بيروت بين سوزان عليوان ومحمد الماغوط..
سعد القرش
فى الحروب ينزع لبنان ثوبه المخملى وبعد انتهاء المعارك ينهض من الرماد ككائن أسطورى قادر على إثارة الدهشة مرتديا ثوبا آخر.
ودائما يكون الشعر أسبق إلى استشعار الخطر على بيروت كمدينة للأحلام فى نظر الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان أو كيان أشبه بجبال من النهود والأظافر كما يراها الشاعر السورى الراحل محمد الماغوط.
هكذا تبدو لبنان-بيروت فى ديوانين أحدهما كتب وصدر فى الآونة الأخيرة بعنوان "كراكيب الكلام" لسوزان عليوان والثانى " حزن فى ضؤ القمر" الذى كتب قصائده قبل نحو نصف قرن محمد الماغوط. وأعيد طبع ديوان الماغوط هذا الشهر فى سلسلة "افاق عربية" عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة.
وصدر ديوان الماغوط أصلا عام 1959 ويضم قصائد منها " جنازة النسر" التى يقول فى بعض سطورها ضمنى بقوة يا لبنان-أحبك أكثر من التبغ والحدائق-أكثر من جندى عارى القدمين يشعل بين لفافته بين الانقاض. ان ملايين السنين الدموية-تقف ذليلة أمام الحانات-كجيوش حزينة تجلس القرفصاء .
يرى الماغوط الذى توفى فى ابريل نيسان الماضى بلاده " تسير كالريح نحو الوراء" ولعل هذا التأويل يفسر كيف يبدو فى شعره مسكونا بالحزن إذ يقول أنه من قديم الزمان وهو يرضع التبغ والعار. وتبدأ قصيدته " حريق الكلمات" بما يشبه ابراء الذمة حيث يقول..سئمتك أيها أيها الجيفة الخالدة. لبنان يحترق-يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء... أيها العرب-يا جبالا من الطحين واللذة-يا حقول الرصاص الاعمي. تريدون قصيدة عن فلسطين-عن الفتح والدماء. .
فى القصيدة نفسها وفى مشهد احتجاجى نفذه فيما بعد الشاعر اللبنانى خليل حاوي" 1919 – 1982" يقول الماغوط " هنا.. فى منتصف الجبين-حيث مئات الكلمات تحتضر- أريد رصاصة الخلاص-يا اخوتي-لقد نسيت حتى ملامحكم-أيتها العيون المثيرة للشهوة-أيها الله.. أربع قارات جريحة بين نهدي-كنت أفكر بأننى سأكتسح العالم-بعينى الزرقاوين ونظراتى الشاعرة".
" لبنان.. يا امرأة بيضاء تحت المياه-يا جبالا من النهود والاظافر-اصرخ أيها الابكم-وارفع ذراعك عاليا-حتى ينفجر الابط واتبعني-أنا السفينة الفارغة-والريح المسقوفة بالاجراس... لا أشعار بعد اليوم-اذا صرعوك يا لبنان-وانتهت ليالى الشعر والتسكع-سأطلق الرصاص على حنجرتي" .
وكان حاوى قد شعر بالعار وهو يرى الاجتياح الاسرائيلى لبلاده ولم يجد أمامه وسيلة للاعتراض سوى الانتحار فصوب بندقية صيد الى عنقه فى الخامس من يونيو حزيران 1982.
وتقع الطبعة الجديدة فى 150 صفحة متوسطة القطع وتتضمن مقدمتين أحداهما لزوجته الشاعرة السورية الراحلة سنية صالح التى قالت "إن مأساة الماغوط أنه ولد فى غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط... وذروة هذه المأساة هى فى اصراره على تغيير هذا الواقع وحيدا لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر".
كما وصف الناقد المصرى جابر عصفور فى المقدمة الثانية الماغوط بالشاعر الفريد الذى أصبح بحق معمدان قصيدة النثر فى تأسيسها الذى فرض نفسه على الدوائر الادبية .
" كراكيب الكلام"
أما ديوان " كراكيب الكلام" لسوزان عليوان الذى صدر قبل نحو شهرين فهو قصيدة واحدة طويلة تبدو كأنها سيرة للروح.. روح الشاعرة وروح المدينة وأهلها حيث لا تقوى الأيدى المنهكة على اسدال الغروب كما تعجز عن التعجيل بنور الصباح.
فى هذه المسافة بين غروب وشروق فرصة لأن يعيد الشعر ترتيب العالم الخاص جدا ويتنبأ بالمطر والحروب.
فى الديوان-القصيدة التى تبلغ 54 صفحة علاقة ملتبسة بين الشاعرة ومدينتها اذ تقول وفقط حين انكسرتُ-أدركت حجم المأساة-لان هذه المدينة تذكرنى بصوت امرأة أعجزُ عن نسيان انكسارها-لان الله واحد والموت لا يحصى .
تحلم الشاعرة بطفولة من نوع مختلف هى طفولة مدينة تخصها وحدها وترحل عنها واثقة أن كل شيء سيبقى رغم المأساة والتهجير لن تصحبنى فى الرحيل سحابة. الغرفة الصفراء بين جدرانها ستبقي-المقهى فى زاويته-الاشجار حيث جذورها-العصافير على الاسلاك-والقمر الذى من قمر-لن يكون بوسعى أن أضعه رسالة فى جيبي. لانها لم تكن يوما أشيائي. لانها أشياء هذه المدينة .
وتقول".. يا قلبى العاطل عن العالم-أيها المعطوب بعشق مدينة كانت عبثا حلمنا وحاولنا وأحببناها .
ولدت سوزان عليوان فى بيروت عام 1947 من أب لبنانى وأم عراقية وبسبب الحرب الأهلية اللبنانية "1975 - 1990 " عاشت بين اسبانيا وباريس ومصر حيث تخرجت فى الجامعة الامريكية بالقاهرة وهى الآن تعيش فى بيروت " خرافة الوطن".
ونشرت الشاعرة التى تعيش الحياة كقصيدة ثمانية دواوين أخرى بين القاهرة وبيروت فى طبعات محدودة ترسلها الى أصدقاء باتساع العالم وترفض المشاركة فى مهرجانات الشعر وتكتفى بموقعها على الانترنت حيث تكتب وترسم وتحلم أحيانا.
وزارت الشاعرة القاهرة هذا الشهر قبل نشوب الحرب وقالت إن انتماءها إلى لبنان يبلغ نسبة مئة فى المئة مفسرة بذلك قسوتها فى انتقاد البلد الذى يخصها وتحرص عليه أكثر من أى أحد اخر.
ما يجمع سوزان والماغوط هو عين الطائر الذى يرسم من بعيد مشهدا ولا يتورط فى علاقات تؤثر على نقاء الشعر.
فالشاعرة اختارت موقفا على تخوم الشعر والوطن والحلم فى حين وصف الماغوط نفسه بالانكفاء على الذات.
كما قال زوجته انه مع الأيام لم يخرج من عزلته ولم يتخلص منها بل غير موقعها من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض .
--------------------------------------------------------------------------------
سعد القرش