منقول
فضاءات لم يكتشفها أحد
لا يكتب بل يطير في فضاءات لم يكتشفها أحد، باحثاً عن وردة غامضة
أو عشبة سحرية. مولعٌ كالأطفال بإشعال الحرائق لتتشظّى الحروف وتولد
القصيدة حيةً نقية كالفينيق.
أسعد الجبوري شاعر الذي يذكرني بإيكاروس، لكن ريش جناحيك من ذهب، إلى أين يطير؟ هل تقمّص جلجامش؟ أم أنi العاشق الوحيد لهذه النار؟
استفهامات كثيرة وعواصف مدهشة تثيرها تجربة الشاعر أسعد الجبوري، ولهذا كان هذا اللقاء:
- س / إلى أين وصلت في مشروع الكتابة المفتوحة؟
- ج / كل كتابة تنتمي لعوالم المغامرة الإبداعية، هي في جوهرها كتابة بلا حدود. كتابة ضد القفل، ولا تؤمن بالمساحات الضيقة كونها مشروع طيران لا يتعايش إلا مع الفضاءات التي يستمد منها قوته فلا يسقط نتيجة الجاذبية المضادة للحرية.
أنا شاعر يعبر عن مشروع انقلابي مستمر دون توقف أو حدود. ففي الشعرية السحرية يمكن تخيل الشاعر باصاً فضائياً لا محطة له. وهو باص مجازي لا يصل إلى مكان عمومي قبل أن يدمر موقفه الخاص. عدا ذلك، الشاعر الواصل شاعر فاقد للحركة. أو هو شاعر مدفن.
ليس أجمل من أن يسوق الشاعر قصائده نحو الجنائن المعلقة بالمجهول أو فيما وراء طبقات نفسه.الكشف مهنة الرادار. وما لم يكن الشاعر كاشف أغطية ومكتشف حُجب، يفقد شعره صلاحية أن يكون شيئاً مؤثراً.
الشعر لا يعني الكتابة على هذا النمط أو ذاك النسق أو على صيغة ما أو وزن محدد،بل هو تدمير للصيغ وجعلها قابلة للاضمحلال أمام كيان الكاميرات الشعرية التي تلتقط أدق ما في العوالم من كائنات، وبما اشد من كاميرات الديجتيل، لتبني القصيدة بناءً نفسياً وشخصانياً مستلهماً من الدراماتيكيات اليومية للحياة.
- س / هل تندفع قصيدتك بهذا الاتجاه؟
- ج / أنا أندفع قبل نصي في ذلك الاتجاه. فلا يمكن رؤية شاعر على كرسيّ.تهدئة النص الشعري بعقاقير النُظم وقوانين الكتابة تخريب للروح الشعرية. والنص المفتوح لا يمكن أن يُبنى بمجانية اعتباطية، الغرض منها البهرجة والإيهام بالتحديث الشكلاني البائس وحسب،بل هي أن يقود الشاعر نصه إلى الهاوية من أجل أن يدعه يتمرن على الخروج من هناك طيراناً.
- س / عكس طريقة طيران عباس بن فرناس كما أعتقد؟
- ج / عباس بن فرناس طائر فطري ينتمي إلى أولى مدارس الشعر غير المدونة في حياتنا العربية.هو قائد مغامر. بطل بشرف عظيم.إنه برأيي لا يقل أهمية عن سيزيف وأهم الأبطال الأسطوريين. ولكننا نحن العرب لا نخلق إلا أساطيرنا في العار والتخلف والإرهاب والرمل. أغلبنا نجوم لهذه الظلاميات المروعة.
- س / هل تؤمن بتداخل الفنون في صناعة ما يسمى بالنص المفتوح؟
- ج / نعم. بشرط تطهير الفنون الأخرى من الغبار والصدأ والثرثرة
- س / هل هذا هو مفهومك للنص الشعري الآن؟
- ج / ليس لي إيمان بمفهوم داخل الشعر. إيماني معلق بمدى قدرة الرادارات الشعرية على امتصاص العوالم الكونية وتحويلها إلى طاقة تخدم النص.ليست الأرض هي كل عالم الشاعر.ذلك خطأ فادح.الشاعر ابن لأكوان دقيقة تعيش في داخله وخارجه. إنه يمتص رحيقه من غليانها السرمدي داخل طبقاته العميقة الموصولة بمختلف البرازخ.
الشاعر الذي يتعامل مع نفسه كعنصر كتابة في محطات الورق، شاعر بائس وعميل أرضي لا يلزمنا.
- س / هل تريد من الشاعر أن يكون كائناً استراتيجياً مثلا؟
- ج / ولمَ لا؟ الشاعر في زمن التكنولوجيا المعقدة، يجب أن يكون كائناً استراتيجياً يواكب التعقيد التقني إن لم يكن يسبق عين التكنولوجيا في تكوين صوره ورؤاه وخيالاته. هل أعظم من شعرية ليوناردو دافينشي فيما صنع للعلم وللبشرية بخيالاته ومخترعاته؟
لقد ولى زمن الشاعر الريفي الرومانسي السياسي القبلي الإيديولوجي. التكنولوجيا قادمة لغربلة 80% من أعداد الشعراء العرب واحالتهم على التقاعد الأدبي، إن لم يكن الأمر يتعلق بقبرهم.
الشاعر غير الممتلئ بجنون الشيفرات وألاعيبها الفنية المعاصرة،شاعر ضعيف سيرمى في سلة المهملات كشريحة معدنية لا قيمة لها.
- س / قيل إنك شاعر سوريالي، فهل توافق على هذه الصفة؟
- ج / شئ عظيم. فالسوريالية كما أعتقد هي أم الديانات كلها.ومن الجيد والمثير أن أكون شاعراً من ذلك الطراز. ان استذكار تاريخ سلفادور دالي وحده، يطرد من المخيلة كثبان الرمل، ويعيد تخصيب الأرواح بأعلى المستويات.
والسوريالية في مهمتها الأولى عاصفة جراد للانقضاض على كل ما فسد وجف وتجمد وتعفن.هي أفعال خلاقة للتدمير من أجل البناء المشتهى للعالم كمنتوج مخيلات بارعة.
- س / وهل هناك شعر عربي تجاوز السريالية أي تفوق عليها؟
- ج / ليس بالحجم الذي يشكل تياراً. الشعراء العرب في غالبيتهم العظمى خونة خيال.
- س / الكتابة عبر الانترنت من ميزات الألفية الثالثة، ماذا قدم الانترنت للشاعر؟
- ج / جعلته يعيش في بلاده الحقيقية. فالإنترنت كما سبق وقلت هي أولى بلداننا المحررة
- س / وهل هناك حالة إشباع للشهرة؟
- ج / الشهرة غزيرة لا يمكن كبح جماحها. وليس بالضرورة النضال للوقوف ضد ظهور تلك الغريزة أو تمددها. أنا مع أن يتمتع الحمار بكامل غرائزه في خط سيره. لكن بعض الشعراء جعلوا من الشهرة فعل زنا بالقارئ. ولا أعتقد بأن يصح ذلك.
- س / العراق.. ماذا بينك وبينه الآن؟
- ج / لم يبق في صدر الغريب من الوطن إلا العظام
- س / ما أعظمها من قسوة في الاستنتاج. لماذا يحس الشاعر أسعد بكل هذا؟
- ج / بعد ثلاثين عاما من المنفى أو الانتظار خارج جلد البلاد، يملؤك الشعور بأن الوطن لحم من تراب وأنت وإياه في فرن. لا تعرف من سينتهي بالاحتراق أولا . وأنا ما رأيتُ في نفسي وطناً إلا في أثناء الكتابة
هناك الكثير من السبر في أعماق الوطن. لذا سأدلك والقراء على شريط يسمى غبار الساعات. يجري على واجهة موقع الإمبراطور. هو اليوم يتحدث عن الوطن. سأهدي قراء الكشكول النص كاملاً.هي كلمات في جمل. وكل جملة حكمة كُتبت بمشقة.
- س / أدونيس..ماذا يعني لك هذا الاسم؟
- ج / أبو العتاهية.
- س / المرأة، ماذا فعلت بك؟ وما رأيك في الكتابات
الأنثوية المعاصرة؟
- ج / كل امرأة نص بجاذبية ما. ولكنهن في الغالبية العظمى نصوص لاستخدامات التدمير العشوائي. لذا أجد تداخل المرأة بالنص الشعري، ضرورة قصوى لمنح القصيدة جاذبية طويلة الأمد غير مؤقتة.
إما بالنسبة للكتابات الأنثوية فهي رائعة بنسبتها العظمى، ولكنها ملغاة من قبل الناقد الذكوري الذي لا يبحث في نصوص النساء إلا عن السيقان والنهود وتأوهات السرير. تلك كارثة تعصف بأجمل كتابات المرأة العربية المضروبة عليها بالحصار أو الحجاب، لأنها لا تلبي شهوة النقد الذكوري المنحط.
الشاعرة أو الكاتبة التي لا تتقدم النص باهتزازات صدرها قبل أفكارها، سيحجر عليها وتلغى من المواقع والصحف والتداول النقدي وحضور المهرجانات. فالنص الجنسي هو ما يلبي طموحات النقاد ورؤساء أقسام الثقافة في الصحافة العربية.
- س / هناك تنافس على أبوة الحداثة أو أمومتها بين العراق ولبنان ومصر؟
- ج / الحداثة لم تصلنا بعد. نحن نتمتع بغبارها الآن فقط. تحديث العقل العربي لا يحتاج إلى مذكرة تفاهم واتفاقيات ثقافية وكتب مترجمة وعلاقات أدبية، بقدر ما يحتاج إلى زلزال لرفع آلاف الأطنان من الأنقاض عن وجودنا .
كيف يتم قبول الحداثة وما بعد الحداثة وكل حوارنا مع العالم مازال محصورا بقطعة القماش الخاصة بإقامة السواتر على وجه المرأة لتحجيب عقل المرأة وتسويرها بالأسيجة من كل حدب وصوب، باعتبارها عورة تخل بوحدة الأمة وشرف التاريخ، وبالتالي لا يمكن من النظر إليها كمخلوق آدمي؟؟!!
- س / ما رأيك؟وهل ما زال بإمكاننا الحديث عن الحداثة؟
وماذا بعدها؟
- ج / لا أظن ذلك. نحن في بلدان تختنق بالأصولية وفكرها الدموي الاجتثاثي الديناميتي. التعايش مع السلفيين تعايش مع أشباح أو تماسيح.
- س / طرح أدونيس مقولة الشاعر -الرائي، هل تؤيد
هذه المقولة، وهل تنبأ الشعراء بالوضع العربي
المشين الحالي؟
- ج / قوة الشاعر العربي الآن في نظارته السوداء لا في رؤاه أو نظرياته. أين هو الشاعر الرائي في العالم العربي؟
ان التحقق من محتويات كيس قمامة،لا يعد سابقة في الرائية. قصابون يستفردون ببقرة في مسلخ.
هل ترين في مشهد كهذا مستويات للرائية الشعرية العربية مثلا، غير أن المناخ يوحي باحتمال وقوع جريمة؟؟
أليس هذا هو مستوى التنبؤ في العالم العربي؟
- س / في قصائدك تتفجر الكلمات، تتشظّى، الى أين تريد الوصول؟
- ج / إلى حيث نفسي البعيدة
- س / هل ما زال للشاعر مكان في هذا العالم؟
- ج / النصوص وحدها. هذا ما اعتقده جازماً، فهي أفضل الأمكنة. إنها فنادق عائمة في الذهن.وهي قابلة للاحتراق والاستبدال والمغادرة في اللحظة التي يفضلها الشاعر.
حاورته د. هدية الأيوبي