بشّار بن برد
كان بشار بن برد بلقّب بالمرعّث و يكنّنى بأبي معاذ . و هو فارسي الأصل ورد له في الأغاني نسب طويل به ستّة و عشرون جدّا، أسماؤهم أعجميّة تبتدئ بيرجوخ و تنتهي بلهراسف .و أبوه برد و هو من قنّ ( عبيد ) خيرة القشيريّة امرأة القائد المشهور المهلّب بن أبي صفرة . ووهبت خيرة بردا – بعد أن زوّجته – لامرأة من بني عقيل كانت متصلة بها ،فولدت له امرأته – و هو في ملك العقيليّة – بشّارا فأعتقته فأصبح بشّار عقيليّا بالولاء و بحكم النشأة في بني عقيل .
ولد بشّار أعمى ، فما نظر إلى الدنيا قطّ .و قد أثّرت آفة العمى في حياته و رسمت معالمها فتوجّه إلى حلقات العلم و الشعر صغيرا ينهل منها ، يقول :
عَميتُ جنينا و الذكاء من العمى *** فَجئتُ عجيبَ الظنّ للعلم مَعْقلاَ
و غاض ضياء العين للقلب فاغتدَى *** بقلب إذا ما ضيّع النّاسُ حصّلا
و شعر كنور الرّوض لاءمتُ بينه *** بقول إذا ما أحزن الشعرُ أسهلا
و قد أعانته نشأته في بني عقيل على أن يتمثّل السليقة العربيّة ، فجرى الشعر على لسانه جريانا ، و أذعنت لسلطانه القوافي ، و ملأ البصرة هجاء ( و هو أولّ غرض نظّم فيه بشار ) ، و غزلا و مدحا . و روى الأصمعي أنّ بشّارا كان ضخما ، عظيم الخلق و الوجه ، مجدورا ( بوجهه أثر الجدري ) طويلا قبيح المنظر ولد أعمى . و حسب ما روي في الأغاني فإنّ بشارا كان يرى نفسه جميلا أي عكس ما هو عليه من قبح لكنّ شعوره الحقيقي بالنقص كان يظهر في تبرّمه بالنّاس ، فقد روى الأصمعيّ : أنّ بشّارا من أشدّ النّاس تبرّما بالنّاس ، و كان يقول الحمد لله الذي ذهب ببصري . فقيل له : و لمَ يا أبا معاذ ؟ قال : لألا أرى من أبغض .
و هذا التبرّم بالنّاس جعل بشارا منذ صغره مستعدّا استعدادا نفسيّا للهجاء لذلك مال إليه و أكثر منه حتّى اشتهر به . قيل لبشّار إنّك لكثير الهجاء . فقال : إنّي وجدت الهجاء المؤلم آخذ بضبُع الشاعر ( عضده ) من المديح الرائع ، و من أراد من الشعراء أن يُكْرمَ من دهر اللئام على المديح فليستعدّ للفقر و إلاّ فلْيبالغ الهجاء ليُخافَ فيُعطى ، لذلك كان هجّاء خبيث اللسان تهاجى مع شعراء عصره أقذع الهجاء ، و هجا الكثيرين من رجال الخّاصة و الدولة العبّاسية كأبي جعفر المنصور و ابنه المهدي و الوزير يعقوب بن داود و حينما بلغ الهجاء إلى الوزير رفعه إلى المهديّ مكتوبا لأنّه رفض إنشاده .
و هو شاعر من مخضرمي الدولتين : الأمويّة و العباسيّة ، مدح الكثير من رجال الدولتين ، و كان شعره متعدّد الأغراض ، سريع الانتشار . قال نجم الدّين ابن النّطاح : " عهدي بالبصرة و ليس فيها غزل و لا غزلة إلاّ و يروي من شعر بشّار ، و لا نائحة و لا مغنّية إلاّ تكتسب به ، و لا ذو شرف إلاّ و يهابه و يخاف معرّة لسانه" .
و كان شديد الحيوانيّة من أصحاب ذلك المزاح الذين يغلب عليهم اللهو و الفجور و الشّغف باللّذات و الملاهي و ما تسوّله غواية اللحم و الدّم و تغري به المطالب الجسديّة و الشهوات الحسّية ، فما كان له أن يطيع طبيعته الحيوانيّة و ينغمس في ذلك التّيار الذي تدفعه إليه ، و لكن أنّى له بذلك و قد وُلد أعمى و ليست مجالس اللهو و المُجون ممّا يليق بالعميان و أصحاب الآفات و لا هي بالموضع الذي يزاحمون فيه أهله فيُفلحون في الزّحام ؟ فكيف تراه يصنع ؟ أيقهر طبيعته حَذَرا من العبث به و السخرية منه و إيثارا للوقار الذي يجمُلُ بنكبته و التديّن الذي يطمئنّ به إلى مصيبته ؟ ذلك وجه ٌ قد يخطر له لو كان حبّ الوقار و الكرامة أرجح لديه من لذّة القصف و الدّعابة ، و لو أنّه وُلد كالمعرّي في بيت التقوى و العلم و نشأ منذ طفولته نشأة مهيّأة للدرس و التّوقّر لجاز أن يكبَحَ نفسه و لكنّه نشأ في بيئة أهون شيء عليها الوقار و الكرامة ...فطبيعة بشار و تربيته قد أرادتا به أن يكون كما كان ماجنا خليعا مُستجيبا لشهوات الحسّ و مطالب الجسد ....
و قد كان غزل بشار وصفا للذّات الحسّ التي يباشرها أو يشتاق إليها و كان حبّه حبّا "للنساء" لا لا حبّا " للمرأة " .
و قد أخذ الحسّ عند بشار مكان الخيال و أغراه فقْدُ البصر باستحضار ما فاته من " المحسوسات " التي لا يقنع بها المبصرون ، فإذا طمح المتغزّلون الذين يُشبهونه في الذّوق و المزاج إلى سمة معنويّة مُحلاّة بزينة الخيال يخلعونها على الصور المنظورة و الملامح المألوفة – فحسبه هو أن يطمح بوهمه إلى ما وراء السّمع من محاسن العيان التي حُجب عنها ،و أن يجعل تلك الصور المنظورة و الملامح المألوفة أقصى شأو الظنون و غاية شوط الخيال فلا يُخرجه التّوهّم عن حيّز الحواسّ و إن غلا فيه و أبعد الرحلة في بواديه .
و من هنا ترى أنّ مكان " المحاسن المتخيّلة " من شعر بشّار قد خلا و صفر إلاّ من فلتات قليلة يقلّد فيها غيره على السّماع و لا يعتمد فيها على الشّعور و الابتكار ، و شغل ذلك المكان كلّه بتصوّر الألوان و الأصباغ و اشتنشاق الروائح و الطيوب فكان لا يشبّب بامرأة إلاّ تخيّلها في ثيابها و وشيها و لون بشرتها و صبغة ما عليها من الزينة و الحُلي . و هو القائل :
و حوراء من حور الجنان غزيرة *** يرى وجهه في وجهها كلّ ناظر
و الحقيقة أيضا إنّ الصورة الشعرية عند بشار قد بلغت حدا كبيرا من الروعة لاحتوائها على تفاصيل دقيقة و استقصاء صاحبها لعناصر التجسيم و التصوير . هو لايترك الصورة دون أن يلحّ عليها بريشة فنان أصيل يضع كلّ لون في موضعه و لا ينسى أدقّ الأشياء و أهونها . و لعلّ بشارا بهذا الاستقصاء في التصوير قد فتح المجال لابن الرومي الذي يعدّ شاعر العروبة الأول في ناحية التصوير الشعري .
و ظلام عيني بشار ، و عدم إدراكه للمحسوسات كان يدفع به إلى الإلحاح على الصور الحسّية إلحاحا يطاد ينطقها ، و يجعل من خيالها حقيقة يلمسها الانسان بيديه و يراها بناظريه ، فهو إن كان مظلم العينين إلاّ أنه – كما يقول – مضيء القلب كناية عن رقّة شعوره و حساسيّته :
قد أُذعرُ الجنَّ في مسارحــها *** قلبي مُضيءٌو مقْولي ذَربُ
و قد قال أدونيس في " مقدّمة للشعر العربي ص 42 :" فطن بعض النقاد العرب إلى أهمّية شعر بشّار ، فقالوا عنه إنه قائد المحدثين و إنّه أوّل المولّدين . لكنّهم لم يلاحظوا من حداثته و توليده إلا أنه أغرب في التصوير ، أي جاء بتشبيهات لم تكن مألوفة عند الأولين ، و هذا يعني أنّهم أدركوا بعض الشيء الأهميّة الشكليّة في شعره ، و لم يدركوا أنّه سيفتح للشعر العربيّ آفاقا جديدة . ذلك أنّ بشارا يتناول في جوابه أصوليّة الشعر العربي ، إنّه يزعزع مفهوم الطريقة الشعريّة الموروثة و يشكّك في ثباتها
المراجع:
العقّاد مراجعات في الأدب و الفنون
محمّد مصطفى هدارة " اتّجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري