مسرحية "الخطأ" : مخطوط نادر: نص جديد منسوب للشاعر أمل دنقل

مخطوطة نادرة للشاعر أمل دنقل «الخطأ»

صرخة ضد الأنظمة العربية
«عم صباحا ًأيها الصقر المجنح
عم صباحا ً
سنة تمضي
وأخري سوف تأتي
فمتي يقبل موتي»
قبل أن أصبح - مثل الصقر - مستباحا. هكذا صرخ الشاعر الكبير أمل دنقل من الغرفة 8 بالدور السابع في المعهد القومي للاورام عام 1983 باحثا ًعن خلاص من هذا المرض اللعين الذي عوي في جسده، ومنع القلب من أن يلتقط تنهيدة والجسد المعذب ليرتاح دقائق من آلامه، لكن السرطان اللعين لا يفرق بين جسد شاعر مسكون بالكبرياء والعزة والكرامة العربية وسواه، ورغم أن أمل دنقل تنبأ بأغلب الأحداث السياسية التي حدثت وتحدث في مجتمعاتنا العربية إلا أنه لم ينتظر هذه النهاية المحزنة، وقد رحل في ريعان شبابه - (43 عاما)- حيث ولد عام 1943 في قرية القلعة محافظة قنا جنوب مصر، ومات في مايو 1983 وترك ستة دواوين شعرية تظل الأجود والأشهر بقصيدتها السياسية الرافضة وخروجها عن الميثولوجيا السائدة في شعر الخمسينيات، وظل أمل بصوته القومي واضح النبرة، غير المتراجع والرافض لإسرائيل حتي آخر المدي، مؤمناً بالانتصار عليها من خلال قومية واضحة لكل العرب، ورغم هذه المجموعات الست إلا أن هناك أوراقا ًعديدة لأمل دنقل لم تنشر، ومنها جزء نشرته العام الفائت في كتاب "رسائل المشاهير" أما هذه المسرحية فقد ذهبت لأجلها 1600 كيلو، وحصلت عليها من شقيق الشاعر الراحل الأستاذ أنس دنقل عضو مجلس الشعب السابق، والذي يحمل بعضا ًمن أسلوب أمل حين يكتب، رغم أنه لاينشر ما يكتبه، وقد ظل أنس ووالدته محتفظين بهذه المسرحية في قرية القلعة بصعيد مصر حتي الآن، وها هي تخرج إلي النور لتثير الجدل المتوقع إزاء ما تحمله المسرحية من مواد مفخخة وإزاء رؤيتها للعرب ولحياتهم.. وبها رؤية سياسية واضحة لما صرنا إليه، تشبه نبوءة قصيدته "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة".
يكتب أمل دنقل مسرحية "الخطأ" بجرأة قصائده ورؤيته بعيدة المدي، رغم أنه من غير المتعارف عليه كتابة المسرح بالنسبة لأمل دنقل.
شقيقه أنس دنقل له رؤية أخري، حيث يقول: هناك أوراق وقصائد كثيرة لأمل بعضها لدي وبعضها تناثر بين يدي أصدقائه ومعارفه وزوجته الأستاذة عبلة الرويني، حيث كان "أمل" كثير الترحال بين الأماكن والفنادق في حياته نتيجة عدم استقراره.
ومن بين هذه الأوراق هذه المسرحية الشعرية التي كتبها عام 1962 وعمره لم يتجاوز الاثني وعشرين عاما، وأعاد كتابتها عام 1966 كمسودة بعد أن غير المعالجة الدرامية للفصل الثاني من المسرحية تماما، وقد قرأت كلا النصين نص عام 1962 مكتوبا ومنمقا ومسودة عام 1966 وانتابني إحساسان: شعور أنه لا ينبغي نشر أي من النصين لأن "أمل" لم يرض عنهما في حياته، وبالتإلي ليس من حقي نشرهما، وشعور آخر بأن هذا العمل الأدبي يحمل وجهة نظر أمل دنقل المبكرة في هذه الأنظمة العسكرية الفاشية القابضة علي رقاب العباد والبلاد، والتي دفعت بنا منذ ذلك الزمان البعيد وحتي إشعار آخر إلي مغامرات عسكرية مجنونة خارج حدود الوطن وبقيت سنينا لا أعرف ماذا أفعل بهذه الأوراق.
وأمام إلحاح صديقي وابن بلدي الصعيدي مثلنا سامي كمال الدين، والذي لم يترك أمامي خيارا ونحن أهل الصعيد تجمعنا الحمية للصعيد قبل الاهتمام بالأدب أو الفكر، لذلك رضخت لطلبه وإصراره بأنه من حق قراء أمل أن يقرأوا عنه ما لم ينشر من قبل، فإن كان هذا العمل يرقي لمستوي إبداعات أمل دنقل فالحمد والشكر لله، وإن كان دون ذلك فالذنب ذنبي ولتغفروا لي خطيئتي ولترحموا أمل".
ورغم أن كلمات الأستاذ أنس أخجلتني كثيرا.. وترددت في حذفها، لكني تركتها حتي أتحمل بنفسي الهجوم الذي قد تتعرض له هذه المسرحية، فالإلحاح كان مسئوليتي والسعي إلي نشرها كان هدفي
وهنا الفصل الأول من المسرحية التي تنشر للمرة الأولي.

سامي كمال الدين

جريدة البديل 25/11/2008

«الخـــطأ»

[
u]الحلقة الأولى *[/u]

وكالناس.. مت
تصدعت نصفين.. ثم انفصمت
ومد كلاي الذراعا:
- وداعا ً
- وداعا ً
وكل مشي وحده في طريق
ولكننا في غمار الضجيج المحيق
ضللنا الطريق
وكان الخطأ..
أمل دنقل
المشهد الأول
(المسرح عبارة عن غرفة رمادية الطلاء.. أشبه بغرف الاستقبال في المستشفيات (العيادات الخارجية) لا يوجد أي أثاث ولكن توجد نافذة وحيدة في الجهة اليسري وباب صغير في الجهة اليمني -لون طلاء الباب من نفس لون الغرفة .
هناك خطوط بيضاء متقاطعة علي الجدار المواجه - حين ينفرج الستار يكون الملاك واقفا ً يزرع الغرفة جيئة وذهابا ً في حيرة شاب في نحو الثانية والعشرين يرتدي بدلة شاركستين بيضاء، ولكنه يبدو كصغار الموظفين في المصالح الحكومية، في حين أن الجسد المتكوم فوق الأرض يرتدي تحت الكفن الأبيض الشفاف جدا ً بدلة رمادية ورباط عنق أسود.. وهو أيضا ً شاب في الثلاثين "بدون شارب" ضئيل الجسم ليتمكن من الحركة بحرية فوق المسرح - الإضاءة تتبدل مابين الحوار لتعطي صورة الجو التجريدي الذي يعم المشهد، ومن خلف المسرح تتصاعد موسيقي راقصة خافتة تعلو في المواقف التي يحتد فيها الحوار دون أن تفقد شاعرية اللحظة التي يعيشها "الجسد".
الملاك: لأول مرة
أري هذه الغلطة القاتلة
(يستمر في الذهاب والإياب، يقترب من الجسد، يقلبه بيديه فينقلب معه ويتدحرج بينما تعلو موسيقي ضاحكة ضعيفة وعندما يترك الملاك الجسد يعود إلي وضعه السابق)
أنا منذ عُينت في هذه المصلحة
ولم أر شيئا ً كهذا حدث
(يقترب منه مرة أخري - يركله بقدمه)
تحرك
الجسد: (يتحرك كأنه مستيقظ من سبات طويل، يفرك عينيه وهو ينظر حواليه في تبلد)
تحركت.. (بعد برهة) أين أنا
الملاك: إذن لست تعرف أين تكون..
تحرك
(يشخط فيه بشدة، فينظر إليه الجسد في ذعر ويخاطبه في تلعثم )
الجسد: أنا.. لست أعرف أين أنا
الملاك: هنا.. في السماء
الجسد: (يفتح فاه في دهشة) سماء؟ وماهي تلك السماء.
الملاك: هنا حيث يولد طفل القدر
ويرسم بالكلمات مصير الشر
هنا الله
الجسد: (يبدو عليه الاطمئنان فجأة ويهز رأسه في شبه استهانة)
أهي سماء الإله
تلك التي قالت الروح فيها
بأن الحياة بها غير كل حياة
الملاك: أجل..
الجسد: (ينهض في تراخ.. يتلفت حواليه في تفحص للأشياء، ثم يدور حول الملاك يتفحصه ويبدو عليه أنه يتفرج علي أعجوبة)
إذن هي تلك السماء
وأنت..
الملاك: ملاك..
الجسد: أجل قالت الروح عنك كثيرا ً
ولكنني لم أصدق
أيوجد حقا ً ملائكة؟!
(يتحسسه بيديه)
تماما ً كما قالت الروح
كأنك ترقص (باليه)..
الملاك: (يبعد يده عنه في ضيق)
لا.. لست أرقص. إني ملاك فقط
الجسد: تشرفت جدا ً (يمد إليه يده ليصافحه ثم يسحبها بسرعة وهو يقفز):
ملاك إذن . يامهيمن.. عشنا وشفنا..
(يتذكر فجأة)
أنا متأسف.. متنا وشفنا
ولكن.. لماذا علي وجنتيك الشحوب
كأن بك السل
الملاك: (يبدو أنه ضاق به) اصمت..
الجسد: لماذا غضبت بسرعة
أليس لديك سجائر
الملاك: سجائر؟!
الجسد: أجل إنني لا أثور سوي حينما لا تكون بجيبي سجائر
سأعطيك سيجارة
(يتحسس جيوبه.. يبدو عليه الأسف الشديد)
لقد أخذ الآخرون السجائر مني عند الكفن
لكم كنت أحمق حين تركت السجائر فوق السرير
ولابد أن التي أخذت علبتي زوجتي
- تفتش جيبي كل مساء..
لتبحث عن صورة امرأة غيرها
- أنت تعرف عقل النساء -
وتسرق مني بعض النقود
هي امرأة عقربة..
تجيد ابتزاز النقود لتنفق منها علي الطلبة
ولكنني ارتحت منها.
سأذهب كي أشتري علبة
أليس هناك كشك قريب
الملاك: كفي ثرثرة..
الجسد: كن حليما.. ستهدأ حين تدخن سيجارة
سوف أذهب.. (يتوقف فجأة وهو يضع يده في جيبه)
آه.. لقد أخذوا المحفظة
لقد أخذوا المحفظة
(يجلس فوق الأرض -يعصر رأسه كمن يبحث عن حل -ثم يقفز فجأة)
ولكنني سأقيم هنا.. ستذهب أنت معي ثم تضمنني
ويمكنني أن أشكك منه
الملاك: (بنفاد صبر شديد)
هنا لا تباع سجائر
لتسكت.. كفي ماجري من ورائك
وأنت غريب هنا.. لن تقيم هنا
الجسد: لماذا؟
الملاك: لأنك جئت خطأ..
الجسد: خطأ!!
وما وجه هذا الخطأ؟!
الملاك: لأن الذي كان سوف يموت من الناس شخص سواك
الجسد: (يستعيد الكلمات)
لأن الذي كان سوف يموت من الناس شخص سواي؟
الملاك: أجل
الجسد: إذن فلماذا أنا مت؟
الملاك: تلك هي المشكلة. <
«الخـــطأ»
وكالناس.. مت
تصدعت نصفين.. ثم انفصمت
ومد كلاي الذراعا:
- وداعا ً
- وداعا ً
وكل مشي وحده في طريق
ولكننا في غمار الضجيج المحيق
ضللنا الطريق
وكان الخطأ..
أمل دنقل
المشهد الأول
(المسرح عبارة عن غرفة رمادية الطلاء.. أشبه بغرف الاستقبال في المستشفيات (العيادات الخارجية) لا يوجد أي أثاث ولكن توجد نافذة وحيدة في الجهة اليسري وباب صغير في الجهة اليمني -لون طلاء الباب من نفس لون الغرفة .
هناك خطوط بيضاء متقاطعة علي الجدار المواجه - حين ينفرج الستار يكون الملاك واقفا ً يزرع الغرفة جيئة وذهابا ً في حيرة شاب في نحو الثانية والعشرين يرتدي بدلة شاركستين بيضاء، ولكنه يبدو كصغار الموظفين في المصالح الحكومية، في حين أن الجسد المتكوم فوق الأرض يرتدي تحت الكفن الأبيض الشفاف جدا ً بدلة رمادية ورباط عنق أسود.. وهو أيضا ً شاب في الثلاثين "بدون شارب" ضئيل الجسم ليتمكن من الحركة بحرية فوق المسرح - الإضاءة تتبدل مابين الحوار لتعطي صورة الجو التجريدي الذي يعم المشهد، ومن خلف المسرح تتصاعد موسيقي راقصة خافتة تعلو في المواقف التي يحتد فيها الحوار دون أن تفقد شاعرية اللحظة التي يعيشها "الجسد".
الملاك: لأول مرة
أري هذه الغلطة القاتلة
(يستمر في الذهاب والإياب، يقترب من الجسد، يقلبه بيديه فينقلب معه ويتدحرج بينما تعلو موسيقي ضاحكة ضعيفة وعندما يترك الملاك الجسد يعود إلي وضعه السابق)
أنا منذ عُينت في هذه المصلحة
ولم أر شيئا ً كهذا حدث
(يقترب منه مرة أخري - يركله بقدمه)
تحرك
الجسد: (يتحرك كأنه مستيقظ من سبات طويل، يفرك عينيه وهو ينظر حواليه في تبلد)
تحركت.. (بعد برهة) أين أنا
الملاك: إذن لست تعرف أين تكون..
تحرك
(يشخط فيه بشدة، فينظر إليه الجسد في ذعر ويخاطبه في تلعثم )
الجسد: أنا.. لست أعرف أين أنا
الملاك: هنا.. في السماء
الجسد: (يفتح فاه في دهشة) سماء؟ وماهي تلك السماء.
الملاك: هنا حيث يولد طفل القدر
ويرسم بالكلمات مصير الشر
هنا الله
الجسد: (يبدو عليه الاطمئنان فجأة ويهز رأسه في شبه استهانة)
أهي سماء الإله
تلك التي قالت الروح فيها
بأن الحياة بها غير كل حياة
الملاك: أجل..
الجسد: (ينهض في تراخ.. يتلفت حواليه في تفحص للأشياء، ثم يدور حول الملاك يتفحصه ويبدو عليه أنه يتفرج علي أعجوبة)
إذن هي تلك السماء
وأنت..
الملاك: ملاك..
الجسد: أجل قالت الروح عنك كثيرا ً
ولكنني لم أصدق
أيوجد حقا ً ملائكة؟!
(يتحسسه بيديه)
تماما ً كما قالت الروح
كأنك ترقص (باليه)..
الملاك: (يبعد يده عنه في ضيق)
لا.. لست أرقص. إني ملاك فقط
الجسد: تشرفت جدا ً (يمد إليه يده ليصافحه ثم يسحبها بسرعة وهو يقفز):
ملاك إذن . يامهيمن.. عشنا وشفنا..
(يتذكر فجأة)
أنا متأسف.. متنا وشفنا
ولكن.. لماذا علي وجنتيك الشحوب
كأن بك السل
الملاك: (يبدو أنه ضاق به) اصمت..
الجسد: لماذا غضبت بسرعة
أليس لديك سجائر
الملاك: سجائر؟!
الجسد: أجل إنني لا أثور سوي حينما لا تكون بجيبي سجائر
سأعطيك سيجارة
(يتحسس جيوبه.. يبدو عليه الأسف الشديد)
لقد أخذ الآخرون السجائر مني عند الكفن
لكم كنت أحمق حين تركت السجائر فوق السرير
ولابد أن التي أخذت علبتي زوجتي
- تفتش جيبي كل مساء..
لتبحث عن صورة امرأة غيرها
- أنت تعرف عقل النساء -
وتسرق مني بعض النقود
هي امرأة عقربة..
تجيد ابتزاز النقود لتنفق منها علي الطلبة
ولكنني ارتحت منها.
سأذهب كي أشتري علبة
أليس هناك كشك قريب
الملاك: كفي ثرثرة..
الجسد: كن حليما.. ستهدأ حين تدخن سيجارة
سوف أذهب.. (يتوقف فجأة وهو يضع يده في جيبه)
آه.. لقد أخذوا المحفظة
لقد أخذوا المحفظة
(يجلس فوق الأرض -يعصر رأسه كمن يبحث عن حل -ثم يقفز فجأة)
ولكنني سأقيم هنا.. ستذهب أنت معي ثم تضمنني
ويمكنني أن أشكك منه
الملاك: (بنفاد صبر شديد)
هنا لا تباع سجائر
لتسكت.. كفي ماجري من ورائك
وأنت غريب هنا.. لن تقيم هنا
الجسد: لماذا؟
الملاك: لأنك جئت خطأ..
الجسد: خطأ!!
وما وجه هذا الخطأ؟!
الملاك: لأن الذي كان سوف يموت من الناس شخص سواك
الجسد: (يستعيد الكلمات)
لأن الذي كان سوف يموت من الناس شخص سواي؟
الملاك: أجل
الجسد: إذن فلماذا أنا مت؟
الملاك: تلك هي المشكلة.

* تنشر المسرحية مسلسلة على صفحات جريدة البديل

هل فتح أمل دنقل مبكرا أبواب المواجهة مع الموت؟

تفتح مسرحية "الخطأ" المنسوبة لأمل دنقل كل الأبواب الفلسفية التي يهرب الجميع منها ويحاولون إغلاقها بكل الطرق، ذلك أنها تصيب بالدوار والصداع والخوف من المواجهة، مع أن أعنف القضايا الفلسفية وصل الإنسان إلي حلول إيجابية لها عبر الجدل المفتوح، ولعل فلسفة الموت والحياة هي أكثر القضايا جدلية، وقد حاول عديدون من الكتاب العرب مناقشتها في شكل نص أدبي، منهم يوسف السباعي علي سبيل المثال في روايته« نائب عزرائيل»، وإذ ننشر هذا النص المسرحي النادر لأمل دنقل، والذي لم يكتب أي مسرح في حياته سوي هذه المسرحية التي اختارت جدلية الحياة والموت، فإننا نفتح النقاش حولها لكل الرؤي المتوافقة معها والمغايرة.

سامي كمال الدين

جريدة البديل 26/11/2008

]«الخـــطأ»

الحلقة الثانية *

الجسد: إذن فلماذا أنا مت؟
الملاك: تلك هي المشكلة..
لقد أخطأوا في كتابة اسمه
مجرد نقطة
هي الفرق بينكما
أنت تعرف.. يحدث هذا كثيراً علي الآلة الكاتبة..
ولكن قسم المراجعة المبدئية..
يتدارك تلك الأمور
ولكنهم.. أمس لم يستطيعوا تداركه
هذه الغلطة المطبعية
مجرد غلطة..
الجسد: إذن قلت لي..
لقد كنت في البار ليلة أمس
وكنت أقهقه في صحة جيدة..
وحين خرجت مشيت قليلا ًلكي املأ الصدر من نسمات المساء..
وأحسست بالجوع لحظتها فأكلت
وإذا بي تفاجئني نوبة القلب في الفجر.. مت
وساءلت نفسي لماذا أموت؟ ولا أحد يستفيد بموتي؟
الملاك: هنا لايهم لماذا تموت
كما أننا حين نأمر بالموت لانفكر في هذه الصحة الجيدة
الجسد: ولكن.. أمن أجل أن فتاة علي الآلة الكاتبة
أخطأت وهي تكتب أمرا ًبموت فلان
فتكتب اسمي
أموت أنا.. وأروح بشربة ماء
أموت من الغلطة المطبعية
الملاك: ولكن
الجسد: كفي.. سوف تفصل مابيننا المحكمة
(يرفع صوته مهدداً) سأطالب بالتعويض..
الملاك: لقد حاولوا أن يعيدوا الأمور إلي أصلها
وقد أمروا أن تعاد إلي الارض روحك
ولكن روحك حين مضت لم تجدك
لأن ملاكا ًرأي الروح جاءت فحاول أن يحضرك
وجئت لنا في السماء
وروحك تبحث عنك هنالك في الأرض
الجسد: ما هذه البلبلة
لسوف أقاضيكم..
الملاك: لا تكن أحمق، الأمر لا يتطلب تلك الحماقة..
وأنت هنا في السماء
وليس هناك قضاء سوي حكمة الله عز وجل..
فلا تتكلم إلي أن يري الله فيك مصيرك..
الجسد: ولكنني
الملاك: لا تزد.. نحن أكثر بلبلة
فالسماء من البدء لم يمش فيها سوي الطاهرين
وتأتي لنا أنت.. من كنت تسكر ليلة أمس
ومن كنت تزني بزوجات من كنت تدعوهم أصدقاءك وكنت..
الجسد: (يقاطعه) كفي.. هل تحاكمني ياملاك إذن
الملاك: ليس من سلطتي
الجسد: أنت تبدو رقيقًا برغم مشاعرك الغاضبة
تعال لكي نلعب الشطرنج
الملاك: وما الشطرنج (باستنكار)
الجسد: ألا تعرف الشطرنج؟ هي اللعبة الملكية (مستدركا)
كانت هي اللعبة الملكية.. والآن يلعبها الناس فوق المقاهي
زمان عجيب.. قد انحدر الحال حتي تعلمها الفقراء الرعاع
الملاك: أتجلس فوق المقاهي.. ألم تك تعمل؟
الجسد: لا..
الملاك: ومن أين تأكل؟
الجسد: (ينظر إليه في دهشة)
أنت عبيط، ألابد أن يعمل الناس كي يأكلوا
الملاك: أجل
الجسد: إذن أنت من هؤلاء الشباب الجدد أولاد الفلاسفة السخفاء الذين ينادون أن الطعام لمن يعمل
يريدون أن يتحكم فينا الرعاع
الملاك: أنا لا أريد
الجسد: (يقاطعه).. فهمت
تدافع عن سفلة الكادحين
لأنك من بروليتاريا الملائك.. أليس كذلك؟
الملاك: أنا لست أفهم ماذا تقول
ولكن من يسكنون علي الأرض قد خلقوا للعمل
فلابد أن يعمل الناس كي يأكلوا
الجسد: ولكن نحن في الأرض لسنا نطبق هذه الخرافة
أنا مثلا ً..
الملاك: لست تعمل
الجسد: لقد كان جدي ذكيا ًفكون ثروة
وأعمل طبعا ًعلي عدها ثم إنفاقها
الملاك: ليس هذا بشئ جميل لتفخر به
هنالك في الأرض من يعملون ولا يجدون الطعام
الجسد: (صارخا): شيوعية في السماء
غريبون أولئك الماركسيون قد نبغوا في الدعاية
حتي أضاعوا الملائكة الطيبين
الملاك: لتهدأ قليلا ً
الجسد: أنا أختنق
لقد عشت عمري أدافع عن مبدئي
أدافع عن حق من يملكون الذكاء لكي ينجحوا.. ويسودوا
أكافح ضد الذين يريدون سيطرة الأغبياء من الفقراء
أجل.. أغبياء هم الفقراء.. ولولا الغباء لصاروا من الأغنياء
الملاك: لتهدأ
الجسد: أنا أختنق
ألا تفتح النافذة..؟
الملاك: أترغب أن تحترق..
الجسد: وكيف؟
الملاك: ألست تقول افتح النافذة؟
الجسد: أجل..
الملاك: إنها فوق قلب الجحيم تطل
وأنت بشر لن تتحمل وهج حرارتها
الجسد: أيوجد حقا ً جحيم
إذن أرنيه
هنالك في الأرض من ينكرونه
أولئك أصحابك الملحدون (يسكت قليلا)
ولكن.. لماذا الجحيم
أللتدفئه؟
الملاك: ليحرق فيه العصاة
الجسد: أليس لديكم مشانق؟!!
الملاك: أجل فجميع العصاة يساقون نحو المشانق
وبعض البلاد علي الأرض تستخدم الكهرباء
ولكنكم ماتزالون لم ترتقوا (باشمئزاز واضح)
الملاك: أتدري هنا نحن نغضب حين يموت من الناس شخص علي المشنقة
الجسد: لماذا؟
الملاك: لأن الذي يملك الموت واحد
هو الله.. والقتل بالنار والمشنقة
خطيئة..
تميتونهم رغم أنف السماء
الجسد: ولكنهم هؤلاء الرعاع الذين يثورون في كل لحظة
لهم كل يوم مطالب
لذلك نعدم بعضهمو كي تخاف البقية
الملاك: ولكنهم يطلبون الطعام
الجسد: هنالك من يطلبون السيادة
تصور.. هنالك من يرفعون السلاح بوجه الذين يقودون ركب الحضارة
ويرمونهم لا لشيء سوي أنهم أثرياء
الملاك: ولكنه الجوع ينهشهم
وفيكم كثيرون يعطون إشفاقهم للكلاب
ولا يشفقون علي الجائعين من الناس
الجسد: أنت تأثرت بالماركسيين ليس هنالك شك
أنا جائع.. هل ستمنحني طعامك؟
الملاك: هنا.. لاطعام
الجسد: أليس لديكم سمك
الملاك: سمك؟
الجسد: أجل.. كله فهو مغذ لأمثالك الناحلين
هنالك في الأرض صنف يفيدك (ويلكزه)
هه..
الملاك: لست أفهم؟
الجسد: يفيدك.. هه.. أنت شاب وسيم وتغري النساء
لست معي والنساء عطاشي ورغبتهن شديدة
فذقه ولو مرة واحده
وسوف تقول بأني نصحتك
الملاك: أنت تخرف ليس لدينا طعام
الجسد: هل رأيت لقد كنت أطلب منك طعاما ً فأنكرته
فكيف تريد من الارض أن نتقاسم فيها الطعام الملاك: لقد قلت إن الملائك لا يأكلون
الجسد: (في نوبة ذكاء شديدة)
فهمت.. فهمت لديكم مجاعة
لقد حدثت عندنا ذات يوم
هنالك في الحرب لم نجد القوت حتي أكلنا لحوم الكلاب
ألم تخض الحرب؟
الملاك: لا..
الجسد: ولماذا.. لقد قالت الروح إن لديكم جيوشا ً
تقاتل جانب المؤمنين من مثلنا
ربما استبعدوك لأنك لا تتعاطف إلا مع الملحدين
الملاك: أنا لست في الجيش
الجسد: آه.. إذن انت لم تبلغ الرشد بعد..
ولكنه ليس شرطا ً لكيما تجند
فالآن في الشرق يستخدمون الصغار جنودا ً بحرب العصابات
تصور إذن فتية بين خمسة عشر وستة عشر
يسوقونهم يحملون البنادق.. يستخدمون القنابل،
يهطل من فوقهم مطر مستمر وهم في الخنادق..
لا يلبسون سوي السترة العسكرية إن جاز لي أن أسميها سترة
فهي ذكري ثياب
ولكنني سوف أنسي
أنا جائع
الملاك: ليس هذا بشأني
الجسد: أكاد أموت من الجوع.. آه تذكرت
(مستدركا) لكنني مت..
معذرة.. إنني لست جائع
الملاك: سواء نسيت أو تذكرت ليس لدينا طعام
الجسد: لديكم نساء أليس كذلك
الملاك: ان الملائك لا يقربون النساء
الجسد: ولكن يقال بأن لديكم نساء كفاكهة الموز
أليس لك امرأة تتدفأ في حضنها من كآبة وحدتك القاتلة
الملاك: هنا النساء
(يصمت برهة)
لدينا عذاري
الجسد: (يقفز) عظيم
الملاك: ولكنهن يخصصن للمؤمنين
الجسد: وهل أنا كافر
الملاك: أجل أنت رجس
الجسد: وماذا تريد النساء سواي
لقد قالت الروح إني شره
وأني دنيء
ولكنني لم أكن أكثرت
ففي الأرض.. في ذلك الزمن المر
تصبح متعتنا الواحدة
هي امرأة ناهدة
الملاك: ولكن هذا خطيئة
الجسد: كفي.. هل تصدق موعظة الواعظين
فإنك لو ذقت طعم النعومة في بشرة المرأة الداخلية
لغيرت رأيك
الملاك: هنا هذه اللذة الدنيوية ليست بذات اعتبار
فليس التواصل مثل الذي تدعيه
ولكنه نشوة كالخمور إذا ماسرت في الشرايين
الجسد: (صائحا ً) لديكم خمور
إذن فلماذا تصدع رأسي كالضفدعة
لنشرب كأسين
الملاك: لا
الجسد: ولماذا؟ (يحاول إغراءه)
ستبعث في جسمك الدفء
والآن قل لي.. أجيدة هي؟
ويسكي؟
الملاك: أتهذي؟
الجسد: أكاد أذوب لجرعة خمر..
أجيدة هي؟
ويسكي.
تذكرت.. أنت من البلشفيك
فلابد أنك تخفي زجاجة فودكا
فأين تخبئها؟!
الملاك: أنت أحمق..؟
الجسد: تعال.. فليس يراك أحد..
الملاك: أتدري لماذا انحنيت واصبحت كهلا ً سريعا ً
الجسد: لماذا..
الملاك: لأنك كنت شره
أكلت من اللحم أضعاف ما تستطيع
حسوت من الخمر ما لا تطيق
الجسد: كفي.. لا يهم.. واخرج زجاجتك الذهبية
فهل كنت أحيا لأشرب (قرفة)
الملاك: كفي هذيانا
فانك انهكت نفسك في كل شئ ولم تعرف الاعتدال
هنا في السماء.. تعيش الحقيقة
لأن الحقيقة لا تأكل
ولا تشرب الخمر.. لا تنفق العمر في اللذة المفرطة..
الجسد: كلام فتي لم يجرب
فان النساء مع الخمر سلوي الذين يعيشون في الأرض..
الملاك: هو الحب ملح الحياة إذا شئت معرفة
وكبير هو الفرق مابين معني الأنوثة والحب
ليس هنالك حب بدون نساء
ولكن هناك نساء يمارسن لذتهن بلا أي حب
الجسد: ومن للنساء.. أنتركهن.. فان النساء علي الارض أضعاف كل الرجال
فلا بد أن يعشق الرجل الواحد امرأتين.. ثلاثا
الملاك: لماذا يقل الرجال
لأن جموع الوري تتقاتل
وتخترع الغاز.. تخترع الموت
خذ مثلا ً
أنت تروي عن الشرق.. كيف رجال العصابات يستخدمون الصغار
لماذا لأن الرجال قد استشهدوا
الجسد: إذن قل لهم.. نحن لا نبدأ الحرب إلا إذا هددوا في البلاد السلام
الملاك (بسخرية): تشنون حربا ً إذا ماتهدد صرح السلام وكيف تصون
السلام بحرب؟
الجسد: ومن سوف يحمي السلام إذا لم نكن من يحرسه
الملاك: يعيش السلام
بأغنية الأم للطفل في مهده
بمن يزرعون الزهور
بمن يعرقون أمام حرارة أفران خبز
بمن يحملون كراريسهم في الصباح
بمن يرسمون
بمن يكتبون الكتب
الجسد: كتب!!
لقد كان كتابها مفلسين
وأعرف شاعرة في المساء تعيش كقواده
وفي الصبح تكتب عن ميزة الطهر في الحب
الملاك: هذا أليم
الجسد: لقد كنت أعجب يوما بشوبان
الملاك: قد كان شوبان موهبة ضخمة
الجسد: وماذا استفاد
أما مات بالسل
الملاك: يكفيه مجد الخلود
الجسد: وماقيمة المجد إن لم تعشه
الملاك: وما المجد في نظرتك
الجسد: نساء.. ومال.. وشهرة
أم المجد حين تبيع أثاثك شيئًا فشيئًا إلي بائع الروبابكيا
الملاك: إذا ارتفعت قعقعات السلاح
فلابد أن يخفت الفن بين الجموع
ويخفت صوت المحبة
ولن تخفق الراية المقبلة
إذا ظل في أرضكم عسكريون
فالعسكريون لا يعرفون سوي لغة العنف
سوف يقودكم للفناء
الجسد: أليسوا بشر
الملاك: أجل.. إنهم بشر يضعون علي صدرهم أوسمة
وتخرج ألفاظهم من مناخرهم كالبخر
وحين تخالفهم يقتلونك
الجسد: تذكرت حادثة مضحكة
شقيقي الصغير الذي كان سمحًا وديعا
إذا حادثته فتاة ومرت به احتقنت أذناه
وأدخل كليه الحرب يوما ً ليصبح ضابط
ولكنه مذ تعلم خطو الأوزة
ولم تبق في بيتنا خادمة (يضحك)
ولكنني لم أتوقع أن الجميع كهذا الشقي بلا رحمة
الملاك: وهل تتوقع أن يجعلوه ممرضه
الجسد: ولكنهم أقصد العسكريين
قد أوجدوا لانتصار المبادئ
الملاك: كلام كتاب المطالعة المدرسية.. هذا كلام قديم
أيوجب نصر المبادئ تقديم خمسة ملايين نفس
قرابين للموت؟
الجسد: حقًا لقد مات جاري وكان خطيبًا
يبشر بالخير في أن يكون زعيمًا
الملاك: بذور الزعامة تسحق تحت كعوب البنادق
يدخل ملاك صغير.. يرتدي يونيفورم أشبه بملابس السعاة ذهبي اللون، يحمل دفتر أشبه بدفاتر البوسته في المصالح الحكومية، أسود الغلاف.. ويسلم الملاك
ورقة صغيرة
يوقع باستلامها في الدفتر الكبير - طيلة دخوله وخروجه -لا تتحول عيناه عن الجسد الواقف في وسط الحجرة
الجسد: لماذا يحملق في
الملاك: لأنك أعجوبه في السماء
فقلبك لم يأت يومًا (أحد)
(يقول هذا وهو يقرأ الورقة ثم يهز رأسه ويطبقها في هدوء)
الجسد: إذن ربما قد أتاك (خميس)
الملاك: خميس؟
الجسد: أجل.. إنها نكته
ألست تحب النكات
الملاك: تنكت.. هل أنت في ورطه وتنكت
الجسد: أنت السبب وأنتم جميعًا
لقد كنت أرغب أن أرفع الأمر للمحكمة
ولكنك الآن تسرقني في الحديث وبالثرثرة
ألن ترجعوني إلي الأرض
الملاك: لا.. جاءنا الآن أمر بفحص كل حياتك
فقانوننا في السماء يحتم ألا يعود إلي الأرض من مات
الجسد: لكنني
الملاك (يقاطعه): استمع لي إن رجعت إلي الأرض حيا
فسوف تثير مشاكل لا تنتهي
سوف تصبح معجزة.. ويجن بك الطيبون
وقد يقتلونك
وليس يهم إذا قتلوك
ولكنك الآن جئت هنا واطلعت علي بعض أسرارنا الخافية
وسوف تذيع الذي لم يره
سوي الميتين
الجسد: أؤكد أني سأكتم ماقد رأيت
ولن أتكلم
الملاك: ستنظر أعمالك السابقة
فان كنت ذا سيرة طيبة
فقد يطلقونك
الجسد: (يضرب كفا بكف)
وما السيرة الطيبة؟
أنا لم أكن طيبًا ذات يوم
ولم أكن أؤمن أن هناك سماء
الملاك: سيصدر عما قليل قرار بشأنك
فلا تتعجل
الجسد: ولكنني
الملاك: لن تغير شيئًا بثرثرتك
فلا تتعجل
(يدخل الملاك الذهبي الصغير.. ويسلم الملاك ورقة كالأولي.. وهو ينظر للجسد أيضا) ثم يخرج
الملاك: (ينظر في الورقة) ثم يقرب من الجسد في جدية تامة)
الجسد: تكلم.. أهذا قرار
الملاك: لقد وجدوك حقودا ً.. خبيث الطوية
لا تعبد الله حق العباده..
الجسد: إذن قد بقيت هنا (يسقط ثم ينهض فجأة ثائرًا)
ولكنه ليس عدلا ً
لقد جئتكم ها هنا رغم أنفي
وإني أريد الحياة
الملاك: لتهدأ
فقد وجدوا أن زوجتك الأرملة..
ستنجب طفلا ً
ولسنا نريد له أن يشب يتيمًا
فسوف تعود..
الجسد: تعيش السماء
الملاك: سنرجعك الآن للقبر
وسوف تعود لك الروح بعد قليل
الجسد: إذن سأعيش
الملاك: أجل
الجسد: تعيش السماء
تعيش السماء
(يسدل الستـــار)

* نشرت المسرحية مسلسلة على صفحات جريدة البديل