المجموعة القصصية "حين تقطعت الأوصال " للكاتبة المكسيكية " أمبار ودابيلا " التي تترجم للعربية لأول مرة، والصادرة عن الهيئة العامة للكتاب بسلسلة الجوائز ترجمة الكاتب محمد إبراهيم مبروك، تكتسب أهميتها لأكثر من سبب، أولا : لانتمائها للأدب اللاتيني الذي يفتح أمامنا في كل ترجمة جديدة نوافذ رحبة علي إبداع يتسم بالزخم الإنساني وبالإمتاع الفني، ثانيا: لأن جانبا من قصصها ينشغل بهموم النساء ويقدم في ذلك نماذج رفيعة تتسم بالنضوج الإنساني والإتقان الفني بعيدا عن صرخات الاحتجاج الموجهة للمجتمع التي كثيرا ما تضعف كتابة النساء عن همومهن .
في قصة "الطبق المفضل للسادة" تتناول "دابيلا" برهافة بالغة اغتراب فتاة ببيت العائلة، حيث يتجسد اغترابها في ذلك الطبق المرعب المعد من كائنات صغيرة تجمع من تحت الأشجار في موسم المطر وتسلق حية "وعندما يبدأ الماء يسخن تبدأ في الصراخ" وعيونها "خرزات صغيرة سوداء تخرج من محاجرها" وبينما تتعذب الراوية بالصرخات التي تمزق القلب لهذه الكائنات الضعيفة تعم العائلة وضيوفها الغبطة الاحتفالية بذلك الطعام وعبر التفاصيل الدقيقة لذلك الطقس تزرعك الراوية في قلب وحشتها وغربتها التي تنتهي بهجرها بيت العائلة.. وفي "الضيف" يفاجئ الزوج العائد من السفر زوجته بـ"كائن" صامت لا تفصح الكاتبة عن كنهه محافظة علي تشويقنا لاكتشافه وبينما ينغص علي الزوجة حياتها يصر الزوج علي الاحتفاظ به، فتقرر بعد عذاب طويل التخلص منه بمساعدة خادمتها، منتهزة فرصة سفر زوجها، ويروحا يتعذبان بصرخات احتضاره لأسبوعين كاملين بعد أن حبساه دون طعام أو شراب في غرفته، والقصة تنجح عبر التركيز علي ذلك الكائن الغامض في إثارة الخيال والتشويق وتعبر بدقة عن تعقيدات الحياة بالبيت حين تتعارض رغبات الزوجين حتي ليدفع ذلك الكائن حياته بموته الدرامي المخيف ثمنا للعجز عن حلها، كاشفة كيف ندفع للقسوة حين تكون هي سبيلنا الوحيد للمقاومة . أما "الآنسة خوليا" فتتناول حياة امرأة خجول وحيدة تعاني الأرق والهلاوس فيفضي بها عدم تفهم الآخرين لارتباكها النفسي العارض وتقولهم عليها بسبب وحدتها وعجزها عن البوح بحالتها إلي مزيد من التعقيدات بحياتها تفضي بها للجنون.
وعبر المزج بين الحلم والواقع وبآلية انتقال الأحلام من لوحة لأخري تصوغ "دابيلا" قصتها" حين تقطعت الأوصال "في لوحات أخاذة ولغة شاعرية حيث" الكلمات مثل شيء يلمس وينبض، الكلمات كوجود مادي لا يمكن تفاديه "وعبر لوحات حلمية عديدة تعبر بمراحل مختلفة من العمر، نجدها في إحداها تقابل في قطار عجوزاً ضامرة متخمة بالفراء والأحجار الكريمة فتتعرف فيها علي نفسها ثم امرأة سمينة تحمل طفلا باكيا وتكون هي نفسها أيضا، وبلوحة أخري تتابع حوارا طريفا وخياليا مع بائع الأقمشة العربي حيث تنبثق الأقمشة بملمسها وإيحاءات نقوشها كعالم ملئ بالحياة مواز لعالمنا لم نلحظه من قبل. وفي "أيام منزوعة من مفكرة امرأة" تغزل عبر التأريخ ليوميات الراوية بين تفاصيل الحياة اليومية وبين عذابات عالمها الداخلي وغازلة بين درج البيت الذي تتواجد به وبين سلم الألم الذي تعاني مراحله" بعد الدرجات العشر من سلمي تبقي فقط ذكري الألم، واستمرار الألم لا يأتي من الأفعال التي تسببه، بل من تذكرها "وهي مع جانب من قصص المجموعة تحتفي بالعالم الداخلي لأبطالها بهذياناته وعذاباته ورؤاه المشتتة مصاغا بعذوبة وخيال يدفعنا للتأمل. أما قصة "المرآة" الغرائبية، فتمثل مرآة بالمستشفي الذي أودع به الراوي أمه، نافذة علي العالم اللا مرأي لقوي الطبيعة الخارقة، فحين يصيبهما ذلك العالم بالرعب ويغطيان المرآة بملاءة لحجبه، يريا من خلفها ظلالاً لمخلوقات غامضة تعاني مكروبة "كما لو أنها تحاول بجهد لا طائل من ورائه أن تجتاز عالما ما" ويسمعان داخلهما موسيقاها المؤلمة اليائسة لينتقل الراوي لاستنكار ما تجلبه لنا مخاوفنا من ذلك العالم الخفي من بلادة وقسوة علي كائناته، فيقرر رفع الملاءة عن المرآة مترفعا علي خوفه ومتقبلا لحاجتهم للحضور "لقد كنا مختارين لمثل هذه الأمور لنتقبلها بلا نكران ولا عنف تجاهها" والقصة تروي بكثير من الإثارة والتشويق وتنتهي بشاعرية مدهشة.
وذلك التناول الناضج لدي "دابيلا "لأحوال النساء يتسق مع العمق الذي تتناول به أبطالها من الرجال، لتؤكد مع غيرها من الكاتبات الكبيرات أن قلب الكاتب رجل كان أو امرأة يتسع للجميع، وهو وما نجده في "موسي وجاسبار" و" نهاية صراع" و "بيت ريفي بمشربيات " و" موت في الغابة " والأخيرة تتناول معاناة البطل في البيت المكدس بالكراكيب التي تراكمها زوجته بينما تشك ومن ضيق المكان وتأمره بفظاظة أن يؤجر شقة أوسع، ويذهب الرجل للبناية التي أعلنت عن شقة خالية ويرهقه الدرج الطويل صاعدا إلي المرأة البوابة التي يضيع منها رقم تليفون صاحبة البيت وسط ركام من كراكيب تناظر كراكيب شقته، وبينما ينتظرها معذبا، يعبر فوق السطح سرب طيور ذاهبا إلي الغابة، فيقرر في الحال اختيار الحياة التي يرغب بها "لكي يتمكن في لحظة ما من أن يحيا بعمق" وحالما بالذوبان في الطبيعة يهبط الدرج ولا يرد علي نداءات المرأة مهرولا إلي الغابة. والمجموعة تتألف من اثنتي عشرة قصة في ترجمة تتسم بالحميمية التي تجعلها قريبة من قلوبنا
آمال الميرغني
جريدة البديل 7/12/2008