
" ساعتين وانا عاجز عن ترجمة الصوره
وتأويل المعنى" (ص51).
وإذا كانت (كباية) الشاي تُقَرّب بين الأصدقاء، فهي في وحدة الشاعر من المفترض أن تقرّب بينه وبين ذاته، بينه وبين تأمله. ولكنها لما قاربت بينه وبين ذاته قرّبت بينه وبين الحزن، ولما قرّبت بينه وبين تأمله قرّبت بينه وبين العجز:
" وباحاول أفسّر فـ غبائي قدام الهرم المقلوب
واتكركب لكن ما اطلعشي …
غير بالشهوه المطبوعه على وش كلينتون …
وحكايات الخصيان والمماليك الخونه
والضحكه الصفرا اللي ضحكها لي نـتنياهو …
وطلّع لي لسانه
وجرايد الجنس اللي محاصراني بتـتلعق لي " (ص51).

* * *

ولعل مما يميز محمد عبد المعطي أيضًا قدرته على صياغته صوتًـا آخر داخل بعض قصائده، صوتًا يقوم على اصطناع لغة الأدب الشعبي الشفاهي، وهو لا يصطنع لغةً تحديدًا قدر ما يُصَـنِّع خطابًا، ذلك أن عباراته تشير لعناصرها الغائبة ومقاماتها السياقية التواصلية أكثر مما تصرح بإشاراتها بمكوناتها الحاضرة البارزة. بما يكشف عن إحاطةٍ واعيةٍ (بمنطق) المنْـَتَجِ الشعبي الشعري وبطرائق تكوينه ونبرته الخاصة. فيصوغ في قصيدته "ما اعرفش افتكرتك ليه" بكائيات ذاتية يشفُّها روحٌ جنائزي، يحمل عمق التجربة وخلاصة الكون والحياة:
" مقطوف صباحي والقمر مخنوق
الليل مغطي والقمر مكشوف
يا مين يرسّي الرّوح على بدني
ويلم حلمي من ضباب الخوف" (ص 27).

ويُشْرَك الملتقى نصِّيـًّا بتوجيه الخطاب إليه في أدائيةٍ تستحضر عمق التراث الشعبي (يا مين …) التي يحمل فيها المبدعُ إصرَ تجربته على كتفه مستنجدًا بالآخرين من تشتت الداخل وكآبة الخارج. ورغم أن جملة واحدة من الجمل الأربع في السطرين الأول والثاني قد تكون كفيلة بمشارفة حدود المعنى بقوة إلا أن هذا التـراكم الدلالي البنائي يزيد في بيان إصر إعتام الصورة وكآبتها، فتستدرك كل جملة على الأخرى ما قد يخرج عن حيز ما تنفيه، ومحاصرةً معنىً واحدًا، مراتبة حوله بنايات الألفاظ بما يفضي إلى اضمحلال الثقة في هذه اللغة التي توصّل الدلالة المرادة، فينـتقل الاغتراب إلى التواصل التعبيري.
هذا الاغتراب المستشف يُطْرَح صراحة في انفصال الروح التي تهيم بعيدًا عن الجسد المفارق أيضًا لوضعها، ويظل ضلالُ كُلٍّ بعيدًا عن الآخر. هكذا أيضًا يعاني الحلم حالَ الشتات وسط مأزقين، مأزق الظلمة ومأزق (الخوف). وسائرُ الأوصاف في السطرين الأولِ والثاني تقدمُ ذلك، فيقدَّم الأولُ مباشرةً والثاني - الخوف - بالتبعية.
ولا يخفي فيما نشير إليه علاقة الشاعر بهذا الصوت الآخر في القصيدة - كيف يتمثل النصُّ قيمَ الوزن والقافية وربما التصريع مما يزيد في مباينة هذا الصوت للصوت التفعيلي المهيمن:
" عليك الحلم والملكوت
ما بتكلّش ولا بتموت
وفاكر خطوتك لسَّه
دا سرداب الليالي تابوت. (ص28).
فللمقطع نفس التشكيل القافوي للمقطع السابق إثباته، غير أنه يزيد عليه بتصريع البيت الأول. أيضًا لا يفارق كثيرًا الصوتُ الشعريُّ هنا مساحةَ المجاز المألوفة في نظيره التراثي، فلا يَـبْعُد الأمرُ أن تُسْتَبْدلَ بألفاظِ التحيةِ أو الدعاءِ أو الرُّقيةِ موضوعةٌ جديدةٌ ( الحلم والملكوت )، منـتقلاً في ذات اللحظة إلى موقع أقرب إلى الجواب من السؤال السابق، (يا مين … )← (عليك الحلم والملكوت، ما بتكلش ولا بتموت). متبَـنِّيـًا صوت الجماعة، التي لا تـثبط قدر ما تُبَصِّر الطريق (دا سرداب الليالي تابوت). ولا يُبْدي انفصالُ الصوت هنا إلا معاينة التجربة واكتمال الخبرة وتشبُّعها. إنه استقرار الحكمة وحنكة التجربة .

وإذا كان جل الديوان يلعب على المتخيل والإيهامي الشعري، فإنه في قصيدته / شهادته الأخيرة من الديوان، والتي يعنونها بـ "أنا يمكن محتاج دلوقتي أغيّر دَمّي" يضرب هذا المتوهم الشعري، ويقيم علاقته مباشرةً مع الواقع الفعلي، (أو هكذا يوهم أيضًا)، وتصبح وضعية العلاقة التي يقيمها النص إزاء هذا الواقع وطبيعة المواقف المتخذة إزاءه من أَوْلى المقومات التي تكسب هذا النص شعريته.
والقصيدة حكي استعادي بالشعر عن وجود خاص لأنا ساردة مُشَخّصة داخل العمل تؤول إلى أنا المؤلف الشخصي المتعين. وفي إحالة هذه الأنا الساردة إلى أنا المؤلف الشخصي تـتبدى مقصدية المؤلف السردية المتواترة عبر الديوان، وتتعدد أشكال الإحالة بين تصريح بالاسم في بعض القصائد أو تحديد الأنا بتحديد أشخاص آخرين في مواقف ما وتحديد علاقتها بهم، على أنحاء مختلفة كالشعراء مجدي الجابري وعبد الدايم الشاذلي، أو فؤاد حداد وصلاح جاهين، بما يؤول معه الأمر لإمكانات تأويلية ورمزية مختلفة ومتفاوتة على مستوى القصائد.
ولكن الإحالة في هذا النص الأخير تتعدى الإحالة النصية الأزمة، تتعداها في إحالةٍ لواقعٍ ما متعين، محوره الأنا الساردة في علاقتها بأنا أخرى مُشَخّصة للمؤلف أو لنقل إن الفضاء يُخْلى تمامًا لهذه الأنا الشخصية لتتكلم وتُشَخّص. ومن ثم فـ "الأنا" في النص "أنا" أوتوبيوغرافية مرتبطة بالاسم الشخصي للمؤلف. وغدا النص على هذا النحو نصًا سِيَريًّا، يكتب فيه الشاعر سيرته الذاتية (الإبداعية) شعرًا.

وكتابة السيرة الذاتية تسمح باحتضان الرؤية الشعرية، ذلك أنها لا تُلْزِم كاتبها (الدقة) حول الأحداث كما هو الشأن في (المذكرات)، ولا (الحقيقة المطلقة) شأن (الاعترافات). فالشهادة الشعرية إفضاء بمكنونات لا يُرْفِدُ صدقَها وموضوعيتَها إلا بُعدُها الشخصي الذاتي. إن التخييل الشعري الذي يقدمه السارد في القصيدة هو معيار موثوقية النص الذي يُقَدَّم . كما أن الانتخاب والانتقاء الحر بين عناصر مؤثّلة لمثل هذا الخطاب السِّيَري الشعري، فتكشف القصيدة عن هموم كبيرة، وأخرى صغيرة مجاورة، تكشف عن رؤية محلية خاصة وأخرى تستوعب الوطن والهوية والكون والحياة .
ولعل المقطع التالي يمثِّل لسيرورة المراوحة بين الكلي في صورته المجردة، والفردي المشخص في واقعه العيني. يقول :
" ها ارجع بخيالي واشوف مياتمنا
وأفراحنا وعديد النسوان لما السبع يقع من طوله
وحيطان البيت تتهد وتتبني من تاني على وعد
بفرح جديد وربابه وشاعر وترومبيطه وزفه
وزغاريد. على فكره نفس الهون اللي اتدق عليَّه
ف سبوع المرحوم اخويا جات الدايه … نفس الدايه
ودقت به على دماغ الواد ابني اللي بيكبر وبنفس
ملامحي، هيدقوا الهون لابنه من تاني، ولا يقطع
لنا عادة قادر يا كريم ". (ص 87).

بكل عمومية وكلية يلتقط النص تدارك الفرح والحزن في حياتنا، ويلتقط ثقل كليهما على النفوس، ثقل المشاعر المفرطة في فرحها وكذلك ثقل المشاعر المفرطة في حزنها عبر تمثيل المخيلة الشعبية لرب الأسرة بالسبع وتهاويه إلى الأرض مفارقًا الحياة، وما يبنيه هذا الاختيار التصويري من إطار تمثيلي يقوم على التربّص بالافتراس والمقاومة واللواذ بالحامي ضمين الأمن. وكذا صورة أركان البيت المنهدمة، التي تحمل في باطنها الأمل، الذي يتولّد وَعْدًا، لا يلبث أن يتحقق. هذا الأمل وذلك الوعد تُرسم معالمه الكبرى دون تفاصيله، فقط يجمع النصُ عناصرَ الفرح معًا في حيز واحد، تاركًا للقارئ رسم المشهد وتحريكه كيفما اتفق لموسوعته، فيكوّن كلُّ قارئ مشهده الخاص به: "على وعد بفرح جديد وربابة وشاعر وترومبيطة وزفة وزغاريد".

ومن هذا الكلي والجماعي، وفي هذه السيرورة التي لا تنقطع إلى الفردي والذاتي، في نفس السيرورة أيضًا، ليغدو (نفس الهون ونفس الداية) رابطًا بين الأخ الذي مات وبين الابن الجديد الذي جاء عوضًا عن عمه، ليحمل نفس اسمه - كما في قصيدة "ما اعرفش افتكرتك ليه" - ولكنه يشبه أباه، هذا الابن سيدق بنفس الهون لابنه أيضًا، وتتواصل الحياة.
ولا تخلو القصيدة في ارتدادةٍ أبعد من بعض مشاهد الطفولة التي أسهمت في تشكيل هذا الوعي الشعري، وأنتجت هذه المخيلة الإبداعية:
" يمكن محتاج أفتكر
الحدوته في حجر أمي وأسافر بخيالي مع المهره
اللي راكبها الشاطر والغوله اللي شعورها بتنطر
تعابين وعقارب والدمعه النازله من عين ست
الحسن بتلسع خد حبيبها وتجدد جواه الرغبه فـ
الاستمرار". (ص 87).
هنا تحتفظ الذاكرة بما هو عجائبي، ترسبت في وعيه غرابتُه عما يُحْكى، فظل مشدودًا إليه، مشدوهًا به، يُدخله في نسيج رؤيته الإبداعية متدخلاً على المشاهد برؤيةٍ تفسيريةٍ ناضجة: "الدمعة … بتلسع خد حبيبها وتجدد جواه الرغبة ف الاستمرار". لقد أدرك هذا الوعي مبكرًا سيرورة الحياة بين الانتصار والانتكاس وإصرار المقاومة، والتحم لديه مبكرًا الواقع النصي الحكائي التخيلي بواقعه المعاش.

على أننا نشير بالضرورة إلى أن استخدام الإيقاع في هذا النص السِّـيَري (النص / الشهادة) لم يكن مجانبًا على الإطلاق، ولم يُقَدَّم لتغدو القصيدةُ بموجبه، فقط، مفروقةً عن الشهادات النثرية. لقد كان الشاعر يعرف كيف يستخدمه لإسراع السرد؛ قافزًا به في كثير من الأحيان، أو إبطائه في أحيان أخرى، في الوقت الذي استغل فيه إمكانات قصيدة التفعيلة من تدوير وتضمين، ليكتب دفقاتٍ شعرية لا ينتهي الإيقاع إلا بانتهائها .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://poems.mam9.com
ضحى بوترعة
مشرف قسمي حوارات خاصة مع شخصيات مبدعة وقضايا وآراء أدبية



عدد الرسائل : 1313
العمر : 55
الجنسية : تونسية
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي   قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي I_icon_minitimeالثلاثاء 16 سبتمبر 2008, 6:28 pm


اضافة قيّمة ورائعة للمنتدى .........شكرا دكتور على هذا المجهود المتميّز

للارتقاء بالمنتدى

وشكرا د. محمود أحمد العشيري على هذه القراءة العميقة والقيّمة

مودتي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
دكتور : محمد ربيع هاشم
Admin
دكتور : محمد ربيع هاشم


عدد الرسائل : 1663
العمر : 53
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي   قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي I_icon_minitimeالجمعة 19 سبتمبر 2008, 5:02 pm

شكرا للشاعرة ضحى على المرور
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://poems.mam9.com
هبة اسامة
مشرف قسم مبدعون تحدوا القيود
هبة اسامة


عدد الرسائل : 372
العمر : 39
الجنسية : مصرية
تاريخ التسجيل : 15/08/2008

قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي   قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي I_icon_minitimeالخميس 02 أكتوبر 2008, 12:04 am

الموضوع رائع وبجد يستحق التقدير
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
دكتور : محمد ربيع هاشم
Admin
دكتور : محمد ربيع هاشم


عدد الرسائل : 1663
العمر : 53
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي   قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي I_icon_minitimeالخميس 02 أكتوبر 2008, 2:20 am

شكرا أستاذه هبه على جمال المرور
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://poems.mam9.com
 
قراءة في ديوان:"بنت ما ولدتهاش ولاده" للشاعر الراحل: محمد عبد المعطي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
فضاء الإبداع :: عطر الأحباب-
انتقل الى: