أسس دراسة الأنسنية ـ منظور إدوري:
ليس سهلا على المرء بالطبع أن يتصدى لسبر غور الرؤية الادورية لأسس دراسة الحركة الأنسنية فى الولايات المتحدة. لأنه إذا كان إدوارد سعيد لا يُبارى فى المضمار الأنسني، كما يعرف القاصي والداني، فكيف لرؤيته المُشار إليها فى عنوان هذه الجزئية أن تُقارب على نحو مُرضي، وصاحبها أحد أهم وأبرز رموز الحركة الأنسنية الأمريكية، بل والعالمية أيضا، فى العقود الأخيرة، وربما لعقود أخرى قادمة، أظنها عديدة! من هنا أرانى فى تناولي لهذه الجزئية الشائكة قانعا من الغنيمة بالاياب، كما يقولون! فليتك قارئى الكريم تقبل ذلك منى..
إلتحق الطالب إدوارد سعيد بجامعة برنستون فى الولايات المتحدة فى خمسينيات القرن الماضي، ودرس فيها الانسانيات، على أيدى أساتذة يتمتعون بالكفاءة العظمى. وأسست قراءاته فى تاريخ الموسيقى والأدب والفلسفة لكل ما حققه فيما بعد باحثا ومدرسا. إذ أتاحت له الشمولية الرزينة لبرنامج الدروس فى برنستون فرصة التحرى الذهنى فى حقول كاملة من المعرفة، وبحد أدنى من الحرج! وفقط عندما اتصلت تلك المعارف بنقد سزاثمارى المحفز أو بالتمكين الرؤيوى الذى منحه إياه أستاذ من طراز بلاكميور، وجد إدوارد نفسه يُنقب أعمق فأعمق من مستوى الإنجاز الأكاديمي الرسمي. وبدأ، بطريقة ما، فى بلورة منحاه الفكرى المتماسك والمستقل. وخلال الأسابيع الأولى من سنته الثانية أدرك ضرورة أن يفعل المزيد لتنمية انبهاره المبكر بالتعقد والفجائية ـ وخصوصا بالتعقدات والالتباسات المتعددة التى تنطوى عليها عمليتا الكتابة والخطابة ـ، وهو انبهار لازمه طوال حياته! والمفارقة فى الأمر أن الذى حفز إدوارد إلى ذلك هم الأساتذة الأكثر تقليدية من حيث المقاربة والمزاج، بمن فيهم كواندرو فى اللغة الفرنسية، وأُوتس فى الكلاسيكيات، وطومسون ولاندا وبنتلى وجونسون فى اللغة الانجليزية. وفى الموسيقى، أجبر إدوارد نفسه على اقتحام عقبة درس الهارمونى والطباق، ثم انتقل لمتابعة السيمينارات التاريخية والوضعية الغنية عن بيتهوفن وفاغنر خصوصا، حيث صار إليوت فوربز وإدكُون مثالين يُقتدى بهما(
.
ونظرا لارتباط الانسانيات، وهى مجال دراسة إدوارد، وأحد المواد التى قام بتدريسها ابتداء منذ عام 1963 وحتى رحيله، فى جامعة كولومبيا التى تقدم، منذ ما يقرب من قرن وبدون انقطاع، مجموعة من المواد الأساسية قبل التخرجية، شهيرة بل أسطورية فى تمثيلها التربية العقلية. مُفاعلها الشغال، الذى تأسس عام 1973، هو سلسلة مواد تُدرس على مدار سنة كاملة عنوانها الانسانيات، تُعرف الطلاب بأمهات الأعمال الأدبية والفلسفية فى الثقافات الغربية، صارت مؤخرا تُعرف باسم الانسانيات "الغربية" تمييزا لها عن مواد موازية معروضة تحت تسمية الإنسانيات "الشرقية" أو "المشرقية" أو "غير الغربية"(9) ـ أقول إنه نظرا لارتباط الانسانيات، بالسيرة الأكاديمية لادوارد إلى هذا الحد، أجدنى مُلزما بالبحث عن معنى محدد لها، على نحو يُجنبنى وقارئي الكريم غموضها النسبي!
بالكشف فى المعجم نجد أن لفظ انسانية ـ ويُستخدم عادة فى صيغة الجمع ـ، يعنى "فروع المعرفة الرفيعة، وبخاصة الدراسات الكلاسيكية القديمة، والأدب المحض العلمانى، باعتباره متميزا عن المعرفة اللاهوتية". وعند التحول إلى معجم آخرى نجد أن الانسانيات تتكون من فروع دراسية معينة ذات "اتجاه نحو تهذيب الانسان"، فى مقابل العلوم الطبيعية "التى تعمل على النمو بالمواهب العقلية بصفة خاصة". ونجد فى المعجم نفسه أن الانسانيات كانت داخلة فى نطاق ما يسمى "بالتربية التحررية"، وأن هذه كانت "تتكيف لظروف ومطالب الإنسان الحر والانسان المهذب (الجنتلمان)"، وكان يقابلها "التربية العلمية". ويقول جون نيومان، وهو مرجع ثقة فى هذا الموضوع، إن "التربية التحررية" وفق هذا المنهج هى "ثقافة عقلية تُدرب فيها العقلية لا بقصد صياغتها فى ضوء هدف محدد أو عارض، أو من أجل حرفة أو مهنة محددة، أو من أجل دراسة أو علم، بل من أجلها هى بذاتها". صفوة القول ان الانسانيات تعنى حسبما يرغب الدارس. إما الدراسة العلمانية فى مقابل الدراسة اللاهوتية، وإما الدراسة الاجتماعية والخلقية فى مقابل الدراسة الذهنية، وإما الدراسة الذهنية فى مقابل الدراسة العملية(10).
قلنا إن إدوارد سعيد قام بالتدريس فى جامعة كولومبيا من عام 1963 وحتى رحيله، وهو ما وفر له مكانا متميزا أشرف من خلاله على الحركة الأنسنية الأمريكية، وأسلافها الأوروبيين، وذلك فى القرن الماضي، وفى بدايات القرن الذى يُظلنا الآن، نظرا للصلة الوثيقة التى تربط الأنسنية بالتربية وبالبرامج الجامعية خصوصا. تلك الصلة التى تتبدى جلية واضحة بين مادتى الأدب والانسانيات اللتين درسهما ادوارد سعيد، وبين الحركة الأنسنية. فالأنسنية ومادة الأدب بما هما انكباب على دراسة الكتابة الجيدة والقيمة، مترابطان ـ فى رأى ادوارد ـ أيما ترابط، تشد وثاقهما صلة قوية. كما أن مادة الانسانيات، على تنوع معانيها، تُعد مضمارا للمفكرين الأنسنيين. فطبقا لادوارد، تتعلق مادة الانسانيات بالتاريخ العلمانى، وبمنتجات العمل البشري، وبالقدرة البشرية على التعبير الكلامى(11). فى حين يتمثل صميم الأنسنية فى الفكرة العلمانية القائلة إن العالم التاريخى هو من صنع بشر من رجال ونساء، لا من صنع ربانى، وإنه يمكن اكتناهه عقليا، وذلك وفق المبدأ الذى صاغه جان باتيستا فيكو فى مؤلفه الرائع "العلم الجديد"، إذ قال فيه إننا كبشر فى التاريخ نُدرك فقط ما قد أنتجناه. أوبعبارة أخرى، إننا نستطيع أن نعرف الأشياء وفقا للطريقة التى بها صُنعت(12).
وفى كتابه الأخير "الأنسنية والنقد الديمقراطي"(13)، ركز ادوارد اهتمامه على دراسة الحركة الأنسنية والممارسة النقدية، استنادا إلى قناعته بأن الأنسنية مذهب نقدى يوجه سهامه إلى الأوضاع السائدة داخل الجامعة وخارجها، مذهب يستمد قواه وقيمه من طابعه الديمقراطي العلمانى المنفتح، وهو الموقف الذى لا تتبناه بالتأكيد الأنسنية العيابة والمتزمتة التى ترى إلى ذاتها على أنها تكوين نخبوي! وكذا قصر ادوارد اهتمامه فى الكتاب نفسه على دراسة الحركة الأنسنية فى الولايات المتحدة الأمريكية، استنادا إلى قناعته بأن قسما كبيرا من محاجته ينطبق على سائر البلدان! فادوارد عاش فى الولايات المتحدة خلال القسط الأوفر من حياته البالغة كما أسلفنا، وكان خلال تلك العقود الأربعة، مدرسا وناقدا وباحثا ملتزما بالفكر الأنسني. ذلك هو العالم الذى عرفه إدوارد أكثر من سواه!
من هنا تأتى أهمية محاجة ادوارد الرئيسية المشار إليها توا، والمتمثلة فى قوله بأنه خلال السنوات الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى ضعه لدراسته، لم تعرف الحركة الأنسنية فى الولايات المتحدة مجرد أزمة متواصلة لا شك فيها، وإنما عرفت تحولات أساسية، صامتة حينا، وأحيانا محرومة ممن يقدرها حق قدرها. فبحسب ادوارد، طرأت تغييرات فى الأسس ذاتها التى قام عليها الفكر الأنسني والممارسة الأنسنية لزمن طويل فى الولايات المتحدة وسائر العالم. وكان لادوارد ـ إن هو أراد ـ أن يُغفل تلك التحولات، بكل بساطة، وأن يستمر كما فى السابق، على طريقة النعامة، خاصة وأنه الرجل الذى لطالما كتب بحماس عن قضايا خاسرة، وارتبط فطريا بها خلال معظم سنى حياته. بيد أنه لما كان ادوارد سعيد قد أقنع نفسه، بالاقلاع عن لعب دور النعامة، فقد رأيناه تواقا لاقناع غيره بأن الهرب من الواقع والانكفاء العاطفي إلى حنين ماضوى، أقل علمية وأقل إثارة بكثير من التعامل مع المسألة على نحو عقلانى ممنهج، إيمانا منه بأن هذا هو ما تقضي به قواعد الأنسنية، على نحو لا مجال للطعن فيه.
يقول إدوارد فى دراسته إن الحرب الباردة كانت جزءا من نمط شامل بدت فيه التهديدات للحركة الأنسنية فى الولايات المتحدة منبثة فى طبيعة الفكر ذاته عن حالة البشرية عموما. ويقول أيضا إن السطر الأخير لقصيدة كافافى "فى انتظار البرابرة" يوحى، فى سخريته الأنيقة، بفائدة وجود الآخر المعادى فى مثل تلك الظروف، إذ يقول كافافي: "كان هؤلاء البشر نوعا من حل"! من هنا ـ والكلام لادوارد ـ لم يكن مفاجئا أن يربض شبح الحرب الباردة على صدر الممارسة الأنسنية لجيلين على الأقل، ناهيك عن الرطانة اللامتناهية عن الحرية ضد الكليانية، وحديث كويبلر الساخر عن أن القيم التى يؤمن بها الكليانيون واضحة كليا، فيما القيم التى يحملها المؤمنون بالديمقراطية غامضة كل الغموض!
ولا يكتفى إدوارد بتأكيد الرواج الذى لاقته فكرة المفكر أو الباحث الأنسني غير الملتزم، المختص بحقل ثقافى بعينه، فى النصف الثانى من القرن العشرين. بل نراه يذهب إلى حد القول إنه، كباحث أكاديمي ومدرس للأدب الغربي، نشأ فى حضن فكرة الاختصاص هذه، وهى ـ فى رأيه ـ فكرة أيديولوجية فى العمق ومترسملة ومؤسساتية إلى أعلى الدرجات. علاوة على أنها، فى أقل تقدير، رسخت فهما سياسيا وجامدا إلى أبعد حد للتاريخ الأدبي. فطبقا لادوارد، كانت ثمة حقبات تاريخية متعاقبة ومؤلفون رئيسيون ومفاهيم رائدة قابلة للبحث والتحليل المقارن، غير أن أيديولوجيا حقل الاختصاص ذاته لم تكن قابلة للفحص الجذرى أبدا. وهو الأمر الذى رآه ادوارد سعيد ناجما عن موقف غير قسرى، وإن يكن ظفراويا، تجاه الواقع الأمريكى الذى يُفترض أنه الأفضل بين الأمم!
وكان صدور سفر نورثروب فراي بعنوان "تشريح النقد" عام 1957، هو الذروة وفى الآن ذاته التعبير التجاوزى والنزق إلى حد غريب لتلك الآلة المعقدة بل محمومة الحركة. إذ كان الهدف من وراءه ليس أقل من السعي إلى توليفة بلايكية ـ يونغية للنظام الأنسني وقد انتظم فى عالم مصغر، يكمن فى قلبه ـ قلب اختراع فراى ـ ما يسميه بلايك "الألوهة البشرية"، وهو انسان كونى يمارس مهمته تجسيدا لمعيار مركزى أوروبي مسيحى ـ يهودي. بيد أن الملفت هو ما كان للتصاميم والتقاليد والتداوم فى التقاليد الأدبية التى اقترحها آرنولد وفراى وإليوت واتباعهم المختلفون، على ما بينهم من اختلافات، من سمات عديدة مشتركة، فكلها تقريبا ذكورية وصادرة عن مركزية أوروبية، تحركها الأنواع الأدبية أو "النماذج الأصلية"، كما كان فراى يسميها. وهو ما استوقف ادوارد سعيد، ودعاه للتساؤل عما إذا كان ما أنتجه فراى، بما هو التوليفة الأخيرة لنظرة كونية داخل النزعة الأنسنية الأمريكية، يُعد بحق نظرة كونية ليبرالية، يعززها الازدهار والقوة العاتيان، أم أنه مجرد زينة لتجميل واقع قذر..!
فمن منظار الشروط الجامدة لنظام فراي، لم يكن للرواية ولا للمسرح مثلا صلة فعلية بالظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية المخصوصة (ناهيك بالظروف الايديولوجية) المؤدية إلى نشوئهما. والأكيد أن فكرة وجود نوع أدبي يسمى كتابة "نسوية" أو "أقلوية" لم يدخل قط نظام فراي، ولا هو دخل عالم الفاعلية أو العمل الانسنيين الذى مثل فراي مترتباته النضالية الهادئة. ثم إن القومية، مثلا، لم تلعب أى دور فى السرديات التى يناقشها فراي. ولم تحظ سطوة مؤسسات مثل النظام الملكي والشركات الكولونيالية ووكالات استيطان الأراضى بأى اهتمام من جانب فراي على الاطلاق، لا فى قراءته لأعمال شكسبير أو جاين أوستن أو بن جونسون. ويبدو التغييب أشد وطأة عندما يتناول أمهات الأعمال عن ايرلندا من سبنسر إلى و. ب. ييتس وأوسكار وايلد وجيمس جويس وبرنارد شو، علما أنه يقع فى صميم هموم هؤلاء جميعا مسائل رسم حدود الأرض وتملكها بالذات.
هكذا، وبكل بساطة، أسقط فراى ومعاصروه، و"النقاد الجدد" من قبلهم، الصراع حول الملكية، سواء أكانت ملكية الأراضي أو الحدود الأمريكية أو الأقاليم الكولونيالية، على الرغم من حضور ذاك الصراع فى انتاج بلايك نفسه، الذى تأثر به نظام فراي، ناهيك عن ديكنز وجاين أوستن وفينيمور كوبر وهرمان ملفل ومارك توين وجميع المؤلفين الذين ارتقت أعمالهم إلى مصاف الأعمال الكلاسيكية. حتى أن مفردة "العرق" لا ترد أصلا عند فراي. أما العبودية ـ التى كان لها علاقة ما بالحفاظ على ملكوت السموات على الأرض ـ فلم تحظ بأى اهتمام عند فراى ومثلها الأدب الذى أنتجه الأرقاء والفقراء والأقليات! وهو ما يعزز تساؤل ادوارد عما إذا كان ما أنتجه فراى مجرد زينة لتجميل واقع قذر!
وفى اطار سعيه للبرهنة على أن تحولات أساسية، صامتة حينا، وأحيانا محرومة ممن يقدرها حق قدرها، قد طرأت فى الأسس ذاتها التى قام عليها الفكر الأنسني والممارسة الأنسنية لزمن طويل فى الولايات المتحدة، تناول ادوارد سعيد بالنقد عنصرين رآهما يلعبان دورا مهما ولافتا فى النظرة الكونية الأنسنية التى أوجزنا للتو وصف ادوارد لها، وإن لم يحظيا بما يستحقان من الاعتراف: العنصر الأول، هو الفكرة القائلة إن الأدب يوجد ضمن إطار وطنى افتراضى. والعنصر الثانى، هو الافتراض أن الأشياوات الأدبية والأشعار الغنائية والمسرحيات المأساوية أو الروايات تنوجد فى شكل ثابت أو على الأقل فى شكل يمكن التعرف إليه بانتظام. وكما هو متوقع، أثبت إدوارد أن البلبلة أصابت الافتراضين معا!
فطبقا للرجل، يكتنف مقدار كبير من الشك والنقصان الفكرة القائلة إن قصيدة غنائية لوردزورث هى نتاج الأدب الانجليزى فى القرن الثامن عشر أو هى نتاج عبقرى فرد، أو إنها تحتل موقع العمل الفنى المختلف والمتمايز عن أعمال أخرى، مثل المناشير السجالية والرسائل والنقاشات البرلمانية والبيانات الدينية أو القانونية أو سواها. تلك الشكوك وما يضارعها من أبحاث عن الجماعات وصلات النسب بين الكتاب والتشكيلات الاجتماعية والطبقات والبنى التحتية، وكذلك الصلات بين المعرفة والسلطة، قد بددت الأطر القومية والجمالية والحدود والتخوم تبديدا كليا تقريبا! فلم تعد ـ والكلام لايزال لادوارد ـ كلمات مثل "المؤلف" و"العمل" و"الأمة"، بالتالي، مقولات موثوقة كما كانت من قبل. على أن هذا لا يعنى قط إنكار وجود المؤلفين والمؤلفات، وإلا كان هذا جنونا، وإنما يعنى تعقيد واختلاف أنماط تمظهرهم إلى درجة التشكيك فى أى اطمئنان يساورنا عندما نجزم أن وردزورث كتب هذه القصيدة "أ" أو "ب"، وهذا كل ما فى الأمر. فلا وردزورث ولا القصيدة "أ" أو القصيدة "ب"، بما هما مجموعة أفكار، تقع بمنأى عن التمحيص التشكيكي لحدودها وفاعليتها التفسيرية والعمق المعرفي.