الاحتفال بمئوية الفنانالرائد أحمد عثمان بتدمير جداريته
البرابرة في أكاديمية الفنون
دمحمد كامل القليوبي
كان البرابرة في الزمن القديم يعلنون عن وجودهم بصورة سابقة للحملات التدميرية التي يقومون بها سواء برسل يحملون انذاراتهم، أو بتجمع جحافلهم ودق طبول الحرب التي يعلنون بها عن مقدمهم، وعلي الشعوب المهددة بهجماتهم أن تستعد للمقاومة، وهكذا اجتاح المغول في تلك الازمنة بغداد حاضرة العرب وقتها، وهكذا ايضا تصدي لهم قطز في معركة »عين جالوت« الشهيرة وردهم علي اعقابهم، أما برابرة هذه الايام فإنهم يجتمعون سرا بليل مرتدين مسوح أساتذة وعلماء فيما يشبه حفلات تنكرية يحاولون فيها اخفاء همجيتهم وبلاهتهم وضلالهم. لينقضوا علي منجزات فنية وحضارية وثقافية كبيرة ويحملون فيها معاول الهدم والتدمير.
وهكذا أنقض هؤلاء البرابرة علي واجهة قاعة »سيد درويش« بالهرم، وهي القاعة الرئيسية لاكاديمية الفنون ليدمروها ويدمروا معها اللوحة النحتية الكبيرة لواحد من رواد الفن في مصر وهو النحات والمصور واستاذ الفن الكبير أحمد عثمان (٧٠٩١ ٠٧٩١)، واستبدال هذه الواجهة بواجهة رخامية قبيحة تطمس معالم هذه القاعدة التي احتفظت طويلا ولحوالي خمسين عاما بملامحها الخاصة، والتي كانت هذه اللوحة النحتية أبرز ما فيها ورمزا لها...
إن الأمر لا يتعلق فقط بجريمة طمس معالم قاعة هامة للمسرح والموسيقي في مصر، ولكنه يتعلق أيضا بتدمير عمل فني حائطي ضخم لواحد من رواد الفن بدم بارد، وبجهل أكثر برودة وبربرية ووحشية فائقة.
والغريب في الأمر أن يتم ذلك دون أن يثيروا الانتباه لفداحة ما حدث، بل والاكثر غرابة أن يتم ذلك في مكان يطلق عليه »أكاديمية الفنون«، يفترض بأنه لايقوم بتعليم الفنون في مجالات المسرح والسينما والباليه والكونسيرفتوار والموسيقي العربية والفنون الشعبية والنقد الفني فحسب، وانما يختص أحد معاهده الجديدة - (تحت الانشاء حاليا)- بترميم الآثار والاعمال الفنية (؟!!) ولمن لايعرف فإن أحمد عثمان ليس مجرد فنان كبير من جيل الرواد فحسب، وإنما هو أحد العلامات البارزة في تمصير الفن والبحث عن طرق جديدة لفن النحت في مصر بالعودة إلي أصوله والانطلاق منها مبتعدا عن التأثيرات الأجنبية التي تتخذ من فن النحت في عصر النهضة نموذجا لها وهو ما جعل أعماله امتدادا وتطورا للجداريات المصرية القديمة، واكسبها قيمة فنية ومتحفية كبيرة.
ولقد قام أحمد عثمان بتأسيس مدرسة النحت المصري المعاصر ووضع اسسها بصورة متوازية ومختلفة من حيث مصادرها مع رائد فن النحت المصري المثال الكبير محمود مختار، ولقد انجز أحمد عثمان هذه المهمة اثناء عمله كرئيس لقسم النحت بكلية الفنون الجميلة لمدة عشرين عاما كاملة (٧٣٩١ ٧٥٩١) ثم توج مشواره بتأسيس كلية الفنون الجميلة بالاسكندرية عام ٧٥٩١.
ولمن لايعرف ايضا فان انجازات أحمد عثمان تتجاوز كل هذا إلي انجازات حضارية كبري، لعل من أبرزها ترميم ونقل تمثال رمسيس من قرية »ميت رهينة« إلي الميدان الذي عرف باسمه امام محطة السكك الحديدية بالقاهرة عام ٣٥٩١ أي اكثر من خمسة وخمسين عاما، وقيامه بترميم ساق التمثال وتثبيته علي قاعدة جرانيتية فيما يشبه المعجزات، وبعد مرور اكثر من خمسين عاما علي عملية النقل هذه احتجنا لتكنولوجيا متقدمة للغاية كي نعيد نقل تمثال رمسيس باقدامه التي قام أحمد عثمان بترميمها إلي المتحف المصري الجديد بجوار اهرامات الجيزة.
ولأحمد عثمان ايضا الفضل في انقاذ معبد أبوسمبل عام ٩٢٩١، فهو صاحب تلك الفكرة العبقرية التي تم تنفيذها بتقطيع المعبد إلي اجزاء ثم اعادة بنائه أعلي هضبة الجبل.. وهكذا حافظ هذا الفنان العظيم علي تراث اجداده، بأعمال فنية خلاقة علي كافة المستويات الابداعية والتعليمية.
وعلي الرغم من ذلك كله، لقي أحمد عثمان شر احتفال له بمناسبة مرور مائة عام وعام علي مولده وعندما قام بعض البرابرة من جهلة القوم وهمجهم بتدمير إحدي جدارياته الهامة وتحويلها إلي أنقاض.
أتقدم بالبلاغ التالي إلي السيد النائب العام (بصفته)، وإلي الجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الادارية (بوظيفتيهما)، وإلي السيد وزير الثقافة (بصفتيه كوزير للثقافة وكمرشح لرئاسة هيئة اليونسكو حيث تدخل حماية الاعمال الفنية والاثرية من مهام وظيفتهما) وإليه بشخصه كفنان تخرج في هذا الصرح الذي أنشأه فناننا الرائد أحمد عثمان، وبشخصه ايضا كفنان تتلمذ علي يديه:
»قام نفر من البرابرة والهمج باكاديمية الفنون بتدمير عمل فني كبير شكل لحوالي نصف قرن من الزمن واجهة إحدي القاعات الفنية الكبري في مصر (قاعة سيد درويش بالهرم)، وهذا العمل من ناحية توصيفه هو عمل من مقتنيات وزارة الثقافة التي يوكل إليها مهمة الحفاظ عليه، كما أنه عهدة متحفية لاكاديمية الفنون، ولذا يجب اتخاذ الاجراءات العقابية الرادعة تجاه من قاموا بهذه الجريمة النكراء، مع محاولة ترميم هذه الواجهة بما يتم انتشاله منها من بين انقاض الواجهة، أو اعادة تجسيدها لأقرب شكل ممكن بالاستعانة بالصور الفوتوغرافية التي تم التقاطها من قبل للواجهة الأصلية لقاعة سيد درويش«.
اتقدم بهذا البلاغ آملا أن أجد ويجد كل من يهمه أمر هذا الوطن استجابة سريعة له، وحتي لانجد انفسنا ننعي زمن البرابرة القدامي، فهم فعلي الاقل كانوا ينذروننا ويحفزوننا للمقاومة، ويعطونا أملا بالدفاع عن النفس، والتراث والحضارة المنسية.