| منديل شهرزاد / صرة قصص | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: منديل شهرزاد / صرة قصص الأحد 25 مايو 2008, 2:29 am | |
|
يوميا تقريبا تصادفنا قصص قصيرة مدهشة قصص ساحرة نصوص مصاغة من نور ومن موسيقى من خيال ومن جنون من رقة ومن جموح قصص آهلة بمغامرة الواقع أو مسافرة على أجنحة الخيال حافلة بالدراما أو التشكيل أو البناء الآسر أو اللغات المتراقصة على حد هاوية الروح نصوص لا تنسى لكنها تنسى فى الزحام هنا نحاول أن نحتفظ بها لوقت آخر أن نتبادلها فنتشارك الدهشة والسحر والفرح بكل إبداع جديد أو قديم هنا ضعوا هذه القصص التي ادهشتكم
| |
|
| |
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص الأحد 25 مايو 2008, 9:55 pm | |
| نحو الجنون منصورة عز الدين كنت أراقب جارتى وهى تخطو بدأب نحو الجنون، كانت تتجه إليه بالبساطة نفسها التى تضع بها أكياس القمامة أمام باب شقتها كل صباح، بالإتقان نفسه الذى تطهو به أصناف الطعام التى تغمرنى روائحها الشهية كلما مررت بشقتها الواقعة أسفل شقتى مباشرة. حين انتقلتٌ للسكن فى البناية لم ألحظ أى شىء غريب أو حتى غير اعتيادى فيما يخصها، امرأة فى أوائل الثلاثينيات.. ربة بيت نشيطة وأم وحيدة تبالغ قليلا فى رعاية أطفالها الثلاثة الذين يبلغ أكبرهم تسعة أعوام كما أخبرتنى.
تبتسم فى وجهى كلما قابلتنى على السلم وأنا متجهة لعملى أو عائدة منه، صوتها خافت وملامحها منمنمة بما يتناسب مع قصر قامتها وصغر وجهها، ورغم ارتدائها للعباءة والحجاب الذى يصل إلى ما تحت صدرها كانت لا تحرمنى من تعليق مجامل على تسريحة شعرى أو فستانى القصير أو حتى رائحة عطرى. "تحفة" تقول وعيناها تلمعان بطريقة شخص متشوق للتواصل مع الآخرين.
عادة ما كنت أتقبل تعليقاتها بنوع من التحفظ الذى يشعرنى بالذنب بعدها، حرصت منذ البداية على أن أضع مسافة ملائمة بينى وبين جيرانى، فنمط حياتى لا يسمح لى بتضييع أى وقت فى محاولة التواصل مع أناس مختلفين كليةً عنى، أنا بالنسبة لهم امرأة غريبة الأطوار تتعامل مع بيتها كمجرد مكان للنوم، إذ كنت أغادر فى الواحدة ظهراً ولا أعود إلا مع اقتراب منتصف الليل. لم يكن مألوفا بالنسبة لهم أن تعيش امرأة تعدت الثلاثين مثلى بمفردها، لا زوج، لا أولاد، ولا أقارب. لكن هذه المرأة بدت كأنما ترغب فى أن تتغاضى عن كل هذه المآخذ التى أخذها الجيران علىّ. كنت أرى فى عينيها نوعا من التوق للتواصل معى، عزوتُ ذلك للاختلاف بيننا، فأنا بالنسبة لها أشبه ذلك الغريب الذى نقابله فى سفرة بعيدة ونفضى له بأدق أسرارنا لأننا ندرك أننا لن نراه مرة أخرى. قد أكون جنحت كعادتى إلى المبالغة فى تفسير نظراتها لى، لكنى كنت واثقة من أن هذه المرأة القصيرة ذات الملامح المنمنمة لديها ما تريد إخبارى به. عندما أسمع صراخها الهستيرى وهى تعنف أطفالها بشدة، ثم صوت نشيجها الذى يتلو وصلة التعنيف اليومية، كنت أصاب بالحيرة، إذ كيف للمرأة الهادئة، قليلة الجسم، دقيقة الملامح، التى اصطدم بها من وقت لآخر على دَرَج البناية أن تتحول لهذه المخلوقة الهستيرية التى تحول صباحاتى إلى جحيم بشجارها الدائم مع أولادها، وتضطرنى للاستيقاظ مبكراً حتى فى أيام العطل؟ لا أتذكر الآن متى بدأ صوتها المرتفع ينطلق لتصدح به وهى تقف على بسطة الدَرَج أمام شقتها مناديةً زوجة البواب كى تشترى لها ما تريده من الخارج رغم وجود جهاز الإنتركوم الذى يمكنها من طلب ما تريده من المرأة بصوت هادئ وهى جالسة فى مكانها. كنت أتعاطف مع امرأة البواب وأنا أسمع جارتى تسبها متهمة إياها بتجاهلها، وأشفق على أطفال جارتى المشاغبين - الذين لم أرهم أبداً- حين تعاقبهم بأن تحبسهم فى احدى الغرف وتغلق الباب عليهم، من دون أن تكترث بتوسلاتهم أو بالجلبة التى يسببونها بطرقهم المتواصل على الباب. بدأت أتخيل عقلها كقطعة أرض "شراقى" تشققت بفعل العطش ثم فتحت ذراعيها للماء وقد أخذ يجرى مغطيا إياها، الماء هو الجنون الذى يزحف ليغطى عقلها ويواريه فى الخلفية. لم استطع أبداً أن أتخلص من صورة الأرض العطشى والماء يفيض عليها. كلما اصطدمت بالمرأة على الدرج أو سمعت صوتها الذى أصبح مبحوحاً بفعل الصراخ المتواصل لأتفه الأسباب، أرى شقوقا تبتلع الماء. ذات صباح فوجئت بها تطرق بابى، كانت مرتبكة وعيناها حمراوان كأنما قضت الليل كله فى البكاء، أفسحت لها الطريق فدخلت مباشرة إلى الصالون كأنها تحفظ شقتى عن ظهر قلب. لم أكن قد أفقت تماماً من أثر النوم، فتبعتها بكسل وأنا أردد كلمات الترحيب المعتادة. عندما جلست فى مواجهتها لاحظت أن نظراتها زائغة، وجسدها يرتعش بعض الشىء. أخذت تنظر حولها بتوتر للتأكد من أننا وحدنا. ثم انتفضت فجأة متجهة لجهاز التلفاز، وغطته بمفرش منضدة الصالون. ونظرت للسقف والجدران بتمعن، ثم اقتربت لتجلس بجوارى على الكنبة وهى تهمس: - معلش. الاحتياط واجب. لم أعلق واكتفيت بابتسامة مشجعة، فبدأت تحكى وهى ترجونى أن أصدقها وألا أتهمها بالجنون كالآخرين. قالت أنها لم تعد تتحمل الحياة على هذا النحو، وأن طليقها يراقبها ويرصد كل حركاتها حتى فى غرفة نومها لدرجة تضطر معها للنوم وهى مرتدية العباءة والحجاب. طلبت منى أن أنزل إلى شقتها لرؤية الكاميرات المزروعة فى أركانها فتبعتها متضررة، حين وصلنا لباب شقتها وضعت سبابتها أمام فمها طالبة منى ألا أتكلم، دخلت على أطراف أصابعها وأنا خلفها. بدا بيتها كأنه نسخة منقولة عن بيتى بكل تفاصيله، الأثاث، وألوان الستائر وحتى اللوحات المعلقة على الحوائط. تلفازها كان مغطى هو الآخر. اندهشت وشعرت ببعض الخوف النابع من عدم الفهم. نظرت حولى بحثا عن أولادها إلا أننى لم أعثر لهم على أى أثر. دخلت معها كل الغرف فأخذت تشير إلى ما تظنه كاميرات سرية وأجهزة تنصت. كنت مشغولة فقط بالبحث عن أى أثر للأولاد الثلاثة المزعجين. تركتنى لدقائق للذهاب إلى الحمام، فتسللتُ لغرفة نومها، كان هناك جهاز تسجيل كبير وبجواره عدة شرائط كاسيت، من دون أن أفكر فتحت بابه وأخذت الشريط الموجود بداخله وأخفيته فى ملابسى واتجهت للباب. فى شقتى رحت استمع لأصوات الأطفال المنطلقة من الكاسيت، مرة يطرقون على باب ما وهم يتوسلون من أجل اخراجهم، وأخرى وهم يلعبون بأصوات صاخبة تقطعها فترات صمت تام. كانت الأصوات نفسها التى اعتدت سماعها منبعثة من شقة جارتى، لكن من دون صوتها هى، يبدو أنها كانت تضيفه على الأصوات المسجلة. لم أجد أطفالها الثلاثة حين دخلت شقتها لأنهم ببساطة غير موجودين من الأساس، تذكرت أنى لم أرهم أبداً، وكل معلوماتى عنهم كانت مستقاة من الكلمات القليلة التى كنت أتبادلها مع جارتى حين ألتقيها على بسطة السلم. كونت عنها فكرة الأم التى تبالغ فى الاهتمام بأطفالها لحرصها على الإشارة إليهم فى ثنايا كل جملة توجهها لى، ولروائح أطعمتها الشهية التى ترشح أم حريصة على تزويد أبنائها بتغذية سليمة، ولملابس الأطفال التى اعتادت أن تنشرها كل يوم تقريباً على حبل غسيلها. شعرت بنوع من التعاطف معها وقررت أن أزورها فى اليوم التالى متعللة بأى حجة، رغم معرفتى بأنها نظرا للبارانويا التى بدت واضحة عليها ونظرا لخروجى المفاجئ من شقتها ربما تظننى جاسوسة لطليقها عليها. فى الصباح وجدت نفسى واقفة أمام الشقة الواقعة أسفل شقتى. طرقت الباب ثلاث طرقات خفيفة، ففتحت لى امرأة فى حوالى الخمسين ترتدى ملابس بيت قطنية وتبتسم ابتسامة مرحبة. سألتها عن..... عن ..... اكتشفت أننى لا أعلم اسم جارتى فوصفتها لها وقلت أنها تسكن هذه الشقة. أخبرتنى المرأة الخمسينية أنها تسكن هنا مع ابنتها الجامعية منذ عشر سنوات، ولا تعرف عمن أتحدث. بدا عليها نفاد الصبر وهى ترمقنى بنظرة متشككة. فاعتذرت وأنا أغادرها محرجة.
* كنت أتابع المرأة غريبة الأطوار التى تسكن فى الشقة التى تعلو شقتى، دون أن اتكلم معها، اعتدت أن أقابلها من وقت لآخر على دَرَج البناية، كانت دائما فى عجلة من أمرها، تهبط درجات السلم أوتصعدها عدوا كأن هناك من يطاردها. امرأة فى الثلاثينات تقريبا بجسد ضئيل وملامح منمنمة، تترك شعرها الطويل منسدلا على كتفيها، وترتدى ملابس قصيرة وأحذية ذات كعب عالٍ بدرجة ملحوظة. حرصت على تجنبها منذ البداية إذ بدت لى غير متزنة بعض الشىء سمعتها أكثر من مرة تحادث نفسها وهى تصعد أو تهبط، كنت فقط أتبادل معها تحية الصباح أو المساء حين أقابلها على الدرج فترد دون أن تنظر إلىّ ثم تواصل همهماتها غير المفهومة. كان من الممكن أن تظل كغيرها من الجيران بالنسبة لى، فعدم اتزانها يخصها وحدها طالما بقيت مسالمة وغير عدوانية، غير أننى بدأت اتضايق من الجلبة التى تصدر بشكل دائم عن شقتها رغم معرفتى بأنها تسكن وحدها. كانت هناك ضوضاء ناجمة عن بكاء أطفال صغار وشجارهم مع بعضهم البعض. وصوت امرأة تبدو كما لو كانت أمهم تعنفهم وتصرخ فيهم بشكل دائم. حين شكوت لحارس البناية وطلبت منه أن يبلغها بانزعاج الجيران من الأصوات المرتفعة الصادرة من عندها ليل نهار، فوجئت به يخبرنى أن جارتى غير المتزنة نفسها قد اشتكت من تلك الضجة مؤكدة له أنها تصدر من شقتى أنا!! ذات يوم كنت على وشك الصعود إليها كى أبدى لها انزعاجى وعدم استطاعتى النوم بسبب صخبها، إلا أننى وجدتها هى من يطرق بابى لتسألنى عن امرأة ضئيلة الجسم ترتدى العباءة والحجاب مدعيةً أنها تسكن شقتى. أصبت بالذهول، وأنا أراها تلفق هذه الادعاءات السمجة، فالمرأة ذات العباءة والحجاب تشبهها هى تمام الشبه لدرجة تصورت معها حين رأيتها للمرأة الأولى أنها توأمها وتسكن معها، إلا أن البواب أخبرنى أنه لم ير الاثنتين معاً ولو لمرة واحدة، وأنه يعتقد أنهما الشخصية نفسها. تمالكتُ أعصابى واكتفيتُ بقول أنى أسكن هنا مع ابنتى وحدنا منذ عشر سنوات ولا نعلم شيئا عن المرأة التى تسأل عنها. بدا اندهاشها حقيقيا وهى تسمع منى ذلك، كانت على وشك أن توجه لى أسئلة أخرى، فأمسكتُ بالباب كأنى على وشك إغلاقه وأنا ابتسم لها بود مصطنع فغادرتْ محرجة.
* لا أعرف على وجه اليقين من أوصلنى إلى هذا المكان القبيح، لكنى أعتقد أن المهووسة ذات العباءة السوداء والملامح الدقيقة لها علاقة بالأمر، أو قد تكون المرأة الخمسينية التى وجدتها تسكن فى شقتها بدلاً منها. أريد العودة إلى بيتى وعملى من جديد. لن أزعج أحدا مرة أخرى رغم تيقنى من أننى لم أزعج أى أحد فى المرة الأولى. لماذا لم يصدقونى حين أخبرتهم أن المرأة الهستيرية التى تسكن أسفل شقتى هى من يزعجهم؟ وجود عباءتها وملابس أطفالها فى دولاب ملابسى لا يثبت أى شىء. يجب أن يصدقونى. يمكنهم أن يتصلوا بطليقها الذى انتزع أطفالها منها بحكم محكمة كى يؤكد لهم جنونها هى لا أنا
جريدة الحياة 15/4/2008
| |
|
| |
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص الثلاثاء 27 مايو 2008, 11:24 pm | |
| حكاية..الحياة مكتوبة مرتين طارق إمام
تنبأت لي عرافة في طفولتي بأن خطِّي الجميل سيكون لعنتي الأبدية . كنت في الثامنة ، أجلس وحدي على شاطيء البحر .. و كتبتُ على الرمل اسمي بالخط الكوفي و الفارسي و الديواني . كنت أنظر في الرمل حين فوجئت بقدمين معروقتين قاسيتين تدوسان اسمي ، تمحوانه .. بالتزامن مع موجة عنيفة جاءت لتبل الرمل و تغرق القدمين .. كأن الكون قد تآمر على محو اسمي . رفعتُ عينيّ، و رأيت المرأة الأكثر شيخوخة في هذا العالم .. زرقاء ، ترتدي ملابس مهلهلة . شعرها أبيض و محلول و مُلقى للأمام حتى أنه أخفى وجهها تماماً . قالت لي :" أنت تريد أن تفنى .. أنت تريد أن تموت ". لم أُجبها . نَزَلَت من عليائها و جلست بجواري . نكَشَت الرمل كالمجذوبة فعاد اسمي للظهور من الخواء ، مكتوباً كما كان بالخطوط الثلاثة . كأن قدميها لم تمحوانه . كأن البحر لم يحوله إلى عدم . قالت لي : من أنت ؟ فقلت إنني لا أملك سوى ما تراه . كنت بلا أسرة . وُجدت في خان مع رجل عجوزقال إن أهلي ائتمنوه عليَّ قبل رحيلهم و لم يزد أبداً حرفاً على هذه العبارة الغامضة التي صارت من حينها تاريخي الوحيد .لا أعرف حتى الآن إن كان الرحيل كان بمعنى السفر أم الموت .كان خطاطاً ، يعيد نسخ المخطوطات التي تصله .. سواء كانت أعمالاً ستخلد لكتاب العصر أو خطابات غرامية لفتيات سيئات الخط رغم أنهن على الدوام جميلات . بعد عامين من لقائي بالعرافة صرت خطاطاً رسمياً في الخان . أوكل إلي الرجل في البداية أمر الخطابات الغرامية و الأوراق التي لا أهمية لها سواء للدولة أو للتاريخ ورغم أنه كان بذلك يحرمني من شهرة مبكرة ، إلا أنه أيضا كان يجنبني الخطر .. و لكنه مالبث أن ترك لي كل شيء حيث اشتد عليه مرض غامض صارت معه يده تلازمها رعشة لا تتوقف . كنت أعرف أن هذا قدر أي خطاط .. تموت يده أولاً كعلامة على موته الوشيك القادم . هكذا بدأت شهرتي تذيع كأصغر خطاط ـ و الأكثر مهارة في الواقع ـ في البلاد . و بعد عامين آخرين توفي صاحب الخان و معه سر وجودي كله . في لحظات احتضاره طلب مني صاحب الخان أن أقترب منه ، أمسك يدي بيده و قرب فمه من أذني حتى أن أنفاسه الثلجية الأخيرة اخترقت أذنيَّ ، قال : أنت تريد أن تعرف من أنت. قلت : لا . كنت أعرف أنه في سنوات عمري الثمانية عشرة التي بلغتها لن يكون مجدياً أن أعرف أي أب لي و أي أم . و كنت في الحقيقة قد تأكدت أن السنوات التي يكوًّن فيها المرء مشاعره الأساسية تجاه من حوله قد ولت . و من ناحية أخرى ، كان غموض قصة حياتي قد منحني الفرصة في حرية الكذب بخصوص نشأتي حين أتحدث للبنات الجميلات ، دون أن أكون ملاماً .. و لم أكن على استعداد لتحمل صدمة أن يكون أبواي فقيرين ، أو أكتشف أنني ابن زنا . لم يلح الرجل في طلبه ، كأنه كان ينتظر رفضي ليخلص ضميره و حسب من عبئي . أوصاني على الخان من بعده ، و قال لي : ـ لقد تركت خلفي مخطوطات عديدة لم يكتمل نسخها .. غير أن أخطرها على الإطلاق هو هذا .. ثم مد يده و أخرجه من تحت وسادته . منحه لي ، مع مخطوط آخر يحمل ما نسخه منه ، ثم أكمل : " .. و عليك أن تكون حذراً .. فلن ترى صاحبه أبداً ، لأنه الموت نفسه.. و سيكتفي بإرسال فتاة جميلة بلا اسم نهاية هذا الشهر لتستلم الأصل و المخطوط المنسوخ " . و أكمل الرجل بصوت مرتعش : "هذا المخطوط فيه حياتك و موتك .. فإن لم تنجزه في موعده المطلوب سيكون مصيرك هو الموت .لقد حاولت دائما أن أجنبك هذه المخاطر غير أنك صرت وريثي الوحيد .. و أراك قد كبرت و صرت مهيئا لمواجهة الخطر " . بعدها أغمض الرجل عينيه للأبد . وجدت نفسي مطالبا باستكمال المخطوط السري الذي بدأه الرجل و لم يكمله . بدأت بتصفح المخطوط الأصلي ، و لكني فوجئت بأن صفحاته بيضاء ، خالية من أي حرف ، و بجانبها المخطوط الذي ينسخه الرجل ..و انتابني شعور بالرعب ، حيث لم أعرف ما الذي كان الرجل ينقله بالضبط من تلك الصفحات البيضاء .. و شغل حياته طيلة العامين الأخيرين . بدأت أقرأ ما كان الرجل ينسخه في مخطوطه .. و صفحة بعد أخرى انتابني الذهول ، بل الرعب ..كان الرجل يكتب قصة حياة طفل يتيم آل إليه أمره و صار خطاطا ..في الحقيقة كان الرجل يخط قصة حياتي أنا بالذات .. و لكن كتابته انتهت عند اللحظة التي أحياها الآن .. و أنا في الثامنة عشرة من عمري .رغم ذلك لم يقل من هما أبوي و لا كيف ولدت .. و إن كان كتب أسرارا عميقة تخصني ظننت أن لا أحد غيري يعرفها ، و منها لقائي الغامض بالعرافة و الذي لم أخبر أحداً به . ما الذي كان الرجل سيكمله ؟ .. هل يحوي المخطوط قصة حياتي منذ ولادتي حتى لحظة موتي ؟! . أصابتني الصاعقة في مقتل ، فقد كان عليَّ أن أنسخ حياتي بالذات ، إلى جانب أن حياتي هذه نفسها كانت في المخطوط الأصلي عبارة عن صفحات خالية . رحت عبثا أقلب في الأوراق الفارغة .. لم يقل لي الرجل كيف كان يعيد نسخها .. و لا يوجد من أسأله ..فلا أعرف لهذا المخطوط صاحب .. تتبقى أيام ثلاثة على تسليم المخطوط كاملاً ، و الموت هو مصيري الوحيد . فجأة .. برزت في ذهني فكرة غريبة .. إذا كانت الحكاية التي في المخطوط هي حكايتي .. فلأتخيل بنفسي حياتي المقبلة .. فأنا في كل الأحوال ميت . شعرت بأنني مقبل على لعبة مثيرة ، و كنت كلما تذكرت كلمات صاحب الخان الخاصة بحياتي المعلقة على هذه المهمة أرتعد و أشعر أن الموت قريب مني للغاية . بدأت الكتابة ، كنت في البداية أكتب عبارات بسيطة من تلك التي يمكن أن تعبر عن حياة أي شخص في الدنيا ،و لكن اللعبة ما لبثت أن جذبتني وانهمكت فيها بكل جوارحي ، مرت الأيام الثلاثة و لم أكن قد كتبت سوى صفحات قليلة ، فانكمشت من الرعب .. ولكن لحسن الحظ ، مرت الليلة التي انتظرت فيها الإطاحة برقبتي دون أن يأتي أحد . بعدها زاد إحساسي بالأمان فرحت أكتب بانسيابية أكبر ، و بخط جميل متقن لم أكتب مثله في حياتي . كنت أؤلف لنفسي حياة لم أعشها ، سافرت بلادا و عرفت أعداء و أصدقاء .. و مع كل مرحلة في حياتي كنت أنوِّع الخطوط حتى صارت تلك الخطوط تشبه تموجات حياتي التي رحت أؤلفها كأنني أكتب عن شخص آخر عاش و مات بالفعل قبل أن أجيء أنا للوجود . لا تريد الحكاية أن تنتهي .. و لا أحد يجيء .. مرت سنوات و سنوات و أنا أكبر في الواقع مثلما أكبر في الحكاية .. حتى جاء يوم فوجئت فيه بيدي ترتعش كلما كتبت سطرا ، و بدأت تعصاني بينما كنت في المراحل النهائية من كتابة حياتي . هنا عرفت أنني قد بلغت الشيخوخة و صرت على وشك الموت . لا أعرف كم مضى من العمر .. كل ما كنت أعرفه أنني أتممت أخيراً كتابة حياتي التي انتهت بتسليمي المخطوط لصاحبته دون أن أنتظر ثوابا أو عقابا ، لأنني ، و كما كتبت في المخطوط ، مت بعد تسليمه مباشرة في سريري .. هكذا أنهيت حكايتي في المخطوط . لحظة انتهائي فوجئت بطرق على الباب ، فتحته بلهفة ، وجدت امرأة مغطاة الرأس تقف قبالتي مادة يديها الاثنتين، عرفت من إشارتها أنها جاءت في طلب المخطوطين : الأصلي ، و ذلك الذي أكملتُ كتابته . قلت لنفسي : هذه إذن هي الفتاة التي حدثني عنها صاحب الخان قديما ، لكن .. هل لازالت فتاة ؟ و ماالذي فعله بها الزمن ؟ و لأنني لم أعد أملك ما أخسره فقد كشفت وجهها بكل ما أملك من قسوة ، و لكنها لم تفاجأ بما فعلت ، و لم تحاول منعي .في هذه اللحظة رأيت أمامي الوجه المبتسم للعرافة التي زارتني في طفولتني ، محتفظة بشيخوختها و بلمعة العينين اللتين تقرآن حياة الناس القادمة . اتسعت ضحكتها بمجرد أن صار وجهها مكشوفاً ..حتى هيء لي أن المدينة بأسرها قد سمعتها ، و قالت : "لقد كتبت حياتك و لكنك لم تعش حرفا مما كتبته " .بدأت تقلب المخطوط بين يديها ، وهي تطالع خطي الجميل . طلبت مني المخطوط الأصلي ، فقدمته لها .. فتحته و قالت :" اقرأ ". قلت لها إن صفحاته بيضاء ، فأتت بضحكة ماجنة أعنف من سابقتها ، و فتحته أمامي بنفسها .. فوجئت بكل صفحاته مكتوبة .. أخذت أقرأ صفحة بعد الأخرى و فوجئت بأنني كتبت بالضبط ، و بنفس الصياغة ، قصتي التي في المخطوط الأصلي . قالت : "هذه الحياة الممتعة التي تمنيتها لنفسك هي بالضبط ما كان يمكن أن تحياه إن أنت فكرت في حياتك ..و لكنك لم تفكر لحظة في نبوءتي القديمة لك " . غادرتني حاملة حياتي المكتوبة مرتين ، و بينما أشعر بانسحاب أنفاسي التي بدأت تغادر الحياة ، سمعت صوتها القادم من المجهول يردد: ألم أحذرك في طفولتك ؟!.
جريدة الدستور 26 مارس 2008
| |
|
| |
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص الأربعاء 28 مايو 2008, 2:48 am | |
| قميص هاواي إيهاب عبدالحميد
قررت اليوم أن أرتدى "قميص هاواى" للمرة الأولى، وبرغم مللى المزمن من كل ما حولى فقد كان مزاجى رائقا وكان الصيف قد حل فجأة فى غير موعده. القميص أزرق متخم بأوراق شجر بيضاء، وقد جاءنى هدية من صديق بعد أن عاد من رحلته المربكة حول النصف الغربى من الكرة الأرضية. لم يكن صديقى ثريا ثراء فاحشا يتيح له أن يقضى إجازاته فى هاواى، كل ما فى الأمر أنه كان يعمل فى السعودية وتعرف على أحد الأمراء، ووجد نفسه على متن طائرة خاصة تقطع المحيط بصحبة هذا الأمير، قضى صديقى ثلاثة شهور تقريبا ينزل بلدانا لا يعرفها، ويغادر بلدانا لم يرها، ينام فى جزيرة ليصحو فى جزيرة أخرى، حتى عاد إلى الوطن محملا برحلة تشبه الحلم المزدحم، كانت تفاصيل الرحلة الحلمية تتقافز على أعصابه، لم يكن سعيدا أو حزينا، لم يصب بالفصام ولم يعتريه اكتئاب غامق، كان تائها فقط، وهى مشكلة بسيطة سيعالجها الأطباء سريعا فى المصحة النفسية. أنا عن نفسى متفائل، وأنتظر خروجه عما قريب. على أى حال تلك مشكلة صديقى، وبرغم كونه صديقى إلا أنه ليس بطل تلك القصة، وعلى ذلك يصح أن نتركه يتمتع بسريره الأبيض وعينيه الزائغتين، ونتكلم عما أردنا أن نتكلم عنه فى الأساس: "قميص هاواى". جلب لى صديقى "قميص هاواى" من جزيرة لا يعرف اسمها، ولكنها كانت واحدة من تلك الجزر التى تشبه حقيبة محشوة بالشمس والهواء والرمال ومايوهات البكينى والنخيل والفواكه الاستوائية والأكلات البحرية، لذا فقد أطلقنا عليها اختصارا اسم "هاواى"، ومن ثم فقد أطلقنا على القميص "قميص هاواى"، وقد سرد لى صديقى المغامرة التى انتهت بحصوله على هذا القميص، ولكنى اعتبرت قصته من هذيانات خياله المريض، ولم أعرها الكثير من الاهتمام. اليوم انقض الصيف على الشتاء دون أن يمنح فرصة لربيعنا المعتاد، ولأنى لا أُجلّ الربيع كثيرا فى هذا الجزء من الكرة الأرضية، لم أكتئب، وتعاملت مع الأمر ببساطة مثلما تعامَـلَت الحشرات مع العصر الجليدى قبل مليون أو مليونى أو ملايين السنين. بل وقررت أن أستقبل الفصل الجديد بالقميص الجديد الذى كنت قد وضعته تحت السرير مع عدة الصيف الأخرى. ولحسن حظى كان لدى بنطلون من الكتان الأبيض، وحذاءً صيفيا أبيض، فرششت بعضا من عطر الخوخ على رقبتى واكتمل الهندام. وضعت المفاتيح فى جيبى الأيمن، والموبايل فى جيبى الأيسر، وحافظة النقود فى جيبى الخلفى، والقداحة فى علبة السجائر، وعلبة السجائر فى جيب قميصى وغادرت منزلى العزيز دون أن أودعه، إذ لم أكن أتخيل وما كان من الممكن أن أتخيل أننى لن أعود إليه ثانية. منزلى على كل حال لا يستحق الكثير من الوداع، لو قيل لى إننى سأتركه غدا لما انشغلت به كثيرا، بل لدسست أغراضى فى حقيبتين واندلقت على السرير، ثم لصحوت وارتديت ملابسى وحملت الحقيبتين ورحلت دون أن ألقى له بقبلة. والواقع أن العيب ليس فى المنزل وحده، ولكن فىّ أنا شخصيا أيضا، فعلاقتى بالأماكن مثل علاقتى بخيار البحر. عندما كنت صبيا كنت أحلم بأن تكون لى شقة أنظفها وأعتنى بها، وأزرع الجرجير فى حديقتها، وأعلق الصور على جدرانها، وأملأ هواءها بالبخور والموسيقى. لكن الله منحنى شقة فثانية فثالثة، وكل ما كنت أفعله فور أن أدخل من الباب أن ألقى بملابسى فى أى ركن، ثم استلقى على الفراش، لأصحو فزعا ومتأخرا –لا أعرف على ماذا- فأنطلق إلى الحمام، وأخرج لأدخل فى ملابسى، ثم أمرق من باب الشقة. لذا لم أشعر بكثير من الأسى أننى غادرت شقتى بلا رجعة وبلا وداع. عندما أغلقت الباب ونزلت إلى الشارع أعمَت حرارة الشمس عينىّ، كانت صدمة قوية على أعصابى البصرية العليلة من الأساس، فدخلتُ فى شبه إغماءة استمرت لثوان وأنا واقف مكانى، وعندما أفقت من إغماءتى وبدأت أرى العالم من حولى مجددا، كان كل شىء قد تغير. الآن أنا فى مساحة واسعة من الرمال يتقافز من حولى أطفال صغار يطاردون كرات بلاستيكية، ويتمدد أمامى شبان وفتيات بملابس البحر. البحر نفسه كان أمامى بلون أزرق داكن ملتحما بسماء فاتحة مبقعة بشمس عاتية. التفتُّ خلفى فلم أجد البيت، وأدركت أن حياتى القديمة ذهبت إلى غير رجعة. أنا متفائل بطبعى، لذا قررت أن أنظر إلى الجانب المشرق من الموضوع، وفنّدت الوضع الحالى كالتالى: أولا: يبدو ذلك العالم أفضل كثيرا من العالم الذى كنت أعيش فيه والذى أصابنى بملل مزمن لم تنجح أقراص الأطباء النفسيين ولا نصائحهم التبشيرية فى علاجه، ثانيا: مشكلاتى فى عالمى القديم ذهبت معه إلى غير رجعة وهذا أمر يدعو للسرور، ثالثا: أنا رجل صاحب موهبة وذكاء –بل ودهاء- وهذا سيمكننى أن أكسب عيشى هنا مثلما كنت أكسب عيشى هناك، رابعا: هذه فرصة لم أكن أحلم بها، أن تتغير حياتى فى طرفة عين لأعيش حياة جديدة، وكأننى ولدت من جديد، وكأننى عشت حياتين، وكأننى بوذى مخلص نقى القلب انحشرت روحه فى جسد آخر أكثر حظا. وهناك خامسا أيضا: لقد جئت إلى هذا المكان بالمظهر الملائم: "قميص هاواى" والبنطلون الكتان الأبيض والحذاء الصيفى الأبيض. الخلاصة.. إذا كانت الحياة قد تغيرت هكذا، فسأبدأ حياتى الجديدة الآن وفورا، وسأسعى لأن أجعلها سعيدة. أستطيع الآن أن أغير شخصيتى، عندما أحصل على شقة جديدة سأزرع الجرجير فى حديقتها، وسأعلق الصور على جدرانها، وأملأ هواءها بالبخور والموسيقى. كل تلك الأفكار تجمعت وتصارعت وتآلفت وهدأت وراقت فى ذهنى فى ثوان، بعدها رفعت قدمى اليمنى –كفأل حسن- لأخطو أولى خطواتى فى العالم الجديد. تجولتُ على الشاطئ، تمددتُ على الرمال بجوار مجموعة من الشباب، كانوا يتناولون الساندويتشات، وشعرت بجوع فجائى. أحدهم نظر إلى فجأة، ومد يده بساندويتش، وبعد دقيقة انتقلتُ لأمدد بجوارهم، وأصبحنا أصدقاء. على أنغام الأنخاب وطقطقة زجاجات البيرة حاولتُ أن أجمع بعض المعلومات عن هذا العالم الجديد، دون أن أبدو غريبا فينفروا منى. لن يصدق أحد فيهم قصتى، لذا فمن الأفضل أن أفهم قوانين هذا العالم الجديد واحدة واحدة، دون أن أثير ريبتهم بقصص خرافية عن عالم آخر. لقد عانيت مر المعاناة فى عالمى السابق كونى لا أشعر بالانتماء. ولقد قررت –بين ما قررت- أننى سأنتمى إلى العالم الجديد أيا كان. كانوا ثلاثة شبان وفتاتين، أسماؤهم مصرية خالصة، ولسانهم مصرى قويم، فلم أشعر بالغربة، وجلسنا نتبادل النكات والألعاب ونراقب بقية خلق الله على الشاطئ وننم عليهم. إلى أن سمعنا قرقعات وفرقعات فتوترت الأجواء، وبدءوا الاستعداد للرحيل، فقمت معهم. أسر لى شاب منهم "هل لديك مكان"؟ أجبتُ بالنفى، فهز رأسه وكأن ذلك أمرا اعتياديا ومفهوما وقال "ستأتى معى". ارتدوا ملابسهم بينما كنت ما أزال فى "قميص هاواى" والبنطلون والحذاء. وغادرنا إلى شوارع المدينة. بمجرد أن غادرنا الشاطئ التفتُّ ورائى فلم أجده. لا أتكلم عن صديقى، بل أتكلم عن الشاطئ نفسه. لقد اختفى، وأصبحنا فى شوارع أسفلتية محاطة ببناءات حديثة وعتيقة. وقف السؤال فى حلقى: أين ذهب الشاطئ؟ فكرت أن أسأل صديقى الجديد محطما قاعدة عدم السؤال، ولكنه بادرنى بأن سحبنى من ذراعى وانطلقنا نركض. وقد كان ذلك فعلا سديدا أشكره عليه، فقد سقطت قذيفة فى الموقع الذى كنا فيه قبل ثوانى، وانتشر الدخان فى كل مكان مصحوبا ببعض الذعر. قال لى "الميليشيات تسيطر على الطرق الرئيسية. سنتحرك فى الأزقة"، لم أستطع أن أوقف السؤال فى حلقى "أى ميليشيات". توقف عن الهرولة ونظر لى فى استغراب وكأنه ينظر إلى عدو، تجمدت عيناه بنظرة صارمة ومخيفة، فابتسمتُ ابتسامة هروب عريضة، قال "لا وقت للمزاح" وسحبنى وظللنا نجرى حتى وصلنا إلى بيته. قبل أن ندخل البيت كانت الشمس ساطعة، وفور أن دخلنا وجدت الظلام يطل علينا من النوافذ. دخل صديقى غرفته وهو يقول "الوقت تأخر.. تستطيع النوم على هذه الكنبة". لم أعرف كيف مر الوقت بهذه السرعة، لكننى شعرت بالفعل وكأنى ظللت مستيقظا ليوم كامل. وكان الحل الطبيعى أن أنام، فخلعت قميصى وبنطالى وحذائى وتمددت قائلا "الصباح رباح". فى الصباح كان كريما معى، أعد لى إفطارا وقهوة لم أشرب ألذ منها فى حياتى. دخلت الحمام، وارتديت ملابسى الوحيدة، وخرجت لأجد يده ممدودة لى بـ"كلاشينكوف"، بينما يعلق آخر على كتفه. لم أكن أرغب فى السؤال لذا لم أنطق به، لكن يبدو أن عينى فضحتنى، إذ عادت إلى عينيه تلك النظرة وهو يقول "أنت معنا.. أليس كذلك"، ابتسامة هروب أخرى وأنا أمد يدى باتجاه "الكلاشين"، وقال: اخرج وانتظرنى أمام البناية. خرجت من البناية وأنا أعلق "الكلاشين" على "قميص هاواى"، بديا لى غير متناسقين، وتمنيت للحظة أن أعود إلى عالمى، لكننى سحبت تلك الأمنية، فمن الحماقة أن تحلم بأمنيات لن تتحقق. بمجرد خروجى أعمت الشمس عينى مجددا، وواتانى خاطر مخيف فالتفت خلفى، لم أجد البناية، بل وجدت شارعا طوليا طويلا طويلا يعج بناطحات سحاب، كما وجدت امرأة تنظر لى فى ذعر، وأدركت الموقف فى لحظة، لقد اختفى العالم الثانى وحل العالم الثالث. خلعت "الكلاشين" مع على كتفى ودسسته تحت سيارة، وتحركت سريعا وأنا ألوح ببلاهة للمرأة المرعوبة. الآن بدأت أدرك أننى فى كابوس بلا مخرج. فى الشوارع الضاجة بالنشاط كان يبدو أن كل إنسان فى حاله، وقررت أن أستعين بالتفاؤل مجددا، قلت: هناك منطق فيما يحدث، بالتأكيد هناك منطق، سأحتاج بعض الوقت كى أفهم المنطق، وبعدها سأستطيع التكيف، أيا كان العالم الذى أعيش فيه، أيا كانت العوالم التى أنتقل بينها. وكما يعيش الآخرون فى كل عالم سأعيش، انظر إلى الجانب المشرق من الحياة، هاك جديد كل يوم، ألم يكن ذلك ما تحلم به. ولكننى كنت محبطا، وكان إحباطى باديا، حتى أن شرطيا استوقفنى: "هل تبحث عن عمل"؟ دسست يدى فى جيبى فاكتشفت أننى لا أحمل الكثير من النقود. قلت "نعم"، فاصطحبنى إلى بناية من ألف طابق، تسلمنى رجل، وسلمنى لامرأة، ووجدت نفسى جالسا أمام جهاز كمبيوتر. كانت المهمة أن أطبع ملفات من على الجهاز، أضعها أمامى، ثم أنسخها ثانية، وهكذا لثمانية ساعات، وفى نهاية اليوم كان ذهنى فارغا من كل شيء، وكانت معى نقودا، وكنت أحلم بمنام. فندق صغير على بابه كلب ينبح، حجرة ضيقة وفقيرة، وسرير نظيف ووجبة عشاء. ما بين اليقظة والنوم تذكرت ما لم أرغب فى تذكره. تذكرت حكاية صديقى الخرافية عن "قميص هاواى" وكيف أتى به. الحكاية طويلة وعريضة ومليئة بالتفاصيل غير المترابطة ولكن لنختصرها كالتالى: كان صديقى فى إحدى الجزر، وكان يبحث عن ماريوانا، استوقف رجلا من أهل الجزيرة وسأله، اصطحبه الرجل إلى الضواحى، وإذا كنت ممن يبحثون عن التفاصيل فسيحدثكم صديقى عن رائحة الأطعمة الحريفة، عن وسخ الأزقة، عن النساء السمينات الجالسات أمام البيوت، عن المراهقين فى غرف ضيقة يستنشقون الكوكايين أو الهيروين أو مساحيق من مواد شبيهة، عن كلاب تنبح، وفئران تنطلق بين الأقدام. لم يكتف صديقى بالماريوانا، بل تجاوزها لمخدرات أكثر راديكالية، بجواره كان كهل يدخن بغليون طويل، يرتدى "قميص هاواى" وشورت، دارت أطراف الحديث وتشابكت وتكلكعت، سأله صديقى عن اسمه وعمله وجنسيته، فقال إنه من عالم آخر، وأنه سيغادر هذا العالم بعد قليل. اعتبره صديقى "مسطولا" وهزأ منه، لكن صاحب "قميص هاواى" ابتسم له فى شفقة. أثنى صديقى على "قميص هاواى"، فخلعه الرجل وبقى عارى الصدر. قال له "تعرف.. أنت ابن حلال.. خذ القميص، وأنا سأظل هنا للأبد"، أصر صديقى على أن يدفع عشرة دولارات، فوافق الرجل، ولكنه حذره: "لن تهرب من هذا القميص إلا بهذا القميص". اعتبر صديقى تلك العبارة سطرا شعريا لأحد شعراء "هاواى" المغمورين ولف "قميص هاواى" تحت إبطه، وغادر المكان ومعه هدية فكر أنها ستكون مناسبة لى. والآن، أنا متعب، أستطيع أن أكمل تلك الحكاية حتى أموت، إنها لن تنتهى إلا بحياتى، وهاك بضعة أمثلة كى تصدقونى: لقد زرت عالما تسود فيه الكلاب، وعالما يمكن لك فيه أن تقطع يديك وتلصقهما من جديد، لقد عشت فى أرياف سكانها طيبون ولا مشكلة فيها إلا العفاريت التى تظهر ليلا لتأكل ذراعا من هذا الرجل أو رِجلا من تلك المرأة، وعشت فى جبل يمتد إلى مالا نهاية يسكن فيه كل شخص منعزلا فى صندوق بحجم جسده. لقد عشت حتى تحت الماء فى قباب زجاجية، وفى صحروات لا هم للشبان فيها إلا ممارسة الجنس مع كل كائن جوال وابتكار أنواع جديدة من المخدرات تستطيع أن تجعلهم يفيقوا من الأنواع القديمة. لقد كانت حياتى متعبة، لم يكن ثمة عالم واحد يغرينى على العيش فيه، حتى أننى فكرت مرارا فى الانتحار، لكن "قميص هاواى" كان يظل أملا منتصبا أمام عينى، يمنعنى حتى من إنهاء حياتى. كنت أقول "فلأجرب عالما آخر إذا كان هذا العالم بتلك البشاعة".. وبرغم إدراكى أننى أدور فى دائرة مغلقة من العوالم التى لا تعاش فإنى لم أستطع أن أنهى حياتى. إذ كيف تتجاهل أملا منتصبا أمام عينيك. لم أستطع كذلك أن أحرق "قميص هاواى"، وسيلة هروبى من كل عالم إلى كل عالم. إذ كيف تحرق أملا منتصبا أمام عينيك. عندما أنام الآن أحلم بأمر واحد، أن تنتهى هذه الرحلة، أن أعود إلى شقتى التى تركتها دون وداع، أزين جدرانها بالصور وهواءها بالبخور والموسيقى، وأزرع الجرجير فى حديقتها. أفكر فى صديقى الذى أهدانى "قميص هاواى"، ربما غادر المستشفى الآن، ربما عاد إلى عائلته ووظيفته السقيمة الجميلة، ربما تسنى لى أن ألكمه فى وجهه غيظا من هديته، ثم أحتضنه من الشوق، ونحتفل سويا ليلتها ونحن نستمع إلى موسيقى الريجى وندخن الحشيش ونشاهد دخانا خارجا من "صفيحة" فى الشرفة حيث يحترق "قميص هاواى
| |
|
| |
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص الإثنين 02 يونيو 2008, 11:29 pm | |
| بعد المغرب تقريبا إبراهيم أصلان
كانوا يجلسون في الصالة, هو علي المقعد الكبير الذي الي يسارك وأنت داخل, والحاجة علي المقعد الكبير الذي الي يمينك وأنت أيضا داخل, وزوجة الابن تلم ساقيها في ركن الكنبة الصغيرة تقلب المجلة وتطالع فيها, أما الكنبة الكبيرة المواجهة للمدخل فقد كانت خالية إلا من كومة وسائد مبعثرة, وفي المنتصف كانت الطاولة البنية الكبيرة. كان فكر أن يدخل حجرة النوم عندما جاء ابنه وزوجته, والولد تركها وانصرف بحجة الذهاب الي الحلاق, وكان يعرف أنه بعد الحلاق سوف يجلس مع أصدقائه في المقهي, وهو زمان كانت لديه قيلولة يأخذها بعد تناوله الغداء, أما الآن فهو يأخذ القيلولة عدة مرات سواء في النهار أو في الليل, أحيانا يقوم منها دون أن يعرف إن كان نام فعلا أم هييء له, والآن كان يغالب النعاس بالاستماع الي التليفزيون الذي كان ملاصقا للجدار الأيمن ولا يراه إلا من الجنب, كان يلمح خيالات فقط من صور الفيلم القديم ويسمع الأصوات ويتعرف فيها علي صوت الراقصة كيتي واسماعيل يس وعبدالفتاح القصري, وانتبه فجأة علي صوت الحاجة وهي توجه كلامها إليه: ـ هو أنا امبارح كنت باقول إيه, يا اسماعيل, وانت رديت قلت إيه؟ وهو انتبه الي كلمة امبارح, لذلك قال: ـ امبارح امتي؟ ـ إمبارح واحنا قاعدين. قال: مش واخد بالي والله. ورمق زوجة ابنه ووجدها مستغرقة في المجلة, ورفع عينيه الي الحاجة ووجدها تتطلع أمامها وهي غاية في الدهشة, ثم أطرقت تتأمل أصابع يديها المستقرتين في حجرها, حينئذ قال: هو حصل حاجة والا ايه؟ قالت: أبدا, أصل أنا امبارح سألتك عن حاجة, لكن مش فاكرة انت قلت إيه. ـ وفاكرة الحاجة اللي سألتيني عنها؟ ـ هو أنا لو فاكرة, كان ايه يخليني أسألك؟ قال: معاكي حق. وراح يحاول أن يتذكر ما جري بالأمس, وزوجة ابنه قالت: ـ تشرب شاي يا بابا؟ وهو وافق, وبعدما قامت دخلت المطبخ قال: ـ أنا افتكرت دلوقت, احنا اتكلمنا امبارح عن سلك التليفون. ـ قالت: أيوه كده, أنا سألتك عن إيه بقي؟ ـ أبدا, انتي قلتي ان السلك قصير, وأنا قلت لك إن السلك طويل. استغرقت في التفكير, وبعد فترة تمتمت تحدث نفسها:
ـ تليفون إيه؟ وسلك ايه اللي قصير؟ وسلك مين اللي طويل؟ احنا اتكلمنا في حاجة تانية خالص. وهو سمعها وقال: ـ جايز, أنا الحقيقة مش فاكر.
ـ اللي مش فاكر ده, بدل ما يقول تليفون, ويقول سلك قصير, ويقول سلك طويل, يقول انه مش فاكر وخلاص.
وجاءت زوجة ابنه بالصينية وضعتها علي الطاولة وناولته الكوب, وجلس هو يتابع الخيالات الجانبية لصور التليفزيون, ويتعرف علي أصوات الممثلين, كما كان يفعل قبل أن ينشغل مع الحاجة في هذا الكلام.
الأهرام 27مايو 2008
| |
|
| |
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص الخميس 12 يونيو 2008, 3:11 am | |
| كائنات من عالم آخر مكاوي سعيد يحدث أحيانا مرة في العمر أن تجد كائنا من عالم آخر ما تتعرف عليه ويعرفك يعايشك لأشهر أو سنوات ثم يعود إلي عالمه مرة أخري.. وقد حدث هذا معي بالضبط. في منتصف الثمانينيات لو شئت الدقة، لمحتها تجلس بمقهي زهرة البستان مرات بمفردها ومرات أقل محاطة بشلة مثقفين يصوبون كلامهم تجاه أذنها وهي تهز رأسها مبتسمة لم أضبطها أبدا متكلمة.. كانت بيضاء نحيلة لكن وجهها ملفت جدا بالشامة الأسمهانية التي بجوار فمها وبالحلق الفضي المرشوق في جانب أنفها «وكان هذا غريبا جدا ومنتقدا أيامها» وبالسلسلة» البلاتينية التي ترتديها حول ساقها كالخلخال. كان عم أحمد «جرسون» المقهي العجوز يتهلل وجهه بمجرد أن يراها ويسرع علي الفور لتنظيف الطاولة المعدنية ويجاهد كي يجلسها علي كرسي خال من المسامير المدببة التي كانت تخترق ملابسنا ثم يحضر لها كوبا نظيفا وزجاجة كولا يصب بعضها في الكوب وبين الحين والآخر يترك زبائنه ويذهب إلي نهاية الممر حيث أجلسها بعيدا عن الفضوليين يجالسها قليلا ويخبرها بنكات تضحك لها كثيرا من القلب، وكنت أعتقد أنها تغافله حين تضع بضع قطرات من الويسكي في كوب الكولا بعد أن تنظر نظرة عابرة إلي المقهي لكني اكتشفت أنه يعرف ذلك ويقاسمها مشروبها «كانت تنصرف بسرعة كأنها تضع لكل شيء ميقاتا.. ثم بدأت تشاركنا سهراتنا الليلية بـ«روف» فندق أوديون «وسط البلد» عن بعد تستمع إلي أغانينا وموسيقانا وقصائدنا ونقاشنا الفني والسياسي.. ولم أجرؤ حتي تلك اللحظة علي التقرب منها أو محاولة التعرف عليها رغم أنها أحيانا كانت تجلس بين نقاد في الأدب أصدقاء وزملاء قصاصين وشعراء وفنانين تشكيليين الذين اتفقوا جميعا علي أنها جميلة ومثقفة واختلفوا في تعريف هويتها» منهم من أكد أنها شاعرة كانت تقيم بأوروبا وعادت إلي مصر كي تفجر موهبتها الشعرية ومنهم من قال إنها تستعد لاجتياز اختبارات القبول بالتليفزيون للعمل مذيعة. وبعضهم ادعي أنها درست السينما بالخارج وعادت لكي تطبق ما درسته هناك.. اشتدت رغبتي في معرفتها واستبعدت التودد إليها مباشرة فأنال توبيحاً مراً.. وبدأت أتجنب رؤيتها حتي لا أتذكرها. ثم حدثت معجزتي الشخصية ـ بفرض أن لكل شخص معجزة صغيرة تحدث له كل بضع سنوات ـ كان الشتاء قد هبط فجأة ونحن بـ«روف» الأوديون، ولم أكن مرتديا غير قميص خفيف فقررت المغادرة علي الفور قبل أن تحل الساعة العاشرة مساء. أوصلني المصعد إلي بهو الفندق حيث فوجئت بها جالسة تبكي بتشنج وحولها موظف الاستقبال يواسيها ويطيب خاطرها.. لم أترك الفرصة تفلت من يدي وتقدمت نحوها أسألها عما حدث.. نظرت إلي بعين دامعة ولم تجب، تدخل موظف الاستقبال وفسر لي الأمر بسرعة.. كانت بصدد إيقاف تاكسي بشارع طلعت حرب أمام كافيتريا «ريش».. لفتت نظر بعض الخريتة «الذين يعرضون علي السياح خدماتهم نظير أجر مادي أو معنوي» بدأوا يحاولون لتحدث إليها وهي تهملهم، استفزهم موقفها فتحرشوا بها بغلاسة تحت تصور انها سائحة اسبانية ولم يتدخل أحد لنهرهم بحكم عادية الأمر.. توقف لها تاكسي فدخلت به بسرعة وتصورت أنها آمنة فسبتهم.. تحركوا بسرعة ووقف أحدهم أمام التاكسي ليوقفه وأخرجها آخر من التاكسي ولطمها بعنف علي وجهها وتجرأ ثالث ونزع سلسلتها البلاتينية من ساقها ثم القوها بداخل التاكسي وجروا وانشقت الأرض وبلعتهم. كانت لم تكف بعد عن البكاء حكي الموظف للواقعة.. سألتها! ألم تبلغي الشرطة؟.. لم ترد وأجاب الموظف بأنها عملت محضراً بقسم عابدين وأخبروها بأنه في غضون أيام قلائل سيأتون بهم ويستدعونها للتعرف عليهم ـ كنت أعرف ظابط شرطة كبير أيامها له ميول أدبية ويحب كتابة الشعر ومجالسة المثقفين والتعرف عليهم وكان قد طلب مني مراراً مساعدته في نشر قصائده بالصحف والمجلات الأدبية. سحبتها من يدها وهي مذهولة وذهبت بها إلي مديرية أمن الجيزة حيث يعمل صديقي الذي أدخلنا مكتبه وسط ترحيب مبالغ به حين عرف أنها مثقفة زميلة.. ظل يسمع قصتها بهدوء وعندما انتهت رفع سماعة التليفون محدثا مأمور قسم عابدين بمشكلتنا ويوصيه علينا ثم أمر سائقه الخاص بإيصالنا إلي قسم عابدين، وهناك عاملونا بأهمية شديدة وفي غضون نصف ساعة فقط كان الأولاد الذين هاجموها مشرفين أمامنا يتلقون الصفعات والركلات من كل جانب ويتوسلون إليها كي تعفو عنهم. وهذا ما حدث بعد أن حصلنا علي السلسلة وردت إليها كرامتها وظهرت أمامها كالمخلص. تعشينا عشاء فاخراً بمطعم كبير وكانت تتوقف عن الأكل كثيرا لتتأملني وتعاملني علي أنني «سوبر مان» الذي أنقذ كوكب الأرض من الفناء وبطريق الخطأ استندت بذراعي علي طاولة الطعام لأريحهما ويبدو أن ذلك أربكها لأنها سألتني مفتعلة الخوف: إنت بتعرف في السحر.. نفيت بالقطع لكنها أكدت لي أني ساحر وأن معني وضع يدي هكذا علي المائدة أن تكون تحت سيطرتي وأنها طيلة جلستنا لم تكف عن التفكير في.. يبدو أن هناك مساراً تريدني أن أسير فيه. وفعلا ابتسمت فاستطردت وهي تحكي حكايات طويلة عن السحر والسحرة وكيف أن ساحرة إسبانية عملت لها عملاً لم يفكه إلا شيخ مغربي مهم وأخرجت من محفظتها الجلدية صورة له أرتني إياها وهي حريصة ألا أبقيها في بدي طويلا.. عرضت علي أنه نكمل السهرة بيتها فرحبت طبعاً وأنا لا أدري أنه بآخر بلاد المسلمين حينذاك «منطقة العاشر بمدينة نصر وكانت منطقة مأهولة».. بالطريق قالت أشياء مشجعة مثل أنها تعيش بمفردها منذ عودتها من إسبانيا وأنها اشترت هذه الشقة حديثا لأن المستقبل لهذا المنطقة.. كانت شقة صغيرة عبارة عن صالة وغرفة للنوم ومطبخ صغير وحمام أصفر.. وكانت الصالة في غاية الفوضي بعلب البيرة الفارغة الملقاة في كل مكان والتي اتخذت من بعضها طفايات للسجائر وخدوديات النوم المبعثرة والكتب التي تضعها أسفل المروحة، افسحت لي مكاناً لأجلس ثم أشارت إلي باب الشقة الخشبي وقالت إن كل يوم عقب صلاة المغرب تسمع خبطاً علي البابا وتجد قطاً ضخماً يرتدي حذاءً جلدياً ينظر إليها ثم يختفي.. ابتسمت فاضطرت للابتسامة وهي تقول طبعا مش خايف عشان احنا الوقت بعد المغرب.. دخلت بي غرفة النوم وهي تقول لي إن هذه الغرفة كانت غرفة بنات ولم يدخلها رجل إلا هذه اللحظة، سألتني ماذا أحب أن أسمع وعندما قلت فيروز ابتسمت ووضعت شريطا بالمسجل، أجلستني علي طرف السرير وقالت لي إن كوابيس كثيرة تطاردها في النوم ثم رفعت المخدة وأرتني مصحفاً صغيرا عليه سكين كبير قالت إن شيخاً أخبرها بأن هذا هو ما سيمنع الكوابيس من مطاردتها وأنا اراقصها كنت في حلم طويل لا أصدقه.. كانت تخلع قطعاً من ملابسها ونحن نرقص ثم جذبتني إلي سريرها.. كنت مأخوذاً ومنتشياً وفي اللحظة التي يجد فيها الطيار الحربي هدفه ويقرر ضربه، في هذه اللحظة بالذات وجدت شيئاً بارداً وصلباً خلف رقبتي، التفت وتجمد الدم في عروقي كان حد السكين اللامع يكاد يجز الرقبة وكان وجهها شمعياً جداً وكان تصرخ في إنت فاكرني سهلة عشان خدمتني خدمة عايز تمنها وتوقف الكلام تماماً بحلق وشل جسدي كله وفجأة وجدتها تضحك وتسحب سكنها لتضعة أسفل الوسادة وتقول بهدوء أنت خفت، لم أرد بالقطع فقالت بشفافة.. استريح شوية وقوم غير شريط الكاسيت نهضت بفعل حلاوة الروح.. وافتعلت أني أغير الشريط وارتديت حذائي وسحبت باقي ملابسي ثم جريت بسرعة تصاحبني ضحكاتها الهيستيرية طوال الطريق. أختفيت عن المنطقة لمدة أشهر وعندما عدت علمت أنها اختفت ولم تظهر مرة أخري بوسط البلد.. عندما تذكرتها أخيراً وسألت أصدقائي وزملائي الذين كانوا يجالسونها عنها لم يتذكرها أحد، وعندما ألححت في السؤال عنها نظرواً إلي بتشكك كأنني أتكلم عن شيء خرافي لم يحدث أبداً بمنطقة وسط البلد مما يجعلني اظن انها عادت إلي عالمها بعد أن تجسدت لي وحدي
جريدة البديل 10/6/2008
| |
|
| |
george fakhry مشرف قسم الفن التشكيلي
عدد الرسائل : 185 العمر : 70 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 17/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص الخميس 12 يونيو 2008, 6:47 pm | |
| استمتعت جدا بقراءة مكاوى سعيد انتهيت من قراءة فئران السفينة وأقرأ حاليا تغريدة البجعة وهو كاتب متميز رغم أننى لم أكن أعرفه من قبل عزيزى عصام صرة القصص هذه تم اختيارها بعناية وانت بحق تثرى هذا المنتدى باختيارات ذكية حاول أن تجد قصص ل يحيى الطاهر عبد الله ويوسف ادريس حتى تكتمل الباقة احنا عواجيز عن الشكر | |
|
| |
آسيا خليل مشرف قسم الرواد
عدد الرسائل : 195 العمر : 54 الجنسية : سورية تاريخ التسجيل : 13/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص الجمعة 13 يونيو 2008, 11:36 am | |
| الأستاذ الكاتب عصام الزهيري
باقة منتقاة من القصص الجميلة استمتعت بقراءتها تسعدني اختياراتك لأنها تتضمن المتعة والفائدة معاً لك أمنياتي العذبة وتقديري | |
|
| |
دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص السبت 14 يونيو 2008, 12:00 am | |
| الحبيب عصام الزهيري فكرة رائعة واختيارات أروع ، وفي انتظار المزيد والمزيد من هذه الإبداعات القصصية المتنوعة والرائعة لتمتليء هذه الصرة بالجواهر والكنوز تقديري واحترامي | |
|
| |
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص السبت 14 يونيو 2008, 2:52 pm | |
| الفنان جورج فخري فى العدد الماضي من مجلة الثقافة الجديدة ملف عن مكاوي سعيد به حوار معه وقصة ممتعة له وعدد من الدراسات عن روايته الأخيرة لو لم تكن اقتنيته يبقى ألحقه. حاولت فعلا أن أجد أعمالا ليحيى الطاهر عبدالله، تقريبا لا توجد أعمال منشورة له على النت وهذا غريب، أتمنى أيضا أن تضيف أنت ما تشاء من قصص لإدريس ويحيى وغيرهما.
الشاعرة آسيا خليل مرحبا بك دائما قارئة متذوقة وشاعرة لها حساسيتها الخاصة تجاه النصوص ومبدعة تستقرأ اتجاهات الكتابة تقديري
الشاعر محمد ربيع هاشم الصرة محاولة للحفاظ على هذه النصوص التي قرأتها في صحف يعلق حبر طباعتها بأيدينا ونخاف أن تمحي النصوص كما تنمحي بقايا الحبر من فوق الأصابع، كلما وجدت نصا من هذا النوع حملته إلى هنا أتمنى أيضا أن تحملوا نصوصكم | |
|
| |
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص السبت 28 يونيو 2008, 4:05 am | |
| عبر الطريق مسرعا إبراهيم أصلان في المساء جاء لزيارتي وقال:
ـ مساء الخير يا أفندم
وتبعني إلي حجرة المكتب. لم يجلس في ركن الكنبة إلا بعد أن جلست أنا في المقعد الكبير وقلت:
ـ ياأهلا وسهلا.
وهو ربت بيده علي صدره وعدل من وضع نظارته وابتسم.
كان يسكن في البناية المواجهة ونعرف بعضنا من سنوات طويلة إلا أننا لم نتزاور من قبل, ولم أستطع أن أخمن السبب الذي دعاه لزيارتي ولكنني لاحظت أنه أصغر سنا عما قدرت وأنا أراه في أثناء تبادل التحايا عبر الطريق, وفي سبيلي لمغادرة الحجرة سألته:
ـ شاي ولا قهوة, ولا تأخد حاجة ساقعة وبعدين نشرب القهوة؟
قال:
ـ مفيش لزوم والله.
ـ لا, ضروري.
ـ خلاص. يبقي شاي من غير سكر.
عندما عدت رأيته يعيد طي الجريدة ويضعها إلي جواره علي الكنبة, وما إن عدت للجلوس حتي اعتدل ناحيتي وقال:
ـ حضرتك قريت الجرايد امبارح؟
نظرت إليه وقلت:
ـ حوالين ايه ياتري؟
ـ شفت الخبر اللي مكتوب فيه إن الناس اللي بتشتغل في جنينة الحيوانات, بتاكل الحمير المخططة والثعالب, وبتاكل من الوحوش والطيور اللي في الجنينة؟
أخبرته أنني قرأت شيئا مثل هذا. قال:
ـ لا. ده كان منشور فعلا في الصفحة الأولي, وفي أكثر من مكان.
والحقيقة أنني بعدما كنت أخذت الخبر في سياق ما نقرأ ونسمع من أخبار هذه الأيام, انتبهت الآن أنه خبر غريب فعلا. ثم إنه عاد وسألني:
ـ وحضرتك رأيك ايه في الكلام ده؟
قلت إنه:
ـ كلام غريب طبعا.
قال:
ـ طيب وبعدين؟
جاءت البنت بصينية الشاي ووضعتها بيننا علي المنضدة المستديرة وانصرفت. وكان هو مازال يتطلع إلي منتظرا أن أرد. أخبرته بأن هذا, علي العموم, ليس شيئا جديدا, فقد تم الإمساك ببعض الجزارين الذين يبيعون لحم الحمير والكلاب النافقة, وأن الصحف نشرت صور هؤلاء الجزارين وهم يجلسون وأمامهم هذه الحمير وهذه الكلاب وهي نافقة.
هز رأسه نافيا وقال: لو سمحت لي, هذا شيء مختلف, لأن الناس عندما أكلت من لحم الحمير والكلاب أكلتها وهي تظن أنها تأكل من لحم الجاموس ولحم الخراف أو لحم البقر, لكننا هنا أمام وضع مختلف. الناس بدأت الآن تأكل الحيوانات وهي تعلم أنها تخص جنينة الحيوانات وأنها متوحشة, ثم طلب مني أن ألاحظ أيضا أننا ممكن نذبح حمار من الحمير العادية لكن ذبح الحيوان المتوحش شيء صعب جدا:
ـ وبعدين, ما تآخذنيش, هي الجنينة حتكفي مين ولا مين؟
وأطرق قليلا وقال:
ـ تفتكر, ممكن ياكلوا إيه بعد كده؟
وخيل إلي أنه خائف, وانتبهت فجأة إلي وجهه المدور الناعم وجسده الطري الذي يملأ ركن الكنبة, ويبدو أنه لاحظ نظرتي فاتسعت عيناه وتصلب فجأة كمن يتحفز للقيام, وأنا لمارأيته علي هذا الحال لم أعرف إن كان يخاف أم كان يتأمل فابتسمت في وجهه, وهو تأكد من ابتسامتي واسترخي مطمئنا في موضعه وشربنا الشاي, وعندما انصرف تابعته من الشرفة ورأيته يتلفت حوله في الليل وهو يعبر الطريق مسرعا.
الأهرام 24/6/2008
| |
|
| |
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص الأربعاء 06 أغسطس 2008, 7:19 pm | |
| بيت كبقية البيوت عبدالستار ناصر تجرأت علي الدخول الي ذاك البيت، برغم كل ما أخبروني به، مع انني لست الفارس الهمام الذي لا يخاف، لكن البيت كما أري، لا يختلف عن بقية البيوت في زقاق 'الشيخ معروف'. أجرته عشرة دنانير، بينما البيوت جميعها في ذاك الزقاق أجرتها تزيد علي سبعين، مع انها ليست بالمستوي الذي اتمني.
*** في أول ليلة، أبقيت خنجرا تحت وسادتي خوفا من أية مفاجأة، ربما يظهر من احدي زوايا البيت عربيد أو 'شبح'، ذلك أن الظلمة ترسم للناس كائنات منقرضة ونساء ملفعات بعباءات من عوسج وقير وعاقول، لكن شيئا من ذلك لم يظهر، ومرت الليلة دونما احراج من أي نوع.
*** مشيت صباحا من غرفة الي أخري، قررت غلق الغرف الثلاث التي لا احتاجها، واكتفيت بغرفة النوم، جئت بأقفال سميكة بعد أن غسلت الغرف بالمعقمات ومسحتها بالديتول والمنظفات وتأكدت من حيطانها وثقوبها قبل أن أغلقها علي ما فيها من فراغ، ورميت مفاتيحها تحت فراشي. شعرت بشيء من الأمان بعد أن شطبت علي أكبر جزء من البيت، ثلاث غرف لا تعني شيئا بعد اليوم مادامت مغلقة تماما، ولم يبق من البيت غير غرفة نومي والحمام والمطبخ وصالة لا تزيد مساحتها علي أربعة أمتار طولا لا يمكن أن يفكر حتي إبليس في الاختباء تحت سقفها.
*** لا أدري لماذا يهرب الناس من هذا البيت، عشرة أيام دونما رأس مقطوع ولا جثة مثقوبة بالرصاص ولا صراخ في آخر الليل، بالعكس، رأيته أجمل عش لحياة هانئة هادئة، شناشيل وشبابيك تشرف علي جزء كبير من الزقاق، نسيم ساحر وجدران باردة في الصيف، حتي انني لا أصدق البقاء في بيت كهذا بأجرة لا تزيد علي عشرة دنانير!
*** عاريا اتحرك في البيت، ليس من أحد يراني، ذلك أن شبابيك البيت بعيدة عن جيراني، كم تبدو حياتي طرية وأنا أمشي بلا ثياب في هذا الصيف الرهيب. اذا جاءني المستأجر في آخر الشهر سأقول 'هذا بيت مخيف حقا' لئلا يفكر في زيادة أجرته، لكنني مازلت أري الناس تبتعد عن البيت ولا تنظر اليه حال مرورها علي مقربة منه، وأنا أضحك، بل أتمني لو أقول لهم: تعالوا وانظروا المكان الذي يرعبكم، فهوليس غير بيت مثل بيوتكم.
*** احتار في أمر واحد، هو أن مالك البيت، وبعد مرور الشهر الثاني، ما جاءني أبدا ولم يطرق بابي ولم يأخذ أجرته، ذهبت الي مقهي المحلة، عساني أراه، فما عثرت علي أحد هناك، كانت المقهي مغلقة، فما كان مني غير الرجوع الي البيت حتي يأتي المستأجر بنفسه ليأخذ الدنانير.
*** ليس من صوت علي طول الزقاق، الشمس غابت بسرعة، ثم هطلت العتمة قبل أوانها، ثم ماذا؟ لا شأن للبيت بغروبها طبعا، الغرف الثلاث مازالت مغلقة والمفاتيح تحت فراشي لم تتحرك، والنسيم الساحر يزداد سحرا، ربما أنام الليلة علي سطح المنزل، أري النجوم تسبح في الفضاء وأفكر في حياتي وماذا سأفعل في بقيتها، عمري تخطي الستين من السنوات، نسيت أنني أغلقت باب السطح أيضا لئلا يتحرش بي واحد من الطناطل أو واحدة من السعلوات كما يقولون في الزقاق.
*** أسمع همسا، وأحيانا اسمع همهمة، وربما يأتي من مكان بعيد ما يشبه تلاوة سورة من القرآن أو صرخة طفل جائع، سأفتح باب السطح، النوم لذيذ حقا فوق السطوح في صيف بغداد القاتل، ربما اشتري بطيخة اتمتع بطعمها، واسمع الاغنيات التي احبها حتي يأخذني النوم الي مصير آخر. لم أعثر علي مفتاح باب السطح، لا بأس، سأفتح الشبابيك علي هواء الزقاق، البيت في حالة غريبة من السكون، والمحلة فارغة من البشر، وما الغرابة؟ الناس في زقاق 'الشيخ معروف' ينامون كما الدجاج.
*** نعم، أحيانا أشعر بالوحشة وأنا وحدي في هذا البيت، لكنني لا أتذمر، ثمة احساس غامض يمنعني من الشكوي، والحياة تأخذ أسلوبها علي ما يبدو بحسب المكان الذي ننتسب اليه، وقد طال بي المقام في البيت الذي رفضوه، كنت اعتني به حتي انني لم اعد اخرج منه، فأتت شهور لم يطرق أحدهم بابي ولا أحد يسأل عني، فأنا أصلا مقطوع من شجرة، لا أولاد ولا زوجة ولا أقارب ولا أصدقاء.
*** أظنني كنت أسعد الناس في ذاك البيت، حتي انني لم أعد بحاجة الي ماء ولا طعام، كنت اكتفي برائحة الرطوبة عندما اسمع زخات المطر، اكتفي بطعم النسيم الساحر الذي يأتي من كل مكان، حتي من مسامات الحيطان التي تغلف البيت كله. لم أعبأ بالجوع ولم أشعر بالعطش، فات الوقت أسرع من البرق، خاطفا كما النيازك، حتي انني لا اعرف في أي عام وصلت، تمنيت أن افتح باب البيت كيما أري الدنيا وما الذي تغير فيها، لكنني خوفا علي هدوئي وسعادتي تركت الباب مغلقا، ويوما بعد يوم نسيت المفتاح وماعاد يهمني أن أعرف ما يجري خارج هذا البيت الذي كف حتي الهواء من الدخول اليه. لم أعد اتحرك بين أشياء البيت، برغم انني مازلت عاريا تماما دون ثياب، والذي اسمعه أيام الاعياد والجمعات ليس غير همهمة أو همس يأتي من وراء الحيطان وتلاوة سورة من القرآن هي نفسها تتكرر دون سواها، تمكنت أخيرا وأنا داخل البيت أن افسر معناها
جريدة أخبار الأدب 05/8/2007
| |
|
| |
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص الإثنين 24 نوفمبر 2008, 1:42 am | |
| وردة أصبهان
سلوى بكر
بدأ جنود الأمن المركزي يطاردون جموع المتظاهرين بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، وكنت وقتها قد تجاوزت ميدان طلعت حرب بقليل، سائرة باتجاه عملي بالفندق القديم المطل علي النيل، تجمع خوف بقلبي، وسرت بجسدي قشعريرة، وحرت كيف أفعل، أأواصل المسير؟، أم أعد أدراجي مرة أخري؟ بروح القطيع الغريزية سحبت قدمي وراء بعض الناس، بدأوا يدلفون إلي احدي حارات الشارع الجانبية والذي انبدر بالجنود ذوي الملابس السوداء. انحشرت مع الناس تلقائيا بمدخل عمارة قديمة ذات باب حديدي فخيم توسطت زخارفه المعقدة باء انجليزية ضخمة انحشرت داخل آر أكبر منها. وقفت لاهثة، أحاول عب أكبر قدر مستطاع من الهواء، وقد تشبع بدخان القنابل التي واصل الجنود إلقاءها بحماس ميكانيكي غير مفهوم، تملكني حزن غريب وغضب، ربما لهذا العنف الذي لم أشهده منذ مظاهرات الجامعة بعد هزيمة ٧٦٩١، وربما لأن أخبار القصف الامريكي علي بغداد ومشاهده الدامية في الفضائيات، كانت تروح وتجيء بمخيلتي دون انقطاع انبثقت دموع من ينابيع عيني، وسيطرت عليٌ كآبة موجعة، انستني آلام بطني ووجع عظامي الملازمين لي منذ بداية صباحي، مما دفعني للتردد مرارا، لكني حسمت أمري وقررت الخروج إلي عملي، فأنا لا أطيق البقاء يوما كاملا بالبيت. صرح واحد من الواقفين معنا بالخندق المؤقت الاجباري بعد أن ثبت نظارته الداكنة علي عينيه. اطمئنوا إن شاء الله سينتهي كل هذا في ظرف ساعة زمن. رد آخر. لا والله. أظن أن الحكاية مطولة بعض الشيء، لأن الأمن المركزي كل ما يغرق الناس ويضربهم، يرجعوا ويهتفوا ضد الحكومة ويضربوا طوب. مسحت دموعي بكف يدي، لكن انفي المتضامن مع عيني تمرد وسال. فتشت بحقيبتي عن منديل ورقي، لكن الغلاف الشفاف لكيس المناديل كان خاويا، تنهدت وسحبت شهيقا طويلا إنقاذا للموقف، غير أن يدا امتدت لي بمنديل ورقي مطوي، وسمعت صوتا رجوليا يأتي من خلفي: تفضلي وهدٌي. التفت جانبا لأشكره، فبانت أجمل أسنان رأيتها لرجل في حياتي وهو يبتسم، أسنان لاتجدها إلا في اعلانات معاجين الأسنان، شكرته علي المنديل فقال: الأولاد فكروني بأيام زمان في الجامعة، لولا الشديد القوي، لكنت خرجت ومشيت معهم في المظاهرة وهتفت وضربت الأمن المركزي بالطوب، لأن ضرب العراق إجرام سافر وبلطجة أمريكية لم يسبق لها مثيل منذ حرب فيتنام. قلت له اني كنت ذاهبة لعملي سيرا علي الأقدام وفقا لعادتي اليومية، فأنا أسكن في أول التوفيقية وفجأة وجدت الأمن المركزي مبدورا كما الرز من عند شارع عبدالخالق ثروت وحتي ميدان طلعت حرب، ويبدو انني لن أذهب إلي العمل لو استمر الضرب مدة أطول، ثم سألته بعد ذلك عن الشديد القوي الذي منعه من الاشتراك في المظاهرة، وكنت وقتها أرغب في الكلام مع إنسان ما، ابتسم مرة أخري وهو يشير بسرعة إلي حقيبة بيده، واقترح أن نترك المكان ونسير بضع خطوات لنجلس ونحتسي شيئا في مكان لايبعد عن مدخل العمارة، ثم أشار بيده إلي مطعم قريب له واجهة زجاجية ملونة، لم أتردد كثيرا فسرنا ودخلنا المطعم الذي بدا خاليا من رواده عند ذلك الوقت الصباحي، عرفني بنفسه وطلب قهوة وطلبت عصيرا باردا، ثم ابتسم وقال ان معه شيكا بمبلغ كبير وهو كان في طريقه إلي البنك لكن حدث ماحدث، وانه كان ينوي توريد الشيك لشركة رومانية يستورد منها الأجهزة والأدوات الطبية التي يتاجر فيها وأنه أصلا تخرج في كلية الصيدلة، لكنه سافر فور تخرجه وعندما عاد بعد سنوات آثر الاشتغال بتجارة الأجهزة والأدوات الطبية. كنت قد هدأت قليلا، ونحن نحتسي ما طلبناه من النادل، ولا أعرف حتي الآن كيف بدأت علاقتي بهذا الرجل، وكيف شعرت وكأني عشت معه في مكان ما، هل لأننا تحدثنا عن مظاهرات الجامعة في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، واكتشفنا أن كلينا شارك فيها مرارا؟، وهل لأنه حكي لي عن معسكر منظمة الشباب أيام عبدالناصر في أبي قير والذي شارك فيه لأنه كان عضوا في منظمة الشباب مثلما كنت وقتها؟، أم لأننا تحدثنا كثيرا واكتشفنا اننا نبث علي الموجة ذاتها، لا أدري حقا كيف بدأت هذه العلاقة، لكني حكيت له عن ترملي منذ عشر سنوات، وإعالتي لثلاث صبيات أكبرهن بالمرحلة الاعدادية، وأن زوجي توفي فجأة في حادث سيارة، وأثناء ذلك نظر إلي طويلا وقال ان عطري غريب، ولم يشم عطرا مثله من قبل، فقلت له إن اسمه »وردة أصبهان«، وضحكت، ولم أقل له أنني بللت صدري وراحتي بقطرات منه لأول مرة في حياتي وأنا خارجة هذا الصباح، فقد ظلت وردة أصبهان حبيسة رف دولابي لمدة سنتين، وأنني كنت أدخرها لحين مناسبة من المناسبات السعيدة، لكن الدورة الشهرية فاجأتني هذا الصباح، وحاولت مع زجاجة العطر الذي أستخدمه عادة، لكن رشاشها بخل علي ببعض من نثاره فلذت بوردة أصبهان من حالة الضيق والقرف والغم التي تعتريني عادة، كلما زارتني دورة الدم هذه، ولم أقل له ما فعلته بي وردة أصبهان ، عندما استقرت قطراتها علي عنقي وجيدي، ومواضع النبض براحتي، لم أقل له أن وردة أصبهان جعلتني أظن انني أمتطي سحابة، أو أختبيء بقلب محارة أو أتطاير لاهية علي أرجوحة من الزنابق، ولم أفض له بسر ذلك العطر وقد أطلق بجسدي شعورا مبهما بالرغبة، الرغبة في الحياة والوجود ومعانقة كائن ما أحبه ويحبني، حتي أنني ملست بيدي علي رؤوس قطط السلم وأنا خارجة من الشقة بينما كنت أبعدها وأنهرها قبل ذلك لأن ابنتي الوسطي مريضة بمرض الحساسية خصوصا بالنسبة للوبر وفراء القطط والأرانب، وأن شعورا عاليا فرحا لازمني وكأني عصفور علي غصن، حتي صدمت عيني، أغربة الأمن المركزي بخوذاتهم الحديدية وملابسهم الفظيعة السوداء. سكت الأمن المركزي بعد فترة، وكان قد أشفي غليله من المتظاهرين، وكان علينا أن نغادر المكان ولأعود أنا إلي البيت مرة أخري، فلم يعد ممكنا لي الذهاب إلي فندقي وقد أعلنت الشمس الظهيرة، وعند باب المطعم رفع يدي وقبلها وتشممها قليلا ثم هتف مغمضا عينيه: الله. عندما تكون المرأة أما لثلاث بنات صغيرات إحداهن مصابة بمرض الحساسية، يصعب عليها الدخول بعلاقة مع رجل آخر بعد وفاة زوجها، لقد غاب زوجي عن الحياة مذ أن كنت شابة في الحادية والثلاثين، واعلنت الحياة كلمتها لي في هذا الأمر: لارجل بعد اليوم، فيكفيك عملك في الفندق، ورعايتك للبنات، ثم هل يكون لديك وقت بعد كل ذلك لرجل آخر؟ ولكن ها أنا أفعلها، ها أنا وبعد مرور كل تلك السنين أجد وقتا لرجل، رجل اسمه يحيي، علاقتي به، تبدو لي بلا منطق أو مبرر مقبول أحيانا، خصوصا بعد علاقتي مع زوجي المتوفي، وقد عشت معه أجمل الأيام وانجبنا تلك الحوريات الجميلات، ولو أردت رجلا آخر، لكنت فعلت ذلك منذ سنوات، واذا اقترب مني رجال مرموقون لا بأس بهم بعد ترملي، بل وطلب الزواج مني بعض من أقارب زوجي تحت دعوي تربية بنات قريبهم الميت، لكني رفضت بشدة خوفا علي البنات تحديدا، وهو ما دفعني لترك شقتي بمدينة نصر والعودة للعيش مع أمي ببيتها الكائن بوسط المدينة، لكن مع يحيي لم أتردد لحظة، وكأن خيطا سحريا غامضا قد شدني شدا إليه منذ أن اقترح شرب مشروب يوم الحرب علي العراق، لم يكن يحيي رجلا من ذلك النوع الوسيم الآسر الحائز علي اجماع النساء، لكن تلك الألفة الغريبة، والسلاسة في التعامل مع العالم والأشياء، والتي افتقدها تحديدا، ربما كانت وراء تعلقي الغريب به. كنت يوم إجازتي أذهب مساء للقائه، بعد أن أمضي النهار بطوله مع أمي والبنات، ألتقيه عند الثامنة، بعد أن أتذرع بما هو مقبول لأمي، نذهب إلي سينما، أو نجلس معا لنأكل في مطعم، وكنت أحرص قبل خروجي إليه علي وضع قطرات من وردة أصبهان علي جسدي، ولطالما ظننت أن غموض ذلك العطر وعجزي عن توصيف رائحته، هو الذي دفعني لعشق يحيي، فمنذ أن تشممته لأول مرة يوم الحرب علي العراق، ظننت في البداية أن الدورة الشهرية هي السبب فيما اعتراني من رغبة، فالتغير الهرموني ربما يكمن فيما أقدمت عليه من علاقة مع يحيي، لكني أدرك الآن أن وردة أصبهان هي آلهة الشذي المانحة بركتها للعشاق، فهي عطر المرأة المجذوبة إلي العشق والباحثة عن معشوق، انها تفند أكذوبة أن عطر المرأة يجذب الرجل، لان وردة اصبهان هي الفريدة في جذب المرأة إلي الرجل، بما يفجره داخلها من احاسيس مبهمة ومشاعر تجعلها راغبة عاشقة، تسعي خفيفة ومنتشية كزجاجة خمر معتقة إلي من تحب وتعشق في لحظة غياب عميقة عن الوجود بأكمله. أفغانية تعيش في منفاها الأوروبي منذ سنوات، اسمها مريم، أهدتني ذات يوم وردة أصبهان، كانت مريم ذات جمال عرقي غارب، ولكنها انجليزية أقرب إلي لكنة الهنود، جاءتني ذات صباح بقسم الحسابات الذي أعمل به بالفندق، وقالت: أتتذكرينني؟ لقد كنت نزيلة هنا منذ عامين، وقمت أنت وقتها بجهد كبير في تصحيح حساباتي المغلوطة مع الفندق، وها أنا جئت إلي فندقكم مرة أخري، ووجب أن أشكرك، فأرجو أن تقبلي هذا العطر مني، ثم غمزت بعينها وأضافت، انه ساحر ومفعوله لايخيب، ثم ضحكت بأدب، فتكالبت خيوط كثيرة دقيقة حول عينيها، ويبدو أن ابتسامتي الساخرة نوعا ما المعلقة علي كلامها لم تعجبها إذ أضافت بجد، تذكري كلماتي، انه عطر لامثيل له أبدا، ولسوف يكون عطرك الأبدي، منذ الآن، تذكري كلماتي جيدا، وبدت لي وهي تقول ذلك، وكأنها امرأة أدمنت عشقا لاتستطيع الخلاص منه، رغم كبرها والشيب المهيمن علي جديلة شعرها الطويلة الواصلة حتي منتصف ظهرها، ووهن جسدها الواضح وبطء حركتها. كانت وردة أصبهان كلما تراجعت قطراتها داخل قارورتها الزجاجية المضببة، كلما تأجج ولهي بيحيي. لم أر رجلا سعيدا فرحا بالعشق مثلما كان يحيي. كانت أوقات لقاءاتنا العاشقة هي الأوقات الوحيدة التي طالما أستشعر روحي فيها حرة وخفيفة وكاملة الإرادة في هذا العالم، يحيي كان متزوجا من امرأة سويدية التقاها بإحدي الحفلات القاهرية، ثم سافر ليعيش إلي جانبها ببلدها، ولتنجب له طفلا سرعان ما مات بعد ذلك يحيي قال إن زوجته حزنت بشدة واكتأبت بعد وفاة الطفل، وبدأت علاقتهما تفتر شيئا فشيئا، وذات يوم صرحت له بأن لعنة الفراعنة هي السبب في وفاة الطفل، وانها لاتريد مواصلة الحياة معه لأنه مصري وغامض، وانه استخدم السحر منذ البداية لتحبه وتتعلق به.. يحيي اعترف لي بأنه عرف بعد زوجته اجنبيات كثيرات، لكن هذه هي المرة الأولي مع واحدة مصرية، وفي الحقيقة فقد ترددت كثيرا قبل أن أصدقه. ولكني سرعان ما لمت نفسي وتساءلت: ولماذا يكذب؟ اقترح يحيي ذات مرة أن تتزوج، رغم خوفه هكذا قال من الفشل في الزواج مرة أخري، قال ذلك وانخرط في البكاء، وكنا وقتها في بيته بمدينة ٦ اكتوبر نتصفح كتابا ضخما عن عادات وتقاليد الزواج لدي شعوب العالم. لكني رفضت الزواج من يحيي، وقلت له إن زواجي مرة أخري إنما هو إهانة وخيانة، إهانة لزوجي المتوفي، وخيانة لبناتي الصغيرات. وفي الحقيقة كان بداخلي سبب غامض يجعلني أرفض الزواج مرة أخري، وما حاجتي إلي رجل يعيش معي كل الوقت، ألا يكفي رجلا لبعض الوقت؟ ثم ألست راضية وسعيدة وومتلئة بهذه العلاقة التي لم أتوقعها أبدا مع يحيي، ونحن معا بلا زواج أو ارتباط علني يعرفه الناس؟ مرت شهور طويلة وعلاقتي بيحيي تتوهج، كلما ذوت وتناقصت قطرات وردة أصبهان داخل قارورتها الزجاجية المضببة ذات الجسد المدملك القصير، وبينما كنت أنثر منها ذات مرة علي رقبتي وجيدي، لاحظت أن العطر أوشك بالفعل علي وداع كوخه الأثير، طار عقلي، فحملتها ودرت بها علي محلات العطور الشهيرة بالمدينة، علني أجد قارورة مثلها تختبيء بداخلها وردة أصبهان، تعبت قدماي، وأنكرها الجميع، وقال لي أصحاب المحلات، إنهم لم يعرفوا عطرا بهذا الاسم أبدا، البعض نظر إليٌ بريبة، وقالوا إن هذا العطر غير موجود أصلا، فلما كنت أظهر لهم القارورة، كانوا يتحسسونها بينما تلتمع عيونهم التماعا غريبا، وعندما يتشممونها يغمضون أجفانهم يتنهدون متحسرين، وكانوا جميعهم يبحثون عن اسم الشركة المنتجة أو عنوانها دون جدوي. فقط كانت هناك حروف انجليزية مكتوبة بالخط القديم تتوسط خاصرة القارورة تعلن: وردة أصبهان. أخيرا، وذات مساء حزين، مسحت جيدي وراحتي بالقطرات الأخيرة من وردة أصبهان بعد أن استجديتها بشدة من قاع القارورة وخرجت لملاقاة يحيي. بدا لي عند ذلك المساء متوترا عصبيا، وقال اننا لابد من أن نتزوج وانه ضاق بعلاقة بعض الوقت هذه، رددت علي مسامعه حججي الدائمة بالرفض، قلت إن بناتي صغيرات، وإن علاقتنا سوف تفسد بعد الزواج، وانه لن يحتمل مشاكل حياتنا اليومية، ثار واتهمني بالجبن والأنانية، وعدم الثقة به وبنفسي، افترقنا بسرعة دون أن يقبل راحتي، ويعض بأسنانه إصبعي الصغير برقة، مثلما يفعل عادة كلما أوشكنا علي الافتراق، عدت إلي البيت وانتحبت بعدما انفردت بنفسي قبل النوم، وفي اليوم التالي فكرت أن أتصل به تليفونيا لاعتذر له واعلن موافقتي علي الزواج، لكني لم أفعل، ولم أكن أتعطر بوردة أصبهان، وهكذا مرت الأيام، وفي كل يوم كنت أفكر في معاودة علاقتنا، لكني لم أفعل أبدا. بعد ذلك بحوالي سنة، لم أر خلالها يحيي مرة واحدة، وكنت قد يئست من العثور علي وردة أصبهان، دخلت إلي مكتبي بالفندق ذات صباح شتوي غائم، شابة شقراء، كانت نزيلة بالفندق، وجاءت لتسوي بعضا من حساباتها بالقسم الذي أعمل به، كنت وقتها منكبة علي بعض الأوراق فلم ألاحظها جيدا، لكنها وبعد أن غادرت بقليل، اكتشفت أن وردة أصبهان اندلعت تسري بهواء الغرفة كله. شبت نيران بداخلي، قمت من مكاني كالملتاثة، أسارع الخطي وراء المرأة التي كانت بالمكتب منذ قليل، وقفت بالممر الخارجي أفتش عنها، لكنها كانت قد اختفت تماما، سألت عنها عامل النظافة المنهمك في كنس مشاية قرمزية ممتدة علي أرضية الممر بالمكنسة الكهربائية، أشار لي بيده باتجاه السلم المؤدي إلي غرف النزلاء بالدور العلوي، ركضت أخطف درجات السلم خطفا، حتي وصلت إلي مشارف البهو المنتهي إليه الممر الطويل الملتوي والواقعة علي جانبيه الغرف، لمحتها، كانت تسير قرب نهايته بصحبة رجل يحوط بساعده خصرها، خيل إلي في ظل الإضاءة الخفيفة الشاحبة أن له قامة يحيي وشعره الداكن المسترسل قليلا علي قفاه، فكرت أن أناديه أو أصرخ كي استوقفها، لكني ظللت متسمرة في مكاني، استجدي الهواء ليدخل حلقي، شاخصة باتجاه الممر الذي تضوع كله وقتها بوردة أصبهان.
أخبار الأدب 23/11/2008
| |
|
| |
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: منديل شهرزاد / صرة قصص الإثنين 01 ديسمبر 2008, 1:49 am | |
| نحو الجنون أحمد الخميسي
كان د . فخري الفيومي ينظر لمن يحدثه نظرة شك عميق ، كمن يقلب ببصره ضاعة مريبة ، أحينا نادرة كان يجازف سائلا بصوته المهذب الخفيض : - حضرتك نظام جديد ؟ فيجيبه الآخر بحيرة : - نظام جديد ؟! ماذا تعني ؟ فينكس د. فخري عينيه على نظرة باسمة مريرة كمن يقول " دعك من هذا اللؤم " ويغمغم : - النظام الحالي ؟ في أغلب الحالات كان يتلقى الرد ذاته مصحوبا بدهشة : - ماذا تقصد ؟ لا أفهم؟ فيزووم د . فخري ويصمت طاويا نفسه على حيرته، ويغير موضوع الحديث . وقد بدأت حكاية الشك والحيرة عندما فوجئ د . فخري باستدعائه إلي المباحث العامة منذ نصف السنة ، كان ذلك عقب اجتماع حاشد في الجامعة جرفته الحماسة خلاله فقال كلمتين تجاوز بهما سقف المسموح إلي سماء الممنوع . وقد ندم بعد ذلك أشد الندم ، وقالت له زوجته : يا فخري أنت أستاذ كبير عندك كتبك وأبحاثك مالك ومال كلام الشباب؟! . فأجابها : عندك حق . وفي اليوم المحدد وصل إلي مبنى الداخلية في الموعد المحدد له ، واستقبله ضابط شاب لبق قاده بترحاب إلي حجرة ضيقة ثم قال له بنبرة آسفة : - يا دكتور نحن مضطرون إلي اعتقالك ! تغيرت ملامح د. فخري على الفور ، فالاعتقال آخر شيء خطر له . كان أقصى ما توقعه أن يطرق معه عميد الجامعة موضوعا عاما ويدس في ثنايا حديثه عبارة لوم وتحذير ، أما الاعتقال ؟! فرد ساقيه وجال بعينيه في جو الحجرة وهو يشعر بهبوط . وحدث نفسه " أيعقل أن تهدم كلمتان عابرتان حياة كاملة ؟ " . فكر في زوجته وولديه كمن يودعهم ، في حجرة مكتبه وأبحاثه ، وصعبت عليه نفسه ، وحاول أن يتذكر من الذي جرجره إلي ذلك الاجتماع المشئوم . اعتدل الضابط الشاب ببسمة خفيفة كمن يصحح خطأ: - اطمئن يا دكتور ، لا داعي للقلق . وكمن ألقي إليه بطوق نجاة في خضم الموج دبت الدماء في أوصال د . فخري ولم ساقيه المفرودتين واستجمع قوته للأمل : - كيف ؟ - لأنك ستواصل حياتك كما اعتدتها . وأضاءت وجه الضابط بسمة من يقدم عرضا سحريا يثق بحكم الخبرة أنه سيلقى الإعجاب : - أنت تتجه إلي الجامعة يوميا في التاسعة صباحا ؟ - نعم . بالضبط . - تعود إلي البيت تقريبا في الثانية ظهرا ؟ - تماما . - عصر كل ثلاثاء تلتقي بأصدقائك القدامى في مقهى " سهر الليالي " ؟ - مضبوط يا أفندم . المعلومات كلها سليمة . ضحك الضابط بسعادة . - ولن يتبدل شيء من كل هذا . ستواصل حياتك كما كانت ! تجمد وجه د. فخري عاجزا عن الفهم وطلع صوته كأنما من جب عميق : - أواصل حياتي ؟ و.. و .. ؟ - نعم . كل ما في الأمر أن لدينا الآن نظاما جديدا . - جديد ؟ أي نظام ؟ - ألا تسمع عن سجون في الخارج تسمح لنزلائها بمغادرة السجن وزيارة أهاليهم ليوم أو اثنين ثم العودة بعد ذلك ؟ - أسمع . - هي ذات التجربة . إذا كانت الثقة في المعتقلين أمرا ممكنا بحيث نسمح لهم بقضاء يوم مع عائلاتهم، فما الذي يمنع أن نسمح لهم، ليس بيوم لكن بعدة أيام ؟ بل وبقضاء فترة الاعتقال كلها في الخارج ؟! قطب الدكتور فخري ما بين حاجبيه وتقلقل على الكرسي بقلق ثم سأل بريق جاف : - وكيف يكون اعتقالي إذن؟ أقصد من الناحية الإجرائية ؟ - يكفي أننا قمنا بإبلاغك . العملية كلها ثقة . طرف د. فخري بعينه اليمنى مبحلقا في وجه الضابط الشاب الذي نهض واقفا ، وابتسم بكياسة وهو يهز يد د . فخري مصافحا : - الآن نحن نعتمد على الضمير . وأشار إلي باب الحجرة : شرفت ونورت . تفضل . من هنا .
*** غادر د. فخري مبنى الداخلية ، وسار بخطى هادئة دون أن يلتفت خلفه ، تمنى لو بلعته الأرض كما تبتلع الصحراء قطرة ماء فيختفي بعيدا تماما عن المبنى . كان بحاجة إلي المشي طويلا وحده ليعيد ترتيب رأسه المشوش، فسار حتى ميدان التحرير و في الطريق برقت أمامه الكلمتان اللتان أفلتتا منه في الاجتماع . ألا يحق له أن يقول شيئا للمصلحة العامة ؟ قل ، لكن لا تتسبب في تجويع أولادك فليس ثمة مبادئ بعيدا عن بشر بعينهم. والحقيقة ؟ فرصتك لنشر الحقيقة بالعلم والتنوير أكبر طالما قدرت نعمة الحرية ، لكن ما جدواك وأنت رهين زنزانة؟ ومع ذلك فإنني معتقل الآن . نعم لكنك حر . ساقته قدماه حتى شارع رمسيس فتوقف في الميدان يرقب زحمة السيارات والبشر حائرا أيفرح في وضعه الحالي أم يحزن؟ صباح اليوم التالي راقب د . فخري زوجته وولديه ساعة الإفطار وهم يتناولون الطعام ، تلمس في نظراتهم أو حركاتهم أية إشارة إلي اعتقاله ، لكنهم كانوا يحشون أفواههم بالبيض المسلوق والجبن دون أن يعيروا أي اهتمام للمسألة ، في العمل أيضا لم يتوقف أحد عند الموضوع ولو بنظرة تعاطف أو سؤال عابر. وأثارت تلك اللامبالاة دهشته في البداية ، ثم تذكر أن اعتقاله حسب النظام الجديد يجعل من الصعب تمييزه عن غيره ، فصار يتردد على محاضراته بانتظام ويقول لنفسه وهو في طريقه إلي العمل " ينبغي أن أعيش على أساس أن شيئا لم يحدث مع مراعاة أن شيئا قد حدث ". وخلال عدة شهور اعتاد د . فخري على وضعه ، لكن حيرته كانت تشتد في الشارع أو الباصات أو داخل محلات البقالة وهو يدقق النظر في وجوه الناس ، فلا يجد ما يستدل به على أن الشخص " معتقل نظام جديد " أم لا . فكف عن التحديق في ملامح البشر وأخذ ينصت إلي ما يقولونه ، فوجد معظمهم يقولون الشيء وضده ، ويؤيدون موقفا وعكسه ، يدعمون مواقع خصومهم بحرارة ، ويرحبون بمقترحات أصدقائهم بفتور ، وخلال ذلك كان عقله يثب من ناحية إلي أخرى في تحديد وضعهم : معتقلون نظام جديد ؟ أحرار ؟ معتقلون ؟ أحرار ؟! إلي أن تعب تماما فتوقف عن محاولة تمييز أولئك من أولئك ، واكتفى بالحذر في أحاديثه ، وشاعت في كلامه رصانة تضع القضايا كلها على قدم المساواة ، وقل كلامه في المقهى مع أصدقائه وصار يقضي أغلب وقته معهم وهو ينفخخ دخان النرجيلة مرسلا بصره إلي المارة . لكن الحيرة كانت تسكن أعماقه ، مثل سمكة قرش مختفية ، تثب في لحظة وتنقلب إلي نظرة شك مسددة نحو من يتحدث إليه فيجازف د . فخري سائلا بصوت خفيض: - حضرتك نظام جديد ؟ فيجيبه الآخر بحيرة : - نظام جديد ؟! ماذا تعني ؟ فينكس د. فخري عينيه على بسمة ممرورة كمن يقول " دعك من هذا اللؤم". - النظام الحالي ؟ فلا يتلقى ردا شافيا . لكن تلك الحال لم تدم طويلا ، فبعد نصف العام تقريبا تلقى د. فخري استدعاء جديدا فاتجه إلي مبنى الداخلية ، وسار في ذات الردهة الطويلة الكئيبة إلي الحجرة الموحشة العارية الجدران . هناك نهض الضابط الشاب وصافحه بترحاب شديد قائلا : - تفضل بالجلوس . لن أطيل عليك يا دكتور . أردت فقط أن أزف إليك نبأ سارا .. - خير إنشاء الله ؟ - ألف مبروك . تقرر إطلاق سراحك . - إطلاق سراح من ؟! - سراحك أنت . - سراحي ؟ أنا ؟! - نعم . صدر بالأمس قرار بالإفراج عنك مع خمسة آخرين . جلس فخري حائرا . - إذن .. أنا حر ؟ - نعم . وأرجو بالطبع أن تقدر أن ما حدث كان إجراء للصالح العام . الآن واصل حياتك كما هي ! أنت تتجه إلي الجامعة يوميا في التاسعة صباحا ؟ - نعم . بالضبط . - تعود إلي البيت في الثانية ؟ - تماما . - تلتقي بأصدقائك القدامى في مقهى " سهر الليالي " عصر كل ثلاثاء ؟ - مضبوط يا أفندم . ضحك الضابط . وأشار إلي باب الحجرة : - تفضل من هنا . أكرر التهنئة واعلم أننا نعتمد على ضميرك !
| |
|
| |
| منديل شهرزاد / صرة قصص | |
|