د.محمود العشيري
عدد الرسائل : 3 العمر : 54 الجنسية : مصري تاريخ التسجيل : 17/09/2008
| موضوع: المُوَكل برسالة الحُزْن(1)- دراسة في ديوان لقطات من حزن قديم- بقلم: د.محمود العشيري السبت 27 سبتمبر 2008, 3:42 am | |
| المُوَكل برسالة الحُزْن قراءة في ديوان: لقطات من حزن قديم للشاعر: حاتم مرعي(*) د.محمود العشيري”الحزن ما بقالهوش جلال يا جَدَع الحزن زي البرد .. زي الصداع“هكذا أخذ يكتب حاتم مرعي لقطات حزنه القديم الذي يتسع كما عند الجد صلاح جاهين ليشمل الحياة، وليربط بين الناس في تجربة واحدة لها وجوهها المتعددة. والديوان إفصاح عن نغم إنساني ذاتي يكتب فيه حزنه الخاص بما هو في النهاية حزن المجموع وتجارب الآخرين. ويمد الديوان بشكل موضوعي، وتقني في بعض الأحيان أسبابًا من الوصل مع "بيـرم التونسي" و "فؤاد حداد"، إذ يأخذا عنوانين لقصيدتين أحداهما، القصيدة الأولي في الديوان. ولعلني أقرأهما كما أقرأ بقية قصائد الديوان بوصفهما (إشارة إلى كتابته بوصفها فعلاً للتضامن مع آبائه في الكتابة)، وليس هذا من قبيل النسخ أو التكرار ولكنه الشكل الذي يراه موصولاً بأزمات الإنسان والمجتمع. (هذا الشكل الذي ربما تحقق في بقية الديوان أكثر من تحققه الفعلي في هاتين القصيدتين). إنه لا يكتب نفس الأفكار أو نفس الموضوعات، ولكنها قد تكون نفس الهموم بصورها الجديدة. قد لا يعود إلى نفس المواصفات الجمالية التي يعود إليها كل من "بيرم" و "حَدّاد"، ولكنه قد يتفق معهما في استخدام لغة محّملة بنفس القَصْديّة العميقة التي تحركه نحو نفس المبادئ والتوجهات حتى وإن تباينت الأساليب. وهذا الانتماء إلى عُمْقَ نفس القصدية مع آبائه الشعريين لا يحول بالطبع دون تكوين أسلوبه، عزلتِه، روعته الخاصة، وهو ما يُجَسّده الديوان كاملاً كنصٍّ واحد، كلقطاتٍ من حزنٍ قديم. وهو حزن ليس خاصًا بما له من وجوه، ولكنه حزن خاصٌ بصوره ومفارقاته، بتراكيبه، بعُمْقه الشخصي، بدَفْقه، باختياره الكتابة بالنثر أحيانًا. وهو في كُلٍّ لم يخرج على عمق المقصديّة، لأنه لم يخرج على أفق اختيار المجال الاجتماعي الذي تقف فيه لغته. (ومن هنا فهو يكتب أحيانًا قصيدة نثر دون أن يكون من "الجراد" مثلاً لأنهم يتخذون اختيارًا ومقصدية مختلفة في مجالهم الاجتماعي تختلف عن مقصدية هذا الديوان). يستلهم حاتم مرعي أدائيات العامية وزخمها الصوفي، ورصيدها الوفير في هذا الإطار في صياغة قصيدته "باهرب بروحي والقدم ثابته". ولا يخفى شوق العنوان إلى التحليق بكتابة خاصة غير مقطوعة الجذور عن أصولها. وتقوم القصيدة على (التداعي المُقَدّر) للُجَمل بناءً على علاقة مشابهه صوتية بين كملمات القافية (كلمة نهاية السطر) وكلمة أخرى تأتي في بداية السطر التالي تتعالق معها صوتيًّا بشكل من أشكال الجناس؛ التام أو الناقص. ولأن كلاًّ من المفردتين لهما منحى دلالي مختلف فأن الشاعر ينتقل بجملة الجملة الكلمة الثانية لمعنى يكاد لا يتصل بالمعنى السابق عليه. وكأن هذا التشابه الصوتي موطئ لاختلاف دلالي وموضوعاتى كبيرين. ولكن أمام هذه القوى الطاردة التي تعمل في طريق التنافر يبدو الفن في الإلماح إلى ارتباط بعيد، يبدو من لازم المعنى أكثر من بُدُوه من المعنى نفسه أو رموز بذاتها. يبدو الفن من أن هناك مركزًا بعينه يقف خلف النص ويحكم هذه التداعيات. ومن هنا جعلنها (تداعيات مُقَدَّرة). وبهذه الصياغة التي تقوم على اللعب اللفظي تتحرك القصيدة بين (الجيش والجبهة) بما هي إشارة للوطن والحماية وإشارة للإبداع والمرابطة في حيز القصيدة بموروثها الصوتي الذي يُعَبَّر عنه بـ(ثبات القدم) في العنوان. وكذا تتحرك بين (فرحة البسطاء بالعيد ورمضان والسحور) بما لكلٍّ من رصيد شعري شعبي فردي وجماعي أيضًا. وكذا يتحرك بين كل ذلك وبين (القهوة والسهر) بما هي تجربته الإبداعية الثانية في رؤية العالم والإحساس به. على أن مسافة الفجوة الدلاليّة بين الجمل والعبارات هي إنجاز القصيدة الأكبر؛ إذ تضعف كثيرًا قوى الارتباط الدلالي بين الجمل بما يفتحها أكثر على خلق أشكال متعددة من الارتباطات يجر فيها كل شكل طائفة من الموضوعات والعلاقات مما يزيد النص ثراءً. يقول مثلاً: ”كل العساكر هربانين م الخدمة وأنا أي خدمة للصحاب أتمنى الجنة أبعد من أنين البحر والسحر في حجاب القهاوي بيصْدُف زي الصدق وسط الحواري السد“ (ص35). - هذه البساطة التي تقرر هرب العساكر من الخدمةربما تستبطن في حشاها إدانة الهزيمة وإدانة السلطة بتفريطها في واجباتها، عندما تتكشف عن عمقٍ آخر للعبارة تقاعست عنه القيادة: "سهرو العساكر بره سلك الميري". - ويُشَتّت السياق أكثر بالسطر الثالث الذي يُقْضي الجزاء والوَعْد في اللحظة التي يُلَوِّح فيها به. ولا تكاد ترتبط الجملة بشخوص بعينها، بل هي تصيب الجميع كُلاًّ بحسب قُرْبه أو بُعْده مما ترسيه القصيدة من قيم إيجابية أو تخاذلٍ تفضحه. وكما يرمي المقطع- كما ذكرنا- على الوطن يرمي على الإبداع بجامع (المرابطة) بينهما، فيُثْبت الإبداع الذي يَتَفَجَّر بين (صُحْبة القهوة) وينْذره للنُّدْره "زي الصدف وسط الحواري السَّدّ". وهنا تعود (الجنة) السابقة، التي هي أبعد من أنين البحر لترمي بظلالها على هذه الندرة، لتكون أيضا الحلم المثالي بالقصيدة الكاملة. وعلى هذا النحو انتقلت القصيدة من (الخدمة) بمعنى القيام على الحراسة إلى (الخدمة) بمعنى المعروف. ومن الفعل أتمنى إلى (الجنة)، ومن (البحر) إلى (السحر)، ومن الفعل (بيصْدُف) إلى الاسم (الصَّدَف). إن التداعياتِ تظل رغم تشظيها الظاهري قادرةٌ على الانطواء في معنى، واللعبة التي ظاهرها هزل تنطوي على جَدَّ وغَمٍّ لا يَلْبَس إلا ثوب السخرية المُرّةَ. ”ده يوم ده ولا ليلة بسنينها طالع تسانها م القدم للباط ذرات تراب حلت رباط القايش شعلقت قلبي فوق جناح طيّارة حتى السيجارة نَفَسْها مش طالع“ (ص37) إن العمر الذي يمر تختزله القصيدة في لحظة ضائعة، إنه يتوقف بلحظة الهزيمة في صورة تَقْضِي من الكائن على كل معالمه ولا تُبْقي إلا على لسانه المُشْرَع استهزاءً وسخريةً بالضعف الذي هزمته ذرات التراب. والنَّفَس المهدود والحُلْم الساذج هما معالم هذه الأزمة ومقومات الهزيمة. وبعيدًا عن هذه الخيوط التي تمتد بين دلالات السطور تبدو الجُمَل استسلامًا للتشابه الصوتي بين: (سنينها- لسانها)، (الباط- ذرات- رباط)، (القايش- شعلقت)، (طيارة- سيجارة). ولكن ليس كل تشابه صوتي بين كلمة القافية وأول كلمة في السطر الثاني أو التي تليها من هذا القبيل، أو يعتمد نفس الآلية، ففي مواضع أخرى تأتي العلاقة بينهما علاقة صوتيّة معتادة لا تأخذ هي بصنعتها موضع الصدارة قدر ما تُدْخل الكلمات المتشابهة في علاقةٍ ما بالتوازي أو التضاد أو التخالف... إلى أخره. نحو: ”السيرك اللي جوايا بينَفَضّ وبانْفُض إيدي م اللعبة الساقطة واللقطة المتعادة“ (ص52).
أو: ”ألعب لوحدي بالحروف من خوف بيسرق نقشة الحنه لجنة بتقاريض على الدخول بالشقا“ (ص26). والعنوان "لقطات من حزن قديم" يأخذ في الديوان دلالتين مختلفتين؛ الأولى دلالة تتصل بطبيعة قصائد الديوان ككل، وعلى التحديد هذا اقسم الثاني من الديوان الذي يأخذ عنوان: "كراكيب وهزائم"، ليكون الديوان لقطات عِدّة للحزن متعدد الوجوه، منها ما يتصل بالأنثى أو بالإحباط أو بالعجز أو بالفشل أو بالزمن. والدلالة الأخرى مُتَحصّلة من القصيدة التي تأخذ نفس العنوان، ومن كثير من الصور الاستعارية التي يُعَبَّر من خلالها عن الحزن. حيث تأخذ اللقطة طابع العرض التخييلى عبر الشاشة بما يحيل الحزن إلى تكرارية المشاهد واستهلاكها، وربما أحيانًا سلعيتها. فلا تأخذ صفة الِقَدم دلالتها الزمنية الخاصة قدر ما تعبر عن استياء لحظي. فحزنٌ قديمٌ مثل "مرض قديم" عضال، مزمن. وهو أيضًا قديم مثل "فيلم قديم" (ماسخ) مكرور. لقد تحول الحزن إلى (آليّة) تَضْحَى معها الدموع إشارة مستهلكة يُعاد بَثّها، أو ربما تأخذ طابع السلعة بما لها من وضع استهلاكي لحظي: ”مش هيه دي الدمعة القديمة ولا اشتريتها جديد مع أول الصيف اللي ما بيجيش“ (ص51). وهذه العلاقة السِّلَعِيّة تفضل الحزنَ عن البشر، إلا بعلاقة الاستخدام الوقتي: ”عاوز أحزن من تاني بس يكون الحزن أكبر منِّي بنمرة عشان إخواتي من بعدى“ (ص51). إن إعادة الحزن مستحيلة، لأن الحزن لم يَعُدْ أصيلاً، وكل محاولات إنقاذه من طابع الاستهلاك فاشلة. كل ما أصبح المرء يستطيعه هو أن يستسلم مقهورًا لطابعه السلعي راضيًا بقوانينها. وليس الحزن وحده صاحب هذا الامتياز السلعي فالضحك أيضًا صار كذلك: ”عاوز أضحك ضحكة تكون مضبوطة علىًّ السيرك اللي جوايا بينفضّ وبانْفُض إيدي م اللعبة الساقطة واللقطة المتعادة“ (ص52،51). والسيرك أحد وجوه التمثيل التي تشترك في تقديم الكذب والهزل الذي يميت الضحك، يميت الفَرْح المقابل للحزن باصطناعه وتكراره. وتُقَدِّمُ القصيدةُ اشتباكَ عالَمَيْن؛ عالمٍ تمثيلي تخييلي هو عالم السينما، وآخر فعلي واقعي. ومن اشتباكهما معًا والتنقل بينهما تتفجرّ قوى النص في تقديم الحزن الذي يقف في المسافة بين الواقعي والتمثيلي. فتشهد القصيدة مفارقة طرفها الأول "الواقعي" ممثلاً في (الإقبال على الحياة): "كاتب اسمى ع الساعة والولاعة وتراب الكرسي..."، والطرف الآخر التمثيلي؛ (موت الحلم بضياع البطلة). فيتواصل ما هو واقعي نفسي مع ما هو تخييلي. وما يدفنه في السِّرّ يكشفه نزيف الحزن ويعرضه على الصالة في (فُرْجة ثانية) داخل السينما. أحزن في سري واسأل مين اللي بيبطح أحلامي ويسدها بالبن المغشوش الحزن بينزف وما عدش في بير بقى زي لبانة في كراسي الصالة بتدوس عليها الرجول الهربانة ورايا م الفلكة وعيون النظر والحصص الفالصو“ (ص53،52). الحُزْن السِّرّ يُعْرَض، يَنْتَهِكُه الإشهار ويبتذله، وتتحول الذات بحزنها وألمها إلى رؤية تخييلية تشاهدها الجموع بكل سلبّية. وعند هذه اللحظة الحاسمة في تداخل السياقين الواقعي والتخييلي يمتزج الهروب الواقعي اللحظي بالاسترجاعي الطفولي بعيدًا عن قهر الناظر وسائر البشر. فهو ممزق في كلا السياقين: ”وأنا راجع للبيت مهزوم بألحق أول تروماي واتشعبط من غير الحلم اللي نسيته بينزف“ (ص54). فما هو واقعي مهزوم، وما هو تخييلي "بينزف". والتخييلي الذي كشف النص عن تَعَلّقٍ دفينٍ به، وعن كونه مرادفًا لمعرفة الذات بناءً على تما هيها معه: ”وانفد بجلدي ع الفيلم اللي مالوش عنوان ولا قصة وما فيهش مناظر واهرب من أول لقطة في العرض الأخراني“ (ص54). فالهروب هنا (من/ إلى) (الواقعي/ التخييلي)؛ فالفيلم المُمَلّ المكرور يمثل منجاةً من الواقع، فرغم أنه مُوَكّل برسالة الترسو يهرب من أول لقطة في العرض الأخير. ولكن ترتيب العرض وتوقيت الهرب يوحيان أنه يتحدث عن (الحياة)، عن الواقعي. بل إن الذات في قصيدة أخرى وهي في الواقع تفيق- بعد اثنين وعشرين سنة لتجد نفسها أنها كانت في قلب التخييلي: ”بارفع عيني في شاشة الحيطة وباستكين للفُرْجة اثنين وعشرين سنة“ (ص57). | |
|
د. مصطفى عطية جمعة مشرف قسم دراسات وآراء في النقد الأدبي
عدد الرسائل : 183 العمر : 55 الجنسية : مصري تاريخ التسجيل : 08/06/2008
| موضوع: رد: المُوَكل برسالة الحُزْن(1)- دراسة في ديوان لقطات من حزن قديم- بقلم: د.محمود العشيري السبت 27 سبتمبر 2008, 11:19 pm | |
| أهلا وسهلا بالدكتور / محمود العشيري فنحن في غاية السعادة بانضمام ناقد مميز مثل الدكتور محمود إلى منتدانا ، ونسعد بقراءاته النقدية للنصوص أو للكتب بأشكالها المختلفة . واسمحوا لي أن يكون تعليقي في الجزء الثاني من الدراسة . تحياتي وتقديري | |
|