دماء على عتبات " جنين "
قال عصام :
- أعدي ماءً ساخنًا لي كي أستحم يا أمي ؟
الأم باستغراب : أول مرة تستحم يوم الخميس ، عادتك أن تستحم الجمعة .
صمت عصام ، كان ينظر للسماء عبر النافذة ، هتف :
- السماء صافية اليوم ، وكأن الملائكة ترفرف بأجنحتها بين النجوم .
- عصام ، لم ترد عليّ ؟
صرخت الأم فيه ، وأردفت :
- عصام " بدك تموت يا عصام " ؟
كان قد سبقها ، فوضع إناء الماء فوق موقد الغاز ، وراح يعدّ ملابسه بتمهل .
الأم ترقبه بصمت ، تخاطب قلبها : " كأنه على موعد مع … "
الوساوس السوداء تزاحم رأسها ، وكأن قوة غير معلومة تدفعها للسكوت .
دخل الحمام ، وسمعتْ الأم رذاذ الماء ، ثم خرج ، كان وجهه بهيًا كالشمس .
* * *
قالت الأم لأخت " عصام " التي جاءت لزيارتها ، فهي متزوجة من أحد شباب مخيم جنين، وتسكن بالقرب من أمها :
- أماه ، عصام حدثني من أيام أنه رأى نفسه مع الشهداء في ثلاث ليالٍ متتالية .
انقبض قلب الأم ، وهتفت :
- لم يخبرني ، ولكنه كان يعد نفسه وكأنه ذاهب لعرس يا ابنتي .
- أماه ، حاولت أن أثنيه عما يفكر فيها ، ولكنه قال لي : يا أختي أنتِ موضع سري أنا أريد أن أستشهد ، لا أريد أن أصاب بجراح أو أن أتعذب .
* * *
أنهى عصام استحمامه ، وتعطر ، ثم تسحب من البيت ، لم تشعر به الأم ، كان يعرف طريقه جيدًا ، سار بين أزقة مخيم جنين ، وكأنه يودعها ، يتأمل البيوت التي بنيت في أماكن الخيام ، كان معه أحد الشباب يرافقه في تسلله ، قال عصام له :
- لا أتصور أن تلك البيوت كانت خيامًا يومًا ما منذ هزيمة ( 1948 ) ، كان أبي يرحمه الله يقول لي : لقد وعدونا أن نعود إلى بلدنا " لد العوادين " خلال أسابيع ، ثم تطور الوعد إلى أشهر ، ثم إلى سنوات .
قال صديقه بحرقة :
- والله يا عصام ، كلما شاهدت حال أطفالنا تنتابني الحسرة ، انظر إليهم وهم يلعبون بين طرقات المخيم الضيقة ، ومياه المجاري تجري في قناة صغيرة ، إنهم يحملون المرض ، ويلعبون ، هل محكوم علينا أن نتربى ونعيش لاجئين في ديارنا ؟
عصام وكأنه يواصل ذكرياته :
- أتعلم يا أخي ، أننا كنا نسكن في قرية لد العوادين ، ثم رحلنا مع هجمات اليهود إلى العفولة الغربية ، ثم رحلنا إلى حيفا بعدما سقطت في حرب 1948 ، إلى عكا ، كان أبي رحمه الله دائمًا يحكي لي قصة الخروج من " حيفا " …
- احكها لي .
- كان أبي مع أعمامي وجدي في حيفا ، عندما علموا بهجوم اليهود على المدينة ، حاولوا الدفاع عنها ، ولكن قوة اليهود ، وتخاذل العرب وتفككهم عجل بسقوط المدينة ، أسرع أبي وأعمامي إلى شاطئ البحر ، حيث ركبوا سفينة إلى " عكا " .
- أسوأ شيء عند الإنسان أن يغادر الأرض التي تربى فيها ولو مرة واحدة .
- ونحن غادرناها مرات ومرات .
كانا قد وصلا إلى مسجد المخيم ، أمسك عصام بندقيته ، واتخذ مكانه بين صفوف المجاهدين ، كان اليهود يحاصرون المخيم ، يريدون اقتحامه ، رأى الدماء تتطاير من الصدور ، تتفجر بقوة ، هانت الدنيا ، بيوت المخيم وأزقتها تتخاتل أمام عينيه ، لم يصدق أنه يقاتل هؤلاء الذين يقولون إنهم الأقوى في العالم ، كانوا يفرون كالجرذان من أمام المجاهدين ، يتحصنون في دباباتهم .
" الله أكبر ، الله أكبر "
ردد نداء الصلاة ، في سره ، خفت صوت إطلاق النار ، الدبابات تنسحب إلى الخلف ، اصطف المجاهدون ، قال القائد موجهًا كلامه لهم :
- إخواني ، وفقكم الله ، أنتم برصاصاتكم توجهون أعتى قوة في الكبر والغرور ، انظروا إليهم وهم يفرون من أمامنا .
- وماذا يجب علينا فعله يا أخي الآن ؟
قالها أحد المجاهدين بحماس . قال القائد :
- مجموعة تذهب للصلاة في مسجد المخيم ، حتى تطمئن أهالينا بأن العدو قد تراجع ، وآخرون يبقون هنا للحراسة .
* * *
تحكي الأم لابنتها بحنو :
- منذ أيام قليلة ، جاءني ، وقال : لقد شاهدت شريط فيديو عن أفغانستان يا أمي ، كان المجاهدون الأفغان يقاتلون قوى الشيوعية الكافرة بكل إخلاص ، عندما كنت أنظر إليهم، كنت أحس كأنهم من الصحابة الكرام .
- …………
- وقال أيضًا : إن هذا الشهيد في أفغانستان لا يملك إلا روحه ، ولا يحفظ من القرآن إلا سورًا قصيرة ، ومع ذلك فإن إيمانه يزلزل الجبال .
- وماذا قال أيضًا يا أمي ؟
دموع الأم ، وكلماتها تتقطع على لسانها :
- سألني : ما الأفضل يا أمي ؟ أن أموت هكذا بدون هدف أم أن أموت شهيدًا ؟ قلتُ له: أي موت يا بني ؟ أنت شاب في الثامنة عشر .. قال : كل نفس ذائقة الموت ، سواء في شبابها أم في شيخوختها .
* * *
ذهب عصام إلى الصلاة في مسجد المخيم ، سار مع صديقه الذي لازمه منذ خرج للجهاد، قال عصام :
- لقد خرجت من بيتنا اليوم وأنا عازم على الشهادة . فلا أحد يثنيني عنها .
- لماذا اليوم بالتحديد ؟
- لأنني سأنتقم لجدي وأبي ، هل تعلم أنهم بعدما وصلوا إلى عكا ، بالسفن كما قلتُ لك، ونزلوا إلى الشاطئ ، ثم ركبوا الحمير إلى " الناصرة " ، وبقوا فيها ، آملين في أمان ، ولكن اليهود لاحقوهم ، كان أبي يقول لي : إن الأطفال كانت تموت عطشًا على صدور أمهاتهم ، واغتصب اليهود بعض بناتنا .
- وهل استقروا في الناصرة ؟
- لا ، سقطت الناصرة ، فهربوا إلى قرية سالم ، التي هي مخيم جنين الآن .
دخلا المسجد ، صليا بخشوع ، كأن عصام يصافح الملائكة في صلاته .
* * *
عقب الصلاة ، عاد الاثنان إلى المجاهدين خارج المخيم ، كانت دبابات اليهود تقترب ثانية، ووراءها المصفحات العسكرية .
قال القائد : يا شباب الجهاد ، الثبات .. الثبات .
عصام : وأنا أولهم ، دعوني ، سأجعل نيران بندقيتي نارًا عليهم .
راح يتبادل النيران بقوة ، ويقفز من موضع إلى موضع ، واليهود يطلقون النار عشوائيًا في كل اتجاه ، اليهود يصابون وهم في مصفحاتهم … ، أرادوا التقدم ، تقدموا قليلاً ، تراجع المجاهدون بعض الشيء إلى الوراء ، صرخ عصام :
- لا .. لن تتقدموا .
خرج فاتحًا صدره ، شاهرًا بندقيته ، النيران كالرذاذ منها ، نحو اليهود ، صوب اليهود من دباباتهم نيرانهم نحو الصدر الذي يواجههم بإيمانه .
الدماء تتفجر من صدر عصام ، يتلفظ الشهادتين .
* * *
تقول الحاجة لمن جاؤوا يعزونها في استشهاد ابنها :
- عقبال أولادكم ، لقد شعرت أن قلبي قد بردت ناره قليلاً ، وانتقم عصام لجده وأبيه الذين حرموا من أرضهم .
سألها أحد الصحافيين : وماذا تتمنين يا أم عصام ؟
- أتمنى أن أعود إلى قريتنا " لد العوادين " وأدفن هناك .
- حدثينا عن عصام الشهيد ، متى ولد ؟
- ولد في 1 / 1 / 1970 ..
شهق المراسل : عقب مذابح أيلول الأسود في الأردن .
- نعم يا ولدي ، كانت قلوبنا تتقطع ، ونحن نرى المنظمة تحارب عربًا مسلمين ، وتترك المعتدي الغاشم على أرضنا .
- عجيبة هذه المفارقة .
- لقد نذرت ألا يكون أحد من أولادي مقاتلاً ضد عربي مسلم .
- هل درس عصام ؟
- عصام زينة شباب الحي ، كان في الثانوية العامة ، وكان يستعد لامتحان التوجيهية قبل أن تقوم الانتفاضة .
- وترك المدرسة …
- لم يتركها ، وإنما لم يهدأ يومًا عن ضرب اليهود بالحجارة ثم بالرصاص .
* * *
سأل المراسل الصحفي شقيق " عصام " واسمه " محمود " :
- أين كنت يا محمود عندما استشهد عصام يوم 25 / 2 / 1988م .
- كنت في " نابلس " مع جارنا المريض الذي كان يعالج في مستشفى المدينة هناك .
- وماذا رأيت عندما رجعت ؟
- رأيت الانتفاضة شديدة ، وثائرة ضد زيارة " جورج شولتز " وزير خارجية أمريكا، جاء يريد أن ينهي الانتفاضة ، بأي وسيلة ، راح مصر ، وراح الأردن .. ، وراح تل أبيب ، كان يبتسم ابتسامة مصطنعة أمام العدسات ، بينما " شيمون بيريز " بجواره والغيظ بادٍ في وجهه .
- نعم ، لم يتوقعوا أن تكون الثورة والتحرير من الداخل ، و" شولتز " لم يكن يريد أن يسمع شيئًا عن الشرق الأوسط حتى تنتهي ولاية ريجان ، لأن الرحلة في الطائرة تستغرق ساعات طويلة ، وهو لا يريد السفر والتعب على متن الطائرات .
- لقد جاء غصبًا عنه ، فالمسألة أكبر منهم كلهم ، إن شعبنا يعد العدة أن تستمر الثورة سنوات وسنوات …
- وعصام ؟
- جذوة من وقود الثورة التي ستكون وبالاً على الأعداء .
* * *
كتب المراسل الصحفي :
" إن هؤلاء الشهداء ليسوا إلا بشرًا مثلنا ، نقابلهم في كل مكان من أرض الإسلام ، ولكنهم يمتازون عنا بسمة واحدة ، ألا وهي : حب الموت ، واحتقار الدنيا … "
وكتب أيضًا :
" إن هؤلاء الشهداء لهم أحلام وآلام دنيوية مثلنا ، ولكنهم ارتقوا عنها ، ليحلقوا إلى السماء ، ما حلموا إلا بوطن كريم ، غير ملوث بالصهاينة "