مصر تبدو وكأنها بأسرها تحترق تدريجيا، أو في طريقها إلي الاحتراق. أنباء تقول إن مصر شهدت خلال السنوات الخمس الأخيرة 30 ألف حريق.
الحكومة تقول عادة إن الحريق سببه "ماس" كهربائي، والناس لا يصدقون تبريرات الحكومة. والحرائق تستمر وتستمر معها التكهنات والتفسيرات.
هناك من يقولون إن طبقة رجال الأعمال، من كبار "الحيتان"، تريد أن تهدم المباني التاريخية القديمة التي تحتل مواقع هامة في القاهرة لكي تقيم مكانها أسواقا متعددة الطوابق (ما يعرف بالمولات) أو أبراجا إدارية. وهناك قسم من المعارضة يعتبر الحرائق التي تلتهم ما يعتبرونه أماكن للهو، مثل المسارح، "غضبا من الله وعقابا". وهناك من يخشون أن تكون الحكومة نفسها مسئولة عن الحرائق لتبرير استمرار قوانين الطوارئ والقوانين القادمة التي ستكون أسوأ من الطوارئ والعياذ بالله!
ولكن بعيدا عن كل التفسيرات التآمرية، و"البوليسية" التي تهتم بالتساؤل عمن يقف وراء الحرائق، ما هو المغزي "الثقافي" أو الفكري الأعمق لموجة الحرائق الأخيرة وما تكشف عنه؟
إن الحرق في الثقافة الإنسانية عموما، ومن قديم الأزل، هو معادل للتطهير، والتطهير يستوجب أساسا وجود دنس يجب التطهر منه. كان قضاة محاكم التفتيش يعاقبون المفكرين بالحرق بدعوي أنهم من أتباع الشيطان. ومسلسل الحرائق منذ بداية اهتزاز الدولة الحديثة في مصر بدأ بحريق الأوبرا القديمة. فهل هناك مغزي أخلاقي خاص لحرق صرح ثقافي وتنويري وفكري مثل المسرح القومي ومركز الإطفاء علي بعد خطوات منه تماما مثل الأوبرا القديمة؟!
هل يمثل المسرح دنسا من نوع ما؟ أو رمزا من رموز الإثم والخطيئة في الثقافة الخرافية الجديدة السائدة في المجتمع؟ وهل كان احتراق مسرح الثقافة الجماهيرية في مدينة بني سويف واحتراق 32 مسرحيا ومثقفا داخله عملا آخر من أعمال "التطهير"؟
وإذا كان المسرح رمزا للوعي، فلعل محكمة الجيزة الابتدائية رمز لفكرة العدالة "الغائبة" ربما.. ولذا استوجب الأمر حرقها أيضا.
أما مبنيا مجلسي الشعب والشوري، فبغض النظر عما آل إليه المجلسان في الزمن الحالي، فقد كانا تاريخيا (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) رمزا لإرادة الشعب في مواجهة الحاكم. فهل كان المطلوب أيضا القضاء علي هذا الرمز (العلماني، الوضعي، الوافد من النظم الحديثة)؟
كان حريق البرلمان الألماني (الريشستاغ) في بدايات صعود النازية في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي عملا تخريبيا مقصودا لإرهاب الشعب باستخدام فكرة الحرق. وكان مبررا لقيام هتلر بحل الأحزاب والانفراد بالسلطة. وكان حريق القاهرة عملا أدي إلي إسقاط حكومة الوفد الشعبية وإنهاء للمقاومة الشعبية في القناة، وعودة حكومات الأقلية والقصر، أي أنه استخدم أساسا في التخويف، من الحريات ومن الديمقراطية، تماما كما حدث في ألمانيا.
يبدو أن مسلسل الحرائق يواكب (ولا نقول إنه ناتج عن) ثقافة ترفض وتناهض التراث وتزدريه، وتريد إلغاءه، وتعتبر بناء ناطحة سحاب أهم مائة مرة من الحفاظ علي الآثار والكنوز المعمارية القائمة في القاهرة مثل مبنيي مجلسي الشعب والشوري أو المسرح القومي أو محكمة الجيزة الابتدائية.
هناك أيضا من يبرر الحرق باسم التكنولوجيا، مثل ذلك المنتج والموزع السينمائي الذي قال، وقوله مسجل بالصوت والصورة، إنه لا يعير وزنا لما يسمي بتراث السينما المصرية من النيجاتيف الأصلي للأفلام القديمة، بعد اختراع التكنولوجيا الرقمية (الديجيتال)، وإنه لا يمانع في إشعال النار في النيجاتيف المتبقي لأنه لم تعد له قيمة!
إن الرموز الكامنة التي تكشف عنها موجة الحرائق الأخيرة تتلخص في التقابلات التالية:
* ثقافة المول والأبراج المصنوعة من الحديد والزجاج في مواجهة العمارة الكلاسيكية القديمة.
* العمارة الوظيفية أي تلك التي تؤدي وظيفة تجارية مباشرة تجلب المال، أهم من العمارة الجمالية التي تختزن التاريخ فالتاريخ "قيمة وهمية".
* الحريق أداة للتطهير في مواجة رموز التدهور والحداثة الغربية والديمقراطية والثقافة المعاصرة: المسرح، السينما، البرلمان، وغدا كما يحذر البعض قد يطال الحرق القلعة والمتحف المصري ومكتبة الاسكندرية وغير ذلك.
* الحرق أمر يذكر، ولو علي صعيد رمزي، بنار جهنم التي يعاقب بها الذين انصرفوا عن الله وغرقوا في المعصية.
* الحرق أيضا غامض، مجهول، يسهل إرجاعه إلي تماس في الأسلاك الكهربائية، لا نري فيه يدا مباشرة واضحة المعالم، ولا يبقي وراءه الكثير من الدلائل، فهو شئ أقرب إلي "القدر" الذي لا يملك المرء منه فكاكا. وهو أمر ينصهر تماما في ثقافة "قدرية" سائدة تحيل الغامض من الأمور أحيانا إلي الجان والشياطين. هل نسينا أحدهم موهو يقسم ويؤكد لنا أن النار التي كانت تندلع فجأة من داخل "دولاب" في حجرة النوم، وبعد ان انتقل وأسرته من الشقة بأسرها ظلت تلاحقه من داخل الدولاب أيضا في الشقة الجديدة!
وأخيرا ألا يدعو تركز الحرائق علي رموز الوعي والتراث والتاريخ والحرية الفكرية إلي التفكير في سبب جدي بعيد عن ذلك "الماس" الكهربائي الغامض الذي ينتشر من مصنع إلي آخر، ومن مبني إلي مبني، دون أن يمس في أي مرحلة حتي الآن، مبان معينة ذات مفهوم محدد في عمق الشعور المصري، اللهم ابعده عنها!
جريدة البديل 23/11/2008