سديم الحاضر دفعها إلي الماضي:
تحولات الرواية العربية وانحلال النموذج
د. فيصل دراج
يجقرأ تاريخ الرواية العربية، ربما، انطلاقا من مفهوم : الشخصية _ النموذج، الذي أفضي إلي اشكال روائية متعاقبة، قبل أن يطاله الانحلال، في العقود الأخيرة، ويقترح أشكالا جديدة، لا تزال في طور التكوٌن. والشخصية _ النموذج شخصية محورية، يوكل إليها الروائي التعبير عن الواقع وآفاقه المحتملة. يصرٌح هذا المفهوم بوضوح مزدوج: وضوح وعي روائي يعتقد، بوهم أو من دونه، أنه قادر علي رؤية الحاضر والمستقبل الذي يليه، وواقع واضح لافت التمايز لا التباس فيه ولا ارتباك.
تقترح هذه الفكرة فكرة أخري تقول: إذا كان تاريخ الرواية العربية هو تاريح الأشكال الروائية التي فرضتها تحوٌلات الشخصية _ النموذج، فإن تاريخ المجتمع العربي الحديث يتعيٌن، موضوعيا، بالأشكال الروائية المتعاقبة التي عبٌرت عنه. تنقد هذه الفكرة، ولو بقدر، بعض أفكار النظريات الواقعية الماضية. فعوضا عن اعتبار الأدب انعكاسا للواقع، يصبح الشكل الأدبي مرجع قراءة الواقع وتأويله. أما ما يوحٌد بين العلاقتين، أي الواقع وكتابته الروائية، فقائم في المعرفة الأدبية التي ينتجها النص الروائي ، المتميٌزة بأمرين: فهي معرفة موضوعية تضيء الواقع وتري إلي نزوعه العام، ذلك أن في كل فن حقيقي قيمة معرفية، وهي معرفة مركبة مرجعها التاريخ الاجتماعي والتاريخ الروائي معا، حيث في التحولات الاجتماعية ما ينقد الشكل الروائي ويفرض تغييره. ولهذا يمكن القول : إن التاريخ الروائي للمجتمع أكثر دقة من التاريخ الاجتماعي للرواية، لأن التاريخ الأول نص متعدد المستويات لا تمكن السيطرة عليه، في حين أن التاريخ الثاني خاضع لأهواء ونزوعات أيديولوجية مختلفة.
تطرح فكرة النموذج في الرواية سؤالين: ما هو شكل النموذج الذي تعاملت معه الرواية العربية في أطوارها المختلفة؟ وما هي الأسباب التي أفضت إلي انحلال النموذج منذ عقدين من الزمن تقريبا؟ أخذ النموذج، الذي تعاملت معه الرواية في أطوار مختلفة، أشكالا ثلاثة أساسية: الصبي الواعد الذي احتفت به رواية التنوير والتحرٌر الوطني، البطل الإيجابي الذي توزٌع علي رواية "الواقعية _ الاشتراكية" والرواية الفلسطينية، والنموذج المغترب الذي استهلٌه محفوظ في روايته "اللص والكلاب". هناك بداهة تداخل، ولو بقدر، بين النموذج في اشكاله المختلفة، دون أن يمنع ذلك عن كل شكل ما يميٌزه من غيره، ذلك أن قطيعة كاملة، أو شبه كاملة، حصلت بين التنوير العربي الوليد و"الأيديولوجيات الانقلابية" التي أعقبته في أربعينات القرن الماضي.
الصبي الواعد، الذي احتفت رواية التحرٌر الاجتماعي والوطني، بطل ينتمي إلي المستقبل لا غيره، بل أنٌه هو المستقبل الذهبي الذي تشخصن في صبي متمرد نبيه يمحو بدأب الحاضر السلبي الذي يعيش فيه. ومع أنه ولد في زمن ما قبل _ مستقبلي، فإن أفكاره وأحلامه ومشاريعه لصيقة بالزمن الذي تجسٌد فيه. ومثال ذلك قائم في أربع روايات شهيرة علي الأقل : »عودة الروح« لتوفيق الحكيم »والرغيف« لتوفيق يوسف عواد و»الأرض« لعبد الرحمن الشرقاوي و»الدار« للجزائري محمد ديب. يتطلع الصبي في هذه الروايات إلي المستقبل، وتبرهن إمكانياته أنه قادر علي توليده وترويضه والوصول إليه. يتوحٌد الحلم والمستقبل، ويكون الصبي حالما وصبيا - حلما في آن. تلا النموذج الأول نموذج روائي دعت إليه الواقعية الاشتراكية، منذ مطلع خمسينات القرن الماضي، وعثر علي حياة جديدة له في الرواية الفلسطينية. والنموذج المقصود هو : "البطل الإيجابي: ، الذي عاش الحاضر وأدرك معني الخير والشر فيه، وتحزٌب إلي "خير طبقي" ينتظره الانتصار. يحمل هذا البطل سمات زمن انتقالي، قوامه الصراع بين العدل والحرية، خلافا للصبي الواعد الذي يحمل سمات الزمن الآتي. أعطي حنا مينة في روايات متعاقبة، أشهرها "الشراع والعاصفة"، الصورة الأوضح للبطل الإيجابي، وتحزٌب له الروائيون الفلسطينيون في أعمال كثيرة. فهو ماثل في رواية غسان كنفاني "أم سعد" ، المرأة التي تواجه شقاء الحياة بالمقاومة والكرامة، وكذلك بطل يحيي يخلف في "نجران تحت الصفر" ، الذي هو امتداد أيديولوجي لبطل حنا مينة. وعلي الرغم من ليبرالية جبرا إبراهيم جبرا ونخبويته البيٌنة، فإن بطله الرسولي المنتصر لا يختلف، علي مستوي المضمون، عن بطل مينة ، الذي يعد بالخير ويضمن انتصاره.