حين يكون المكان فاضحا للأقنعة:
سؤال الحرية.. مساءلة القمع
يسري عبد الله
تمثل التجربة السردية الستينية علامة فارقة في مسيرة القص العربي، وتمتاز بكونها حاملة لتنويعات متعددة، تشهد بزخمها و ثرائها، ومن ثم فهي ليست كتلة صماء، بل إنها تحوي بداخلها مناحي مختلفة، ورؤي متنوعة، وإن وجدت ثمة قواسم مشتركة بينها، صبغتها بطابع بالغ الخصوصية، ولعل تجربة الكاتب (محمد البساطي) لا تمثل محض تجربة مائزة في السياق السردي الستيني، بل إنها تعد- وبجدارة- من العلامات القارة في السرد العربي، حيث تؤسس لمنطقها الجمالي الخاص، متذرعة بمد إنساني سامق، ومسكونة بعوالم تحمل خصوصية صاحبها. وفي روايته (أسوار)- الصادرة عن دار أخبار اليوم في مصر، و دار الآداب في بيروت- يبدو (البساطي) مهموما باستكشاف الأفق الإنساني الكامن خلف جهامة الأمكنة الصلدة، ومعنيا _ في الآن نفسه- بمساءلة ثقافة القمع و التلصص القارة داخل مجتمعاتنا العربية، فعبر عيني الراوي/البطل (سالم)- حارس السجن- ، وصديقه (شلبي)- حارس المعتقل- تتكشف لنا مناطق جديدة في النفس البشرية، يرتادها هذا الكاتب المسكون باكتناه ذلك الداخل الثري للإنسان.
ثمة وعي حاد في التعاطي مع المكان الروائي Novalic place، حيث لم يعد (السجن) أو (المعتقل) محض أسوار و آلات تعذيب وضباط وكتبة وحراس فحسب، لكنه فضلا عن ذلك عالم قائم بذاته، يتقاطع مع العالم الخارجي في كونه فاضحا للأقنعة، وكاشفا للزيف والتسلط، وحاويا لوسطي بيئي بالغ التنوع، فرواد السجن يختلفون بالكلية عن رواد المعتقل، فالمعتقلون جميعهم إما سياسيون وإما مثقفون، أما رواد السجن، فتتنوع شرائحهم، ويأتي ذكر التفصيلات الخاصة بهم، حتي علي مستوي الزي الذي يرتدونه:
"المساجين بملابسهم الزرقاء هنا وهناك بحثا عن دفء الشمس. ثلاثة أو أربعة بالملابس الحمراء، المحكوم عليهم بالإعدام، يتحركون بين الآخرين أشبه برايات الخطر"، أما رواد المعتقل فيرتدون ملابس بيضاء.
يمثل (السجن) المفردة المركزية بداخل الرواية، وبما يشير إليه من فضاءات مغلقة تتواشج مع العنوان الدال الذي يصدر به الكاتب روايته، غير أن (السجن) هنا لم يكن السور الوحيد الكامن بداخل النص، فثمة عوائق وأسوار متعددة تحاصر البشر، وتحول دون تحقيق حريتهم، لينفتح فضاء التأويل- عبر هذا الفهم- إلي احتمالات عدة، حيث تغادر المفردة فضاءها الدلالي المادي، والمثير بداخل النفس إحساسات الجهامة و القتامة إلي فضاء آخر أكثر وعورة، يتجلي في الحصار المضروب علي الروح والعقل، والذي تكشف عنه الفصول المتعاقبة للرواية.
>>>
يجدخل الكاتب قارئه إلي أجواء النص مباشرة، جاعلا من الفصل السردي الأول تقديمة درامية للرواية، ففيه يكشف عن المكان المركزي بداخلها (السجن/المعتقل)، و يبرز راويه الرئيس (الحارس سالم)، الذي يعيش حالة ولع خاص بالحمام- الترميز الدال علي الحرية-، ليصبح الدالان المركزيان (السجن/الحمام) موشرا علي ثنائية (القمع/الحرية) التي تعد إحدي الآليات المركزية التي تنهض عليها بنية الرواية:
"السجن غير بعيد عن البيت، أراه بسوره المتعرج عندما أكون فوق السطح أطعم الحمام".
ثمة وعي عميق بآليات تشكيل النص، فبعد ان يمهد (البساطي) لعوالمه، يبدأ في العودة إلي جذور الحكاية، إنها اللحظات الأولي التي تفتح فيها وعي (حارس السجن) علي هذا المكان الغامض حين كان طفلا صغيرا:
"المرة الأولي التي أدخل فيها السجن كنت في العاشرة. اصطحبني أبي و كان حارسا هناك. أحواض الزهر علي شكل مربعات تمتد عل جانبي المدخل. صفراء. بنفسجية. حمراء، يتوسطها حوض علي شكل مثلث من الزهور البيضاء، يشرف عليها مسجون يضع دائما سيجارة خلف أذنه و أخري مشتعلة في فمه".
يحاول الكاتب أن يصل بقارئه إلي فعل الإدهاش المبتغي، متجاوزا المألوف من الحكايات عن المكان (السجن/المعتقل)، و الواردة في أدبيات الكتابة عنه، و لذا فثمة حس ساخر ماثل في الرواية، و حكايات تتري حاوية طرافتها الخاصة، فحراس السجن -مثلا- يصيبهم الجنون بعد أن تنتهي مدة خدمتهم، مثلما حدث مع الحراس الثلاثة الذين كانوا يصعدون إلي التلال القريبة من السجن، ليقلدوا أصوات القردة و الحيوانات:
"يمشي الثلاثة بملابسهم الميري متجاورين وسط البلوكات كما اعتادوا وقت أن كانوا في الخدمة، يقصدون الخلاء حيث تتجمع أشجار فوق ثلاثة تلال متجاورة. لا أحد يدري ما يفعلونه هناك. البعض كان يلمحهم و هم يعدون بين الأشجار و صياحهم يترامي إلي البلوكات. و البعض قال إنهم كانوا يلعبون ما يشبه لعبة الاستخفاء. ثم ينفرد كل منهم بتل فلا يراهم أحد، و يتنادون مقلدين أصوات الحيوانات".
تتكئ رواية (أسوار) علي آلية التوالد الحكائي، و تتشكل من عدد من الحكايات الفرعية، ليصبح كل فصل سردي مؤلفا من حكاية تتقاطع مع الحكايات الأخري، سواء في فضحها للأقنعة الزائفة- هذا علي المنحي الرؤيوي-، أو في اتكائها علي السخرية، و روايتها من قبل الراوي البطل (سالم)، أو صديقه- البطل المساعد- (شلبي)- علي المنحي التقني-.
تتعدد الحكايات الفرعية بداخل الرواية، كاشفة عن مدلولات متنوعة حاضرة في النص، و مشكلة لما يعرف بالبنية العميقة Deep structure بداخله، و لعل من أبرز الحكايات الدالة علي ذلك، حكاية الصحفي المعارض (نشأت الدوغري) الذذي اختطفه سائق التاكسي/السجين (أبو كف) بإيعاز من ضابط المعتقل، ثم قام بضربه و تركه عاريا في الصحراء:
"ما جري للصحفي قرأناه نحن الحراس دون تفاصيل في الجرائد، و قلنا إنها حكاية عجيبة. و لم يخطر لأي مننا أن يكون أبو كف مشاركا".
و نلحظ أن الكاتب يتكئ هنا علي مادة حكائية منتقاة من الواقع، غير أنه يضفي عليها من نفسه الخاص، محدثا تخييلا يذهب بها شوطا أبعد، فيجعل من (أبو كف) سجينا يتم إخراجه خصيصا و لليلة واحدة، انتقاما من ذلك الصحفي، في إشارة دالة علي إدانة ثقافة التواطؤ و القمع التي تتحكم في أحوال البشر، غير أن (البساطي) المسكون بشخوصه متتبعا رسم مصائرهم عبر مسار سردي لا يلوي عنقه، يكشف لنا عما دار في سيكولوجية (أبو كف)، الشغوف بامرأته، فيقرر أن يذهب إليها ليقضي معها وقتا ممتعا، لكنه يجدها في حوزة رجل آخر ليصير جلادا و ضحية في آن:
"وجهها النائم. شعرها المبعثر. و من يكون؟ وقف بمدخل الحجرة ساكنا. من؟ يلبس جلبابه المشمور حتي أعلي فخذيه. شعر ساقيه الكثيف. ذراعيه مثنية فوق وجهه. هي بالقميص الداخلي. ترقد علي جنبها، و وجهها للرجل".
و إذا كان الكاتب لم يكسر أفق التوقع لدي المتلقي في الموقف السردي السابق، فإنه فد صنع استبارا واعيا لجوهر شخصيته الروائية (أبو كف) فبدت ثرية و مكتنزة في آن.
يرصد الراوي العلاقات المشوهة داخل السجن، فالولد المخنث (عجينة) يرتبط بعلاقات جنسية مع المسجونين، إلي أن يستأثر به (فارس) الذي يصبح سيده الجديد، غير أن (عجينة) يهوي ملاحقة الرجال حتي ينتهي الأمر بمقتله.
يغوص الكاتب في أعماق شخوصه، ملتقطا ما لا يري بالعين المجردة، فعبر جمل إشارية دالة، يكشف لنا مثلا عن ولع الحراس بقدوم المعتقلين، حيث يصبح قدومهم أشبه بنزول المطر! حتي إن الفترة التي خلا فيها المعتقل من رواده- لم تتعد أسبوعا- اكتسي المكان بطابع ثقيل و بدا كل شئ فيه خاملا:
"سألت الباشكاتب و أنا أمد له أوراق الإفراج عن البعض من الدفعة الجديدة لمراجعتها:
ماجاش يوم كان المعتقل فاضي؟
أما سؤال؟ بس حصل مرة. من سنين.
رجع بظهره إلي الوراء. وجهه العجوز الضاحك:
و لا واحد كان في المعتقل. العنبر قفلناه. القوة كلها. كتبة. حراس. ضباط... يوم وراء يوم و مفيش خبر عن معتقلين، فكرني ببلاد الناس فيها تقعد تستني المطر".
و نلحظ أن ثمة نجاعة في الفكرة السابقة خاصة في احتوائها علي إشارة ذكية إلي حالة الاعتيادية التي آل إليها حال الحراس و الكتبة في التعاطي مع المعتقلين، حتي إنهم يتعاطون معهم بوصفهم (زبائن)، يحكي (شلبي) عن وصول أحد المعتقلين الجدد قائلا: "الزبون الجديد وصل".
>>>
يمثل الحوار أحد أبعاد الرؤية السردية بداخل الرواية، و اللافت أن ثمة تواؤما بين وعي الشخوص و اللغة التي يتحدثون بها، و من ثم جاءت الحوارات السردية طبيعية و بلا افتعال، و يلاحظ أنه قد يلتحم أحيانا خط القص الرئيس مع الحوار السردي، و بما يسهم في تعميق الرؤية داخل الرواية:
"كنت أقف خارج الباب، و الباب مغلق بالسلك يسمح بالتهوية و يمنع الحشرات. أحمل صينية القهوة حيت تأتي و أدخل بها. أصب لهما القهوة في الفناجين، و ألمح في انحناءتي الخاتم الذهبي الكبير بفصه الأسود المائل علي جنب في الإصبع الوسطي ليد الضيف. أتقهقر بظهري للباب و الخاتم لا يخرج من دماغي.
كده و الله يا سالم. ده مش خاتم أبدا. لولا الفص. لم أر في حياتي خاتما بهذا الحجم".
و بعد.. في (أسوار) نحن بإزاء رواية لا تقيم يوتوبيا خاصة عن تحولات الأفراد و مصائرهم، و إنما تعرف جيدا آليات حركة هذا الواقع الموار، و من ثم فهي لا تدلس علي المتلقي، و لا تسهم في تزييف وعيه، إنها تصف الأشياء كما هي، واعية بماهيتها، و بإمكانات تحولها، خالقة عبر ذلك فضاءها الدلالي الخاص، و المتجاوز حد (الأسوار) المادية إلي (أسوار) الروح و العقل، إنها تذهب في الشوط بعيدا لتوقف متلقيها علي حافة المراجعة لواقع غاصب، بدا كل شئ فيه خانقا و مشوها.