حسين أبو نصر : سأتزوج دون أن أكلفكم شيئًا !
قال " حسين " وهو يستقبل أمه معانقًا ومقبّلاً لها :
- هل دعوتِ لي يا أمي كما طلبتُ منكِ ؟
اتخذت الأم مجلسها ، بينما أحاط بها أبناؤها الستة ، وبناتها الأربع . هتف " حسين " مكررًا مقولته وهو ينظر في عينيها بقوة :
- أماه ، هل دعوتِ لي وأنتِ تقفين على جبل عرفات ؟
صمتت الأم ، صمت إخوانه وأخواته ، حتى الأحفاد الصغار .جالت الأم ببصرها بين أبنائها ، ثم استقرت مقلتاها على وجه " حسين " ، همست له :
- كنتُ قد نسيت كل شيء عندما حطتْ قدماي أرض مكة المباركة . لم أكن أتخيل أن الله سبحانه قد رزقني الحج . لم أتصور أنني أسير على نفس الأرض التي سار عليها رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . لقد نسيت كل الدنيا وأنا في الحج .
بدا القلق على ملامح " حسين " ، غير أنه لاذ بالصمت ، بينما أردفت الأم :
- وأنا على جبل عرفات ، أتطلع إلى السماء … ، أسبح في نور الإيمان ، تذكرتك يا حسين .. ، وتذكرت كل أحبابي . دعوتُ لكم جميعًا .
حسين : بمثل ما طلبتُ منك يا أمي ؟
الأم : نعم ، دعوتُ وقلتُ : " اللهم ارزق ابني حسين الشهادة " .
استطردت الأم وهي تسرح بعينيها :
- تذكرتُ أخاك عبد الله ، الذي فاز بها في انتفاضة 1987 .
* * * *
قالتْ " ليلى " لشقيقها " حسين " :
- ألن تشاهد بدلة زفافك ؟
كان مطرقًا ، رفع وجهه ، ونظر إليها بعينين غائمتين مستفهمًا . أعادت الأخت كلماتها بإسهاب :
- أخوك اشترى لك بدلة عرسك .
أسرعت ، وفضت أوراقًا وكيسًا بلاستيكيًا كبيرًا ، وراحت تخرج البدلة له .
- انظر يا حسين . إنها فخمة وجميلة .
دلفت الأم الغرفة ، وهي تبتسم ، وهتفت :
- اتفقنا على أن يكون عرسك على ابنة عمك في شهر يوليو القادم ، وقد اشتريتُ لحافًا جميلاً لعرسك .
قال حسين ضاحكًا :
- لقد كلّف أخي نفسه ، إن نفقاتي عرسي جاهزة بإذن الله ، ليست لزوجة واحدة ، وإنما لزوجات …
* * *
- متى الأمر ؟ إنني في شوق إلى … ، إنني أتقلب ليلاً ولا أستطيع النوم .
قال له إخوانه وهم يتحلقون حوله :
- حسين ، ما دمت قد اشتقت ، فأعد نفسك .
بحرارة هتف : إنني جاهز منذ فترة طويلة .
قال أحدهم : هل تعرف مفترق طرق الشهداء .
حسين : نعم .. ، وهل أنسى مكان استشهاد أنور الشبراوي وعبد الله المدهون ، لقد استشهدا عند هذا المفترق ، جنوب غزة ، وأنا أحفظ التاريخ جيدًا ، أول إبريل 1997 .
- هل تودّ الثأر لهما ؟
- نعم ، فلم تخمد نارهما في قلبي .
- إذن ، فاحفظ ما سنقوله لك .
* * *
قالتْ " ليلى " وهي تنظر لشقيقها :
- حسين دائمًا شارد ! فيم تفكر ؟
ابتسم " حسين " بغموض ، وقال :
- أفكر في رؤيا رأيتها في منامي منذ فترة .
- وما هي هذه الرؤيا ؟
- كنتُ أقف مع صديقيّ " الشبراوي والمدهون " في رفقة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في روضات الجنة .
بكتْ " ليلى " بشدة وهي تتنشج بصوت عال ، اقترب منها " حسين " مهدئًا ، قالتْ مشيرةً لصدرها :
- صدري ضيق ، وكأنني أتنفس من خرم إبرة .
- هيا اذهبي لزوجكِ حتى لا يقلق عليكِ .
- سآتي غدًا الجمعة حتى أصنع لك الفطائر التي تحبها .
- إن شاء الله يا حبيبتي .
استمعتْ الأم لحديثهما وهي جالسة في ركنٍ بالبيت ، قالتْ :
- حسين ، هل … ؟
- أماه .. ، أماه … ، إنني متعجل لعرسي ، أتمنى أن يكون غدًا ، لابد أن توزّعي الحلوى بيديك على أحبابنا .
قبلهما ، ثم تحرّك خارجًا ، كان الليل يقترب من منتصفه .
* * *
مع تنفس الصبح ، سار " حسين " مستنشقًا النسمات الرطبة . كان وحيدًا عند مفترق طرق الشهداء . هنا كان الشبراوي والمدهون ، هل سأنال ما نالاه ؟ تحسس اللفائف المحيطة ببطنه . استمع صوت سيارة ، اختبأ خلف أحد الكثبان الرملية ، ارتفع الصوت، تحرك ، كانت شاحنة لليهود في طريقها إلى معسكر الشرطة الحربية اليهودية، اقترب من الشاحنة وهي تسير بتؤدة ، على الطريق الأسفلتي الضيق ، تسلق صندوقها الخلفي ، تطلع من فوقها ، شاهد مباني المعسكر ، الشاحنة تتباطأ عند البوابة …
دوّى انفجار هائل .
* * *
أعلن راديو الصهاينة عصر الجمعة 25 / 5 / 2001 م : " قام أحد الإرهابيين بتفجير نفسه عند مفترق الطرق بجنوب غزة ، ولم تسفر العملية إلا عن قتل منفذها " .
بينما أكدت حركة المقاومة الإسلامية " حماس " في بيان وزّع على وكالات الأنباء :
" … وقد نجحت العملية بفضل الله ، ونال منفذها حسين حسن محمد أبو نصر الشهادة ، وقد نتج عن العملية تفجير الشاحنة ، والموقع العسكري الصهيوني جنوب غزة ، وكتائب الشهيد عز الدين القسام تنعى بكل آيات الجهاد شهيدها " أبا نصر ".
* * *
في الموكب الجنائزي المهيب ، تحركت جموع الناس مودعة شهيدها في شارع كبير وسط مدينة غزة ، سارت الأم تمسح دمعاتها المترقرقة ، وهي تقول :
- كنت أتمنى أن تكتحل عيناي برؤيته قبل أن يستقر في مثواه الأخير ، مثل كافة أمهات الشهداء ، كانت تلك أمنيتي الوحيدة بعدما سمعتُ نبأ … ، ولكن يكفيني فخرًا أن جسد ابني المتفحم ، حطّم موقعًا لليهود ، كان سببًا في استشهاد عشرات الفلسطينيين من قبل .
وقالت " ليلى " شقيقته وكأنها تناجيه :
- لقد ذهبت إلى بيتنا صباح الجمعة ، لأساعد أمي في عمل الفطائر التي تحبها … ، توقعت أن تعود عقب صلاة الجمعة .
الأم : سأوزّع الحلوى يوم عرسك يا بني .