راينار ماريا ريلكه شاعر الحب والموت
حسونة المصباحي
بالرغم من المكانة العالية التي يحتلها الشاعر الألماني راينار ماريا ريلكه في الشعر العالمي، فإنه لا يزال شبه مجهول في لغة الضاد. والترجمات القليلة التي أنجزت للبعض من آثاره لا تكاد تفي بالحاجة، خصوصا وأنها تمت عن طريق لغة ثانية، غير لغته الأم.
ولأنه كان رحّالة لا يتعب، ولا يملّ فإن ريلكه ترك لنا أعمالا شعرية تعكس أماكن ارتادها، ومدنا زارها، وتجول في متاحفها، وبحارا أحبها، وجبالا تمشي فيها وحيدا، وأنهارا وقف أمامها متأملا مصيره، ومصير الانسانية جمعاء.. كما أنه ترك لنا ايضا أعمالا شعرية تعكس قلق الانسان في القرن العشرين، وأيضا رعبه أمام الموت، وسعادته أمام الحب.
وقد ولد راينار ماريا ريلكه -الذي يعتبره ستيفان زفايغ، أعظم شاعر في اللغة الألمانية بعد غوته- في الرابع من ديسمبر 1875. وكان والده قد أصبح عاملا في السكك الحديدية بعد أن فشل في الحياة العسكرية أما والدته فقد كانت ابنة تاجر ثري كان في الوقت ذاته مستشارا لدى القصر في العاصمة التشيكية.
وفي المدرسة، أبدى الطفل رنيه "هكذا كان اسمه في البداية" نبوغا مثيرا للانتباه، وبعد انفصال والديه عام 1885، دخل الفتى المراهق المدرسة الحربية في "سان- بولتن" في النمسا. وفي الآن نفسه أخذ يقرض الشعر، ويلتهم الكتب ويمضي الساعات الطويلة في التأمل والحلم. ويبدو أن سنوات المدرسة الحربية لم ترق له. ومن المؤكد أنها اتسمت بالقسوة والمرارة والخشونة من حيث المعاملة، الشيء الذي جعله يصفها في ما بعد بـ"سنوات الرعب".
في ربيع عام 1892، عاد ريلكه إلى براغ حيث تكفّل به عمّه ياروسلاف ريلكه الذي كان محاميا ونائبا في البرلمان. وعملا بنصيحة هذا الأخير، واصل الفتى دراسته في الحقوق، وفي الوقت ذاته أخذ يتردّد على الحلقات الأدبية في العاصمة التشيكية. وبعد ثلاث سنوات انقطع ريلكه عن دراسة الحقوق، لينتقل إلى الفلسفة، وتاريخ الفن والأدب الألماني. وفي تلك الفترة أخذ يوزّع قصائده في الشارع، مشاركا في تحرير احدى المجلات الأدبية الطبيعية.
وفي خريف عام 1896، غادر ريلكه براغ ليستقر في ميونيخ عاصمة مقاطعة بافاريا الالمانية، ليواصل هناك دراسة الفن. وبعد أن قام بعدة رحلات إلى العديد من المدن الألمانية والايطالية، التقى بلو اندرياس سالومي التي أعجبت بذكائه وبكتاباته وبعواطفه النبيلة، وبقدرته الفائقة على التحليق بعيدا في عالم الحلم والخيال. وكان ذلك اللقاء بين الشاعر الشاب والمرأة المثقفة التي فتنت قلوب العديد من كبار الفنانين والشعراء في عصرها، وكان نيتشه واحدا من بينهم، ممهدا لعلاقة حميمة امتدت لسنوات طويلة، وجسّدت في الأدب الألماني الحديث أنبل مشاعر الحب والصداقة بين امرأة ورجل.
وبينما كان القرن التاسع عشر يمضي حثيثا إلى نهايته، انشغل ريلكه بالسفر، وحطّ رحاله في العديد من المدن التي كانت تعج في ذلك الوقت بالفنانين والشعراء مثل برلين وهامبورغ وروما.. وكانت تلك الرحلات المتواصلة بين المدن تشحنه دائما بطاقة جديدة، وتدفع به إلى الكتابة بشكل محموم فاتحة خياله على آفاق كانت لا تزال مجهولة بالنسبة إليه حتى ذلك الوقت.
ويبدو أن الرحلتين اللتين قام بهما ريلكه إلى روسيا بصحبة لواندرياس سالومي عام 1899، وعام 1900، كانت من أمتع وأخصب الرحلات بالنسبة له. فقد تركتا في نفسه أثرا عميقا، وعمقتا تجربته الفكرية والشعرية، وأتاحتا له فرصة تعلم اللغة الروسية الشيء الذي سوف يساعده في ما بعد على ترجمة العديد من الشعراء الروس إلى اللغة الألمانية. وبالرغم من أنه قام بعد ذلك برحلات كثيرة إلى العديد من المدن والأماكن فإنه ظل مشدودا إلى تلك الانفعالات العنيفة التي هزّت روحه يوم التقى الكونت تولستوي في ضيعته، وتجول في الكرملين، وتاه في كنائس يطرسبورغ القديمة، وأستمتع بمشاهدة الايقونات ولوحات للرسامين الروس ووقف على المرتفعات مع لواندرياس سالومي ليتأمل مدينة كييف العتيقة.
وفي عام 1902، استقر ريلكه في باريس وبعد لقائه بالنحات الشهير رودان قرّر أن يصبح سكرتيره الخاص. وفي رسالة إلى لواندرياس سالومي بتاريخ 8 أوت 1903، كتب يقول: "لقد أدركت منذ المرة الأولى حين ذهبت للقاء رودان، أن بيته ليس مهما بالنسبة له، وأنه قد يكون مجرّد ضرورة بائسة، سقفا يحصيه من الأمطار والريح، وأنه ليس مصدر قلق، ولاعبئا على وحدته وانعكافه.
ذلك أن رودان يمتلك في أعماقه عتمة البيت وهدوءه وأنه نفسه السماء التي تمتدّ فوقه، والغابة التي تحيط به، والمدى، والنهر الذي لا ينقطع البتة عن التدفق. يا له من متوحّد هذا العجوز الذي أهترأ واقفا، مفعما بالنسخ مثل شجرة قديمة في الخريف".
وحين أخذت "المدينة الأجنبية الكبيرة" أي باريس، تزعج الشاعر، وتثقل نفسه بالهواجس والمتاعب، رحل عنها قلقا إلى مدن أخرى مثل برلين وفلورنسا وفينيسيا، وليس معه غير تلك الدفاتر التي كان يملأ صفحاتها كل يوم بتلك القصائد والنصوص التي سوف تخلّده في ما بعد. ولما وصل إلى روما، وكان ذلك في بدايات عام 1904، شرع ريلكه في كتابه.. أثره العظيم: "كراسات لوريدز بريجه" الذي ولدت فكرته في باريس وكان عليه أن يمضي ثمانية أعوام كاملة لانهائه.
وفي أثره هذا عمّق مفهومه للعلاقة بين التجربة والعمل الفني حيث يقول: "ان الأبيات الشعرية ليست كما يتصور البعض عواطف "نحن لنا عواطف منذ سن مبكرة" وإنما هي تجارب. لكي نكتب بيتا واحدا من الشعر، لابد أن نكون قد شاهدنا كثيرا من المدن، ومن البشر، ومن الأشياء. وعلينا أن نعرف الحيوانات وعلينا أيضا أن نحسّ كيف تطير الطيور، وأن نعرف ما هي الحركة التي تقوم بها الأزهار حين تتفتح في الصباح.
ولابد أن نفكر من جديد في مناطق مجهولة، وفي لقاءات غير متوقعة، وفي رحيل كنا نترقب قدومه منذ وقت طويل وفي أيام طفولة لم تنكشف ألغازها بعد، وفي آباء كان لابد من أن نجرح مشاعرهم حين يقدمون لنا فرحا لا ندرك معناه، ولا نقدّر قيمته "فرح مأهول للآخر" وفي أمراض طفولة كانت تبدأ بدايات غريبة بتحولات عميقة وخطيرة في آن واحد، وفي أيام قضيت في عزف صامت، وفي صباحات على شاطئ البحر، وفي البحر نفسه وفي بحار وفي ليالي سفر ترتعش هناك في الأعالي، وتطير مع كل النجوم.."
وفي نهايات عام 1910 سافر ريلكه إلى الجزائر وتونس التي وصل إليها في شهر ديسمبر من العام المذكور. ومن فندق "الكلاريدج" الذي أقام فيه، كتب رسالة إلى زوجته كلارا يقول فيها: "هناك أحيانا في الأسواق ما يجعل عيد الميلاد عندنا سهل التخيّل. مجلات صغيرة تفيض منها العديد من الأشياء الملوّنة، والأقمشة جدّ غنية، وجدّ مدهشة والذهب له لمعان رائع حتى أننا نخال أننا سوف نحصل عليه كهدية في اليوم التالي. في المساء هناك مصباح يحترق، ويترجرج أمامنا كما لو أنه مستثار بسبب حضور كل من يلامسه ضوؤه.
وعندئذ يمتزج بـ"ألف ليلة وليلة" كل ما في الكائن من انتظار ورغبة، ويصبح عيد الميلاد ممكن الوقوع هناك. لكن حتى في الصباح لا أنقطع البتة عن الشعور بالافتنان بما تحدثه الشمس لما تدخل الأسواق كما من خلال غربال، وهناك حيث يسقط شعاعها، يجعل هذا الشيء أخضر شفافا، وذلك أحمر حارقا، والآخر خبازيا شديد الاستكانة.
واليوم خلال حصة بيع بالمزاد العلني لجبائب وبرانيس، كان هناك احساس بأنني أمشي بين الأحجار الكريمة. ومقتربا من قماش، بدا أنني ألج لونه الأخضر الباهث وأنني اجتاز لونه البنفسجي، أو أني أمشي بمحاذاة لونه الأصفر الذي يشدّ النظر إليه دونما سبب كما لو انه صحوة متوهجة في السماء. في "سوق العطارين"، أصبح لي صديق "حين أمدّ يدي لمصافحته فان هذا يكون كافيا على مدى النهار بكامله. وفي الليل، استيقظ بأصابع معطرة بشكل غريب. لقد طلبت منه عطر الغرنوفيات الذي يباع هنا كما لو أنه ماء الورد. فوفره لي. على هذا آنبنت صداقتنا".
ومن تونس، انتقل ريلكه إلى القيروان، المدينة الاسلامية الأولى في شمال افريقيا. وهناك اكتشف جوانب أخرى من الحضارة الاسلامية: جوانب التصوف والزهد والايمان. وفي احدى الرسائل التي بعث بها من هناك هو يشير إلى أن القيروان مدينة مقدسة مثل مكة. والشيء الذي أعجبه فيها أكثر من غيره هو جامعها "الأعظم الذي استخدمت في بنائه أعمدة كثيرة من آثار قرطاج والمدن الفينيقية والرومانية والبيزنطية. ويشير ريلكه أيضا إلى أن القيروان تقع وسط السهول. وأنها محاطة بالمقابر، لذا هي بدت له وكأنها محاصرة بالموتى. موتى راقدون حولها، ولا يتحركون أبدا.
ومن تونس سافر ريلكه إلى مصر ليعيش تجربة عميقة أخرى أمام الآثار الفرعونية، وأمام أبي الهول الذي رقد عند قدميه عند الغروب ليشعر في الحين بأنه "منفيّ" عن نفسه، وعن حياته.
تواصلت رحلات ريلكه بعد ذلك بنفس النهم والشوق والتوق إلى المعرفة، والاكتشاف وتعميق التجربة الحياتية والشعرية. وأثناء ذلك كانت المدن والبحار والانهار والجبال تنسلخ من واقعها لتتحوّل إلى قصائد من خلالها يصيغ هواجسه، وتأملاته وتجاربه وأحلامه ومخاوفه أمام شرور العالم.
وكان الحب يشغله طوال الوقت ذلك أن الحب بالنسبة له هو مثل كل الأشياء العميقة في الحياة، لابد أن يكون دائما وكأنه بداية جديدة. لذا كان عليه أن يواصل الترحال والتنقل من تجربة حب إلى أخرى، بحثا عن تلك البداية التي بدونها يجف الحب كما "يجف الماء في الطين". وفي العديد من كتاباته ورسائله، عبر ريلكه عن احتقاره لأولئك الذين لا يولون الحب الاهتمام اللائق به، بل ويعتبرونه في غالب الأحيان ضربا من ضروب التسلية التي لا تتعدى تلبية الرغبات الجسدية السريعة الزوال.
وفي هذا الشأن كتب يقول: "لابد من التعامل مع الحب تعاملا جديا، ولابد أن نمارسه مثلما نمارس فعلا نبيلا وساميا" ثم يضيف قائلا: "ان الحب هو الفرصة الوحيدة لكي ننضج، نكتمل ويتحوّل الواحد منا إلى كائن منذور للحب، حبّ الكائن الذي يحبّ. ان الحب تمرين عظيم للوحدة والتركيز والولوج إلى أعماق النفس".
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، كان ريلكه قد أصبح شاعرا مشهورا، لا في المانيا فحسب، بل وفي جميع أنحاء اوروبا، وكانت أعماله الشعرية والنثرية قد أصبحت تتصدر قائمة أهم الأعمال الابداعية التي تثير اعجاب النقاد والقراء على حد سواء. وكان قد بدأ يعيش قصة حب جديدة مع شابة مصرية التقاها في القطار الذي يربط بين لوزان وجينيف، لما ساءت صحته فجأة. ورغم ذلك واصل رحلاته وعمله واتصالاته باصدقائه من الشعراء والكتاب والمفكرين. وفي 29 ديسمبر 1926، وعند طلوع الفجر على جبال سويسرا المكسوة بالثلوج، أسلم الروح تاركا تراثا شعريا عظيما، لا يزال متوهجا حتى هذه الساعة.. وربما سيظل كذلك إلى الأبد.