عندما يرثي نيتشه نفسه..
هاشم صالح- الأوان
هناك كتاب صغير لنيتشه نادراً أن يذكره أحد، على الرغم من أنه الوحيد الذي يتحدث فيه عن حياته الشخصية. وبالتالي فهو يشبه السيرة الذاتية. إنه كتاب رائع يتخذ العنوان التالي: "هذا هو الإنسان. كيف يمكن أن تصبح من أنت". في هذا الكتاب ذي الأسلوب الشاعري الذي لا يضاهى، يلقي نيتشه نظرة إلى الوراء، على مساره السابق، لكي يقيّم أعماله ومنجزاته. وقد كتبه قبل أن يصاب بالجنون ببضعة أشهر فقط. ولم ينشر الا بعد موته بثمان سنوات: أي عام 1908.
في الواقع إن علائم الجنون تتبدّى على الكتاب بين الحين والآخر، وبخاصة عندما يعظّم نيتشه من نفسه إلى أقصى الحدود، في حين أنه كان ينبغي أن يترك هذه المهمة للآخرين.. فهو يفاجئك بعبارات أو شطحات تدل على جنون العظمة، ما كانت معروفة لديه سابقاً، أو قل ما كانت معروفة بمثل هذا الشكل والحجم. يحصل ذلك كما لو أنه كان قد اقترب من منطقة الخطر الأعظم وأوشك على السقوط في فوهة الهاوية.
عندما قرأت هذا الكتاب لأول مرة قبل بضعة سنوات، وكنت مستلقيا على السرير، كدت أقوم وأقعد من شدة الفرح والاستمتاع، أو من شدة الضحك والهيجان، أو من الاثنين معاً.. لقد هزَّني هزاً لأني لم أر في حياتي أسلوباً بمثل هذه الروعة والقوة. لست بحاجة لأن تلجأ إلى المتنبي أو بودلير، أو رامبو، لكي تشبع نفسك بالشُّحن الشعرية إذا كنت متعوداً عليها منذ الصغر..
إذا كان يطربك الفن وينقصك سحر البيان أو"لذة النص" كما يقول رولان بارت فإني أنصحك وأنصح نفسي بقراءة كتاب نيتشه هذا. وأنا أضمن لك بأنك لن تكل ولن تمل مهما جالسته وعاشرته، بل وربما طلبت المزيد وأسفت عليه لأنه انتهى. وكل كتاب سوف ينتهي لا محالة بصفحة أخيرة. منذ بضعة أيام شعرت بالحاجة إلى "الإشباع الشعري" فعدت إلى الكتاب من جديد وأطربني كما أطربني منذ عشر سنوات أو يزيد. وقلت بيني وبين نفسي: يحيا الأسلوب! يحيا الفنان! يحيا فريديريك نيتشه! نعم إني أحب الكتَّاب الذين يعرفون كيف يكتبون ويحلّقون في الأعالي. ولكن كم هو عددهم أولئك الذين يرتفعون بك إلى قمة القمم؟ ألا يعد أشباه نيتشه في التاريخ على أصابع اليد الواحدة، أو ربما اليدين؟ هناك دوستيوفسكي بالطبع، وجان جاك روسو، وإن بشكل آخر... وبعض الآخرين.
على أي حال إذا ما اقتصرنا على ذكر الفلاسفة، فإني لا أعرف فيلسوفاً واحداً يستطيع أن يضاهي نيتشه من حيث جمال الأسلوب. أقول ذلك وأنا اتحدث عن الترجمة الفرنسية، فما بالك بالنص الألماني ! هناك فلاسفة كبار ومحترمون جدا، ولكن أسلوبهم وعْر وجاف يكاد يقتلك قتلاً. أذكر من بينهم كانط في الماضي أو هابرماس في الحاضر على سبيل المثال لا الحصر.. إن نيتشه هو القطب المضاد لذلك تماماً. هل يمكن القول بأن نيتشه هو شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء؟.. بدون شك. كما قالوا ذلك عن المعري سابقا أو كما وصفوا التوحيدي بأنه أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء؟.
أعجبني كتاب نيتشه إذن لأن فيه نغمة محبَّبة، نغمة شجية مليئة بالحزن والعظمة أحياناً، ثم بالسخرية والتهكم أحيانا أخرى.فعلى الرغم من انه مفكر تراجيدي إلا انه قادر على السخرية حتى من نفسه ومن البشرية بأسرها.. انه يصعد بك إلى الأعالي ثم يهبط بك فجأة إلى أسفل سافلين ويتلاعب بك كيفما شاء. وشعرت وكأنه يرثي نفسه منذ أول صفحة، شعرت وكأنه يستأذننا بالانصراف ويقول: وداعاً. وداعاً لقد تعبت وأديت مهمتي.. ولكن هل كان يعرف انه سيجن بعد بضعة أشهر أو حتى بضعة أسابيع؟ مهما يكن من أمر فإنه في الوقت ذاته يصبُّ علينا، أو قل على معاصريه، جام غضبه وتوبيخه إن لم يكن نفاد صبره لأنهم لم يعرفوه.
فنيتشه لم يشتهر في حياته على عكس ما نظن، ولم يسمع به أحد تقريبا خلافا لدوستيوفسكي، أو لروسو، أو لغوته الخ... نيتشه لم يستمتع بشهرته على الإطلاق ولم ينل أي شعبية في حياته. كتاب الدرجة الثانية أو الثالثة كانوا معروفين ويحظون بالأبهة والعظمة وهو مغمور تماما. وهذا شيء لا يكاد يصدق الآن..أكبر كاتب في اللغة الألمانية عاش ومات دون أن يشعر به أحد تقريبا!هل هذا معقول؟ لنستمع إليه يقول منذ الصفحة الأولى:
"بما أني نويت أن أوجه للبشرية خلال فترة قصيرة أكبر تحدٍ شهدته في تاريخها كله، فإنه ينبغي عليَّ أن أقدم نفسي، أن أقول من أنا. من أنا في نهاية المطاف؟ في الواقع إنه كان ينبغي على الناس أو يعرفوا من أنا لأني لست من أولئك الذين عاشوا أو ماتوا دون أن يتركوا شهادة أو أثراً على مرورهم فوق هذه الأرض. ولكن التفاوت الهائل بين عظمة مهمتي وصَغَار معاصريّ تجلى في الحقيقة التالية: وهي أن أحداً لم يسمع بي ولم يرني! أنا أعيش فقط على الرصيد الذي أوليه لنفسي، على إيماني بذاتي. وربما كان وجودي ذاته عبارة عن وهم؟ أنا شخص غير موجود على الإطلاق ! يكفي أن أتحدث مع أي "مثقف" ألماني يجيء إلى سويسرا حيث أقيم لكي أتأكد من أني غير موجود أبداً. لا أحد يسمع بي. لا أحد يعرف من هو فريديريك نيتشه!... ولذلك فإن من واجبي أن أقول لكم محذرا: اسمعوا أيها الناس: فأنا كذا وكذا، ولست كذا وكذا. إياكم ثم إياكم أن تغلطوا فيّ أو تخلطوا بيني وبين أي شخص آخر!"
عندما كتب نيتشه هذا الكلام، هل كان يعرف مسبقاً أنهم سيفهمونه خطأ؟ هل كان يعرف أنهم سوف يفسرون كتاباته في اتجاه غير الذي يريد؟ هل تنبأ بالأحداث التالية قبل حصولها؟ في الواقع إن هذا ما حصل لاحقاً مع الحركات النازية والفاشية. ومعروفة قصة هتلر حيث حاول بكل الوسائل السطو على شهرته بعد أن مات. ومعلوم أنه زار بيت الفيلسوف وانحنى أمام صورته أو تمثاله وسلم على أخته اليزابيت التي كانت قد بلغت من العمر عتيا والتي كانت نازية بالفعل. وقد أهدته عصا أخيها التي كان يستخدمها في نزهاته الطويلة في أحضان الطبيعة. ومعروف أنه كان مشاء كبيرا في الوديان والجبال. وكان ذلك أكبر خيانة لهذا المفكر العملاق الذي قد نختلف معه في أشياء كثيرة، ولكن لا يمكن أن نشك لحظة واحدة في حبه للحقيقة. صحيح أن أسلوبه ناري، بركاني، يشبه انفجار المكبوت الصادر من أعماق الذات. وربما كان هتلر في خطاباته النارية يجسد هذا التوتر النيتشوي. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
وصحيح أن ذلك قد أدى إلى سوء تفاهمات عديدة وساعد على فهم فكره في الاتجاه الخطأ. ولكن نيتشه ذهب إلى أساس الأشياء في مساءلة الحقيقة، في الدوران حولها والبحث عنها، وهذا شيء لا نتوقع أن يفهمه شخص كهتلر أو سواه من الهمجيين.. يضاف إلى ذلك أن نيتشه لم يكن عنصريا جرمانيا على الإطلاق. بل طالما هاجم الألمان وندد بهم ودعا إلى التهجين بين الأعراق والشعوب من أجل التوصل إلى عنصر أفضل: إلى السوبرمان. كما وركز على مفهوم إرادة القوة والهيمنة واعتبره محرك التاريخ السياسي للأمم والشعوب بل وحتى للأفراد. هذا في حين أن كارل ماركس قال بان صراع الطبقات هو محرك التاريخ، وفرويد قال بأن الليبيدو أو الغريزة الجنسية هي الدافع الأساسي والمحرك..
وربما كان أعمق مفكر شهده تاريخ الفلسفة فيما يخص طرح الأسئلة الكبرى على الوجود البشري ومعنى الحياة والموت والصيرورة والغائية الأخيرة، الخ... ولكن للأسف الشديد فان بعض صياغاته الحامية ضد الضعفاء أو الفقراء أو المرضى أو حتى ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان وجوهر الحداثة التنويرية قد ساهمت في تسهيل الاستيلاء على أفكاره من قبل هتلر والنازيين أو موسوليني والفاشيين. وبالتالي فليس هدفي هنا أن أدافع عن نيتشه بأي شكل..إني أعرف أن بعض أفكاره غامضة أو ملتبسة أو حتى مشبوهة وبخاصة عندما يهاجم سقراط أو المسيح ذاته بكل عنف، وكذلك كانط وهيغل وكل التراث العقلاني للفلسفة الأوروبية. ولهذا السبب صنفوه في خانة الفلاسفة اللاعقلانيين بل وأول مفكري فلاسفة ما بعد الحداثة التي أنجبت لا حقا هيدغر وفوكو وديلوز ودريدا وجان فرانسوا ليوتار الخ... وشكل بذلك أول انقلاب على الحداثة الليبرالية الديمقراطية التي طالما تعب جون لوك وكانط وهيغل وعشرات غيرهم في تأسيسها والتي تشكل مفخرة الغرب بالقياس إلى كل الشعوب.
وإذا ما أجبرت على الاختيار بينه وبين كانط أو جان جاك روسو فاني سأختار كانط وروسو بدون أدنى تردد. فنيتشه يخيفني بل ويرعبني بتطرفه واحتقاره للشعب أو "للقطيع" وتمجيده للارستقراطية والنزعة النخبوية. ولكني لا أستطيع أن أقاوم جاذبية أسلوبه وتفكيكه لكل الانغلاقات العقائدية. هنا لا يجاريه أحد.. لنستمع إليه عندما يحلِّق عالياً:
"من يعرف كيف يتنفس هواء كتاباتي يعرف أنه هواء الأعالي، هواء لاذع يعضّ.. وينبغي على المرء أن يكون مهيأً له، وإلا فإن الخطر عظيم في أن يصاب بالبرد... الصقيع اقترب، والوحدة مرعبة: ولكن كم تبدو الأشياء فيهما رائعة وهي تسبح في بحر من الأنوار!... وكم يستطيع المرء أن يتنفس فيهما بحرية! وكم من الأشياء تشعر وكأنها تحتك!".
ثم يصل إلى الفلسفة وكيف يفهمها ويمارسها ويقول:
"الفلسفة كما كنت قد فهمتها دائماً وعشتها تعني أن تعيش في الصقيع فوق القمم... إنها تعني أن تبحث في الوجود عن كل ما يجعلك تغترب عن نفسك وتطرح أسئلة على ذاتك ويقينياتك الحميمة. إنها تعني البحث عن كل ما حُذِف من قبل الأخلاق التقليدية. لقد اكتسبت تجربة طويلة من خلال اقتحامي للمناطق الممنوعة المحرَّمة، من خلال توغُّلي في الأعماق والأقاصي، هناك حيث لا يذهب أحد ولا يغامر مخلوق قط.. وعندئذ اكتشفت الأسباب التي دفعت بالناس، وعلى مدار العصور، إلى تقديس هذا أو ذاك، وإلى رفعه إلى مرتبة المثال الأخلاقي الأعلى. وعندئذ أيضاً تبدت لي الحياة المخبوءة للفلاسفة على حقيقتها، وفهمت نفسياتهم وشخصياتهم. واكتشفت فيما بعد أن المعيار الحقيقي للقيم هو التالي: كم هو مقدار جرعة الحقيقة التي يستطيع فيلسوفٌ ما أن يتحملها، أن يخاطر بها أو من أجلها؟ هذا هو السؤال الأساسي، وكل ما عدا ذلك تفاصيل ثانوية..".
ما الذي يقصده نيتشه بهذا الكلام؟ وكيف يمكن أن نفهم هذا التعريف الغريب والمفاجئ للفلسفة؟
في الواقع إن نيتشه سمح لنفسه بأن يشك في كل شيء، وأن يدفع ثمن هذه الشكوك حتى انهار عقله أخيراً وجنّ. فقد شك في جميع العقائد التي توالت على البشرية منذ أقدم العصور وحتى وقته. وكشف عن طابعها النسبي أو التاريخي في حين أنها كانت تقدم نفسها كحقائق مطلقة، مقدسة، متعالية. هذا ما فعله مع الافلاطونية أولا ثم مع المسيحية ثانيا، هذه المسيحية التي تربّى عليها منذ نعومة أظفاره لأن أباه كان كاهناً بروتستانتياً وكذلك جده وربما جد جده. ومعلوم أنه كان يدعوها بأفلاطونية الشعب، أي أفلاطونية سطحية مبتذلة! ومعلوم أيضا أنه أعلن عن موت الإله المسيحي القديم في نص مشهور لا أعرف أجمل منه شكلا ولا مضمونا. انه نص مرعب بالمعنى الحرفي للكلمة ولا أعرف فيما إذا كان قد ترجم إلى العربية. والمقصود بذلك أن التدين المسيحي التقليدي قد انتهى في أوروبا بعد انتصار العلم والصناعة والفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر: أي في عصر نيتشه بالذات.
وبالتالي فإن نيتشه انخرط، بكل شجاعة وجرأة، في أكبر مغامرة فكرية: تفكيك الذات أو العقائد الأكثر حميمية وقدسية، أي العقائد التي كانت قد شكّلت الذات وهي لا تزال غضة، طرية، بعمر الورد.. هنا تكمن عظمة نيتشه: فقد خاض معركة الصراحة والحقيقة مع ذاته حتى آخر لحظة، حتى آخر قطرة، حتى آخر نقطة.. وهذا هو معنى كلامه: كم هو مقدار جرعة الحقيقة التي تستطيع أن تتحمّلها، أو تخاطر بنفسك من أجلها؟ لم يتجرأ مفكر آخر على تعرية العقائد السابقة او تفكيكها ونزع هالة القدسية عنها مثلما فعل نيتشه. لقد كان يتفلسف "والمطرقة في يده" كما يقول من أجل تحطيم الأوهام والأصنام المعبودة من قبل البشر أو التي نصبها البشر كأصنام ثم راحوا يعبدونها وكأنها تتعالى عليهم ، كأنها ليست من صنعهم. أنظر بهذا الصدد كتابه: غسق الأصنام أو أفول الأصنام.