بكاء السماء والأرض
والسماوات والأرض تبكيان على العبد المؤمن إذا مات وأنقطع عمله، وقد ورد ذكر بكاء السماء والأرض فى القرآن الكريم فى قوله عز وجل: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 25 وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ 26 وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ 27 كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ 28 فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ 29) الدخان: 25-29، قال الحافظ أبو يعلى الموصلى فى مسنده عن أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد إلا وله فى السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه)، قال مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، قال: فقلت له أتبكى الأرض؟ فقال: أتعجب؟! وما للأرض لا تبكى على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكى على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوى كدوى النحل؟، وقال قتادة فى هذه الآية: كانوا أهون على الله عز وجل من أن تبكى عليهم السماء والأرض.
البكاء من خشية الله
وأفضل أنواع البكاء وأكرمها على الله عز وجل ما كان من خشيته وخشوعاً لآياته وخضوعاً لقدرته تبارك وتعالى، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الباكين من خشيته الخاشعين له، يقول عز وجل: (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً 108 وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا 109) الإسراء 107-109. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التميمى أنه قال – تعليقاً على هذه الآية – إن من أوتى من العلم ما لم يُبكِهِ لخليق أن قد أوتى من العلم ما لا ينفعه، لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ).
ويقول الله عز وجل بعد ذكر طائفة من الأنبياء: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) مريم: 58، فما أعظمه من بكاء، وما أجلها من دموع تلك التى تعلن صراحة الخشوع لله والخضوع له والمسكنة إليه رغباً ورهباً وشوقاً وحبا.
وقد جاء فى مدح البكاء من خشية الله تعالى أخباراً كثيرة، فقد روى الترمذى عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس فى سبيل الله تعالى)، وأخرج البيهقى والأصبهانى عن أنس رضى الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (وقودها الناس والحجارة) فقال: (أوقد عليها ألف عام حتى أحمرت، وألف عام حتى أبيضت، وألف عام حتى أسودت، فهى سوداء مظلمة لا يُطفأ لهيبها)، قال: وبين يدى رسول الله رجل أسود فهتف بالبكاء، فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال: من هذا الباكى بين يديك؟ إن الله عز وجل قال: (وعزتى وجلالى وارتفاعى فوق عرشى لا تبكى عين عبد فى الدنيا من مخافتى إلا كثرت ضحكها فى الجنة). وأخرج البيهقى أيضاً عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: لما نزلت (أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ولا تبكون) النجم: 59-60، بكى أصحاب الصُفّة حتى جرت دمعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله حسهم بكى معهم، فبكينا ببكائه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مُصِرٌّ على معصية، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم)، فما أجلها من دموع تلك التى يكون جزائها عتق من النيران، وفوز بالجنان، ونيل رضا الرحمن.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثير البكاء عند سماع القرآن، عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: قال لى النبى صلى الله عليه وسلم: (أقرأ علىَّ القرآن) فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟، قال: (إنى أحب أن أسمعه من غيرى) فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) قال: (حسبك الآن) فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. (متفق عليه).
وكان الصحابة رضوان الله عليهم كثيرى البكاء من خشية الله، تجرى دموعهم على خدودهم وتبتل بها وجوههم ولحاهم خشية لله وخشوعاً وطمعاً فى رحمته وإشفاقاً من عذابه، يروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان فى وجهه خطان أسودان مثل الشراك من البكاء، وعن الحسن قال: كان عمر بن الخطاب يمر بالآية من ورده بالليل فيبكى حتى يسقط ويبقى فى البيت حتى يعاد للمرض، وعن ابن عباس قال: رأيت عمر نشج حتى اختلفت أضلاعه (أى من البكاء)، وعن أبى عثمان النهدى أن عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت وهو يبكى وبقول: اللهم إن كنت كتبتنا عندك فى شقوة وذنب فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعلها سعادة ومغفرة، وعن ابن عمر قال: غلب عمر بن الخطاب البكاء وهو يصلى بالناس صلاة الصبح فسمعت حنينه من وراء ثلاثة صفوف.
وأخرج الترمذى عن هانئ مولى عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكى وتذكر القبر فتبكى؟ فقال: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر، وإن لم ينج فما بعده أشد). وأخرج ابن سعد وأبونعيم عن مسلم بن بشر قال: بكى أبو هريرة رضى الله عنه فى مرضه، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قال: أما أنى لا أبكى على دنياكم هذه، ولكنى أبكى لبُعد سفرى وقلة زادى، أصبحت على صعود مهبطه على جنة ونار، ولا أدرى إلى أيهما يسلك بى.
بكاء الندم
بكاء الندم أشد أنواع البكاء مرارة وقسوة على النفس، فهو اعتراف بالعجز والذنب والتقصير وظلم النفس أو الغير، فالعبد المذنب عندما يتوب يبكى ندماً على ذنبه، بل إن الفقهاء جعلوا البكاء ندماً دليلاً على صحة التوبة وقبولها، واعتبروا جمود العين دليلاً على عدم الصدق فى التوبة.
وعادة ما يندم الإنسان كثيراً فى حياته، فهو يندم على ما فعله من أمور كان يجب ألا يفعلها، ويندم على ما لم يفعله من أمور كان يجب عليه فعلها، وهو يندم على ضياع الفرص من بين يديه هباءً، ويندم على ضياع عمره منه بلا طائل، ويندم على فعل السيئات، كما يندم على فعل المعروف فى غير أهله، وهو يعبر عن كل هذا بالبكاء، ودموعه هنا هى دليل الندم.
وقد نبه القرآن الكريم أنه يجب على الغافل المسرف على نفسه أن يبكى على ما قدم بدلاً من أن يضحك، يقول عز وجل: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ 81 فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 82) التوبة: 81-82، ويقول أيضاً: (أَزِفَتْ الْآزِفَةُ 57 لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ 58 أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ 59 وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ 60) النجم 57-60. وفى الحديث النبوى الذى رواه الترمذى عن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: (أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وأبكِ على خطيئتك). فيجب على الإنسان أن يبكى ندماً على ما قدم، وعلى إسرافه فى حق نفسه، وفى حق الله، فهذا البكاء دليل على صدق الندم، وهذه الدموع تطهير لقلب صاحبها ونفسه.
وأخـيراً .. أبكـوا تصـحـوا!!
ومما سبق يتضح لنا أن للبكاء صور عديدة ووظائف كثيرة، وأنه غالباً ما يكون نوعاً من التنفيس والتفريج عن النفس المثقلة بالهموم، والقلب المكلوم المفعم بالأسى، فدموع الإنسان راحة لقلبه وسكن لنفسه وترويح عن أعصابه، والبكاء وسيلة فعالة لاستعادة الإنسان لهدوئه واتزانه النفسى، وهو نعمة كبرى من نعم الله عز وجل، وآية من آياته سبحانه فى النفس البشرية، ولولاه لمات الإنسان كمداً، ولأضحت حياته جحيماً من كثرة الضغوط والهموم، فسبحان من جعل من البكاء نعمة، ومن الدموع شفاء، وما أجمل قول الشاعر عن تقلب الإنسان ما بين الضحك والبكاء:
ولدتـك أمك يا ابن آدم باكيـاً
والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل ليوم أن تكون إذا بكوا
فى يوم موتك ضاحكاً مسـرورا
فلنحافظ على نعمة الله ولا نجحدها، ولنترك لأنفسنا العنان فى البكاء كلما أحسسنا بحاجتنا إليه، ولنعلم أطفالنا أن يبكوا عندما يشعرون بالحاجة للبكاء، فما كانت الدموع يوماً عاراً على صاحبها، وما كان البكاء يوماً عيباً نخجل منه، وكيف نخجل من نعمة مَنَّ الله بها علينا رحمة منه بنا وتخفيفاً منه عز وجل عن نفوسنا المتعبة، فيجب ألا نخجل من دموعنا أبداً، فهى دليل على سواءنا العاطفى، واتزاننا الانفعالى، وصحتنا النفسية، وحتى لو كانت الدموع دليلاً على الضعف فإنه خير لنا أن نبكى ضعفاً من أن نموت كمدا.
حواشي المراجع:
1) تفسير وبيان مفردات القرآن مع فهارس كامل – د. محمد حسن الحمصى – دار الرشيد – بيروت – 1984.
2) حياة الصحابة – محمد يوسف الكاندهلوى – المجلد الثالث – دار المنار للطبع والنشر – القاهرة – 1997.
3) رياض الصالحين – أبى زكريا النووى – دار المأمون للتراث – بيروت – 1989.
4) طوق الحمامة فى الإلفة والألاف – ابن حزم الأندلسى – تحقيق د. الطاهر أحمد مكى – دار المعارف – القاهرة – 1993.
5) فى رحاب التفسير – عبد الحميد كشك – الجزءان 16،25 – المكتب المصرى الحديث – القاهرة – 1981.
6) مشكلات وصور نفسية – د. عبد العزيز القوصى – دار المعارف – القاهرة – د.ت.
7) معجم الأعلام والموضوعات فى القرآن الكريم – د. عبد الصبور مرزوق – دار الشروق – القاهرة – 1995.
من نفسى - أنيس منصور – مهرجان القراءة للجميع – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1994.
9) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – ابن الجوزى – تحقيق د. على محمد عمر – مهرجان القراءة للجميع – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 2000.