أشرف البولاقي في ديوانه الجديد " واحد يمشي بلا أسطورة "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتحي عبد السميع
يعيدنا ديوان أشرف البولاقي الجديد إلي صورة الشاعر العربي القديم , وصورة القصائد المعلقة علي أستار الكعبة , فالديوان عبارة عن قصيدة طويلة أختار لها عنوانا لافتا هو (واحد يمشي بلا أسطورة ) وكأن الطبيعي هو أن يسير كل واحد من حاملا أسطورة ما أو حتي مجموعة من الأساطير سواء كانت أسطورة شخصية ترتبط بإنجازاته في الحياة , أو أسطورة ثقافية تتحكم في أفعاله وسلوكه وتتحدد بناء عليها هويته , وهو يدفعنا إلي العديد من الأسئلة المرتبطة بذلك الشخص وكنهه , والمقصود بالأسطورة , ومعني سيره مجردا منها , وإثارة مثل هذه الأسئلة تعني أننا أمام عنوان ناجح يحتوي علي قدر من الإثارة والتشويق , كما يقدم لنا مفتاحا قد يفيدنا ونحن نقتحم تلك المطولة ونتفاعل مع ما تطرحه من صور ورموز وجماليات مختلفة , وروابط فنية تضم عناصر ذلك البناء بحجمه الكبير , وحالاته المتنوعة , وتشابكاته المختلفة , وهي أمور جديرة بأن نتناولها هنا خاصة وأن القصيدة تعتمد علي عدد من الشخصيات التي تلعب أدوارا مختلفة مثل شخصية البحر , و امرأة المتكلم , وشخصية الأب الذي لم تذكر التوراة غير بكائه , وكذلك التناص الكبير مع حكاية يوسف عليه السلام , وغيرها مما يطول تناوله , وسنحاول هنا الوقوف عند صورة الشاعر كما تطرحها القصيدة , فتحديد ملامح المتكلم وطبيعة موقفه , والزاوية التي يتناول منها العالم تعد مدخلا جيدا لا لمجرد الوقوف علي موضوعاته أو رؤاه , بل أيضا الجماليات والأساليب الفنية التي يعتمد عليها .خاصة وأن القصيدة تجسد تجربة طويلة تتعدد مراحلها وتتباين مواقفها وقد تتحول إلي النقيض كما تتحول المواجهة مثلا إلي رحيل ومغادرة , أو كما يتحول الثوري المناضل في المظاهرة إلي صوفي يري نجاته في جبل يعصمه من البلاد ومصيرها المحتوم , ونحن لا نستطيع أن نتوقف علي إشارات تحدد لنا تلك الفترة الزمنية لكننا نستطيع تلمسها عبر عبارة ( مر عشرون احتراقا صـ 63 ) والعبارة هنا تكشف عن مرور فترة محددة لكن ليست بالسنوات ولكن بالتجارب القاسية والأليمة , أي أننا لسنا أمام قصيدة تعبر عن حالة محددة , بقدر ما نحن أما عمل يسعي ليقدم خلاصة فترة طويلة تستوعب العديد من الحالات المختلفة , وتقدم خلاصة تجارب لا تجربة واحدة وإن دارت تلك التجارب في بعد واحد هو العلاقة المعقدة بين البطل والبلاد وقد اتضحت له معالم تلك العلاقة وأبعادها .
يظهر المتكلم في القصيدة بوصفه شاعرا من خلال إشارات كثيرة , غير أن الصفات أو الملامح تتغير من شاعر إلي آخر , وفق ظروف معينة , قد ترتبط ببعد زمني , أو مدرسة أدبية ينتمي إليها , أو حتى اتجاه خاص يسلكه الشاعر , ومن هنا يصبح تقصي ملامح ذلك البطل الذي تقدمه القصيدة بوصفه شاعرا وسيلة لمعرفة موقع الشاعر والقيم الجمالية التي ينتمي إليها .
وبامتداد الديوان يظهر لنا ذلك الشاعر من خلال بعد واحد هو علاقته بالبلاد , و بوصفه ذلك الكائن الرائي والحالم والمفسر ومستودع أسرار الفصاحة والتعبير , وهي أوصاف ليست جديدة , بل ترتبط بالشاعر منذ كان لكل قبيلة شاعرها , وقد أضفت عليه منذ عهد بعيد هالة أسطورية , فكان في صياغة الرواة كائنا مجنحا , وفي صياغة الأعراب تمثالا يجسد عظمته وتقديرهم لدوره , والشاعر هنا امتداد لتلك الصورة يقول صـ32
أنا أسطورة الرؤيا
وتأويل الخرافة
سيد الأحلام
والتعبير سري
صاغني بعض الرواة مجنحا
وأقام تمثالا لي الأعراب
تلك هي صورة الشاعر المحفوظة في الذاكرة , والتي دخل الشاعر هنا إلي عالم الكلمة واضعا ذلك النموذج في حسبانه , وفي يقينه أن يكون امتدادا له , وهو ما لم يحدث , بل حدث النقيض , فالأعراب باعوه بخسا بدلا من نحت تمثال له , لقد جردوه من الأسطورة التي اعتادوا إسباغها علي الشعراء , حتي أنهم جمعوا بين مطولاتهم وأقدس ما لديهم وهو الكعبة , لكن الوضع اختلف فقط من تلك الناحية , فما زال يحمل كافة الخصائص الأخري والجوهرية , وكأن مرد ذلك الاختلاف يرجع إلي خطأ بعينه , فعدم اصطفائه لا يعني انتهاء الفكرة , بقدر ما يعني مواصفات أخري مطلوبة حتي تعود له هالته الأسطورية
سأموت بعد دقيقة
وأري بعيني البلاد
هل اصطفت غيري
تعلمه الكتابة والغناء ؟؟
لعلها تختار صاحبي الذي
سيخونني في الأمسيات
أنا الذي أهديت نصف قصائدي
ورماد أسئلني له
قلت : احتفل
ودع البلاد تسبني .
لم يعد إذن كما كان يتوقع شاعر البلاد , وهو لا يعرف ما إذا كانت قد اصطفت غيره أم لا , لكنه يتوقع أن تختار صاحبه الذي يرتبط بالخيانة ونكران الجميل , وكأننا أمام مواصفات أخري جديدة يحتاجها الشاعر كي ترد له مكانته أو أسطورته الشخصية , ورفض تلك الصفات التي تبدو متناقضة مع الطبيعة المعروفة للشاعر , لا يعني نبذ الشاعر فقط بل يتجاوز ذلك حيث يتحول إلي ملعون تطارده الألفاظ البذيئة والمهينة , وهنانتتحول مع صورة الشاعر إلي اتجاه آخر , هو اتجاه المناضل بالكلمة , أو الشاعر الثوري الذي يهتف للبلاد سعيدا بصوته العبقري , بينما يلوح الرفاق علي الرصيف , وينزفون , وهي صورة قريبة العهد اتضحت معالمها مع الشعر الثوري الذي رأيناه خلال الستينات علي وجه خاص , لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد , فلا يظل بطل المطولة شاعرا ثوريا , بل يتجه اتجاها آخر يتمثل في الرحيل من المكان إلي ذاته أو التصوف أو غيرها من أنواع العزل الاختياري وهي ترتبط أيضا بمرحلة غادرها إلي التصوف واقتفاء الأنبياء , برومثيوس سابقا لا يفقد إيمانه بروعة الحرائق , لكنه يعرف أنها لن تفعل شيئا بسبب ذلك الآخر اللعين
لقد باعه الأعراب بخسا بدلا من نحت تمثال له , لقد بعد تجريده من أسطورته وعلي النحو الذي تحول معه من الحلم بأن يكون مغني البلاد إلي فضاء بعد أن جردوه من الأسطورة , وصار الارتباط بها مجرد مرحلة , تعقبها هجرة إلي فضاء آخر , تصبح فيه مفردة البلاد مزعجة , وجديرة باللعن والشتم ,
مرة أخري تقول لي البلاد !
كأنني شجر يتيم
والبلاد حدائق
تبا لها
ستجرني وأنا المهاجر صـ 58
تبا لها .. هذي البلاد صـ 59
و هكذا يقف البطل مع نهاية التجربة علي مشارف الهجرة التي لا تبدو هي الأخرى مصيرا نهائيا فثمة ما يجره مرة أخري للبلاد , ثمة ما يدعوه لتغيير موقفه متمثلا في رمز البنت التي تعد بعثا جديدا لحكايته وخطواته الأولي بكل ما فيها من أمل وتوقع لصباح جديد