من خلف كوة تطل على مساءات مكتظة بنساء مقطوعة الثديين ، صافحنى صديقى الذى هاجر منذ أمس ، مددت يدى محتضناً
الفراغ .
عانقتنى ذكريات الطفولة .
اطرق صديقى محتسياً الشاى الغامق فى سطل
صدىء . مازالت يداى ممتدة عبر الفراغ معانقة احلام الطفولة . ثم راح يتوارى فى العتمة .
ركبت الباص متوجهاً إلى شارع الجامعة العربية ، دفعنى الركاب اسفل العجلات المسرعة ، تدحرجت فوق الأسفلت المشتعل ،
شممت رائحة جلدى المحترق .
عبر الرمال الممتدة فى كوابيس النهارات ،
كان الحسين يقف وحيداً فى العراء . ركضت
صوبه،ورائحة جلدى تتلون فى جدائل الصمت
المدلاة من الأفق . كانت دماؤه تنزف ، تلونت
الرمال الشاسعة بحمرة داكنة ، جثوت على ركبتى ، صرخ الأفق مع سائق الباص عندما كان صديقى يصافحنى ، بينما كنت أتدحرج
أسفل العجلات المسرعة .
كانت الملائكة تبكى ، اختلطت دموعها بحمرة الرمال الداكنة . وامرأة عجوز تحلب عنزة عجفاء ، ثم ملأت كوزاً كبيراً من لبنها،أعطتنى الكوز.أسندت رأسه برفق فوق صدرى المرضوض .
اتكأ ، وهو يحدق مبتسماً فى وجوه الملائكة .
وجيوش يزيد مازالت رافعة رايات الانتصار فى عين الشمس .
خجلت الشمس ، فتدلت مختنقة ، ثم راحت تتضاءل متكومة فى ركن قصى .
رأيت صديقى مشدوداً إلى شجرتين ، وجنود
الحجَّاج منقسمين إلى فريقين ، يدمدمون وهم
يشدون فروع الشجرة فى اتجاه مضاد للفريق الآخر .
يصرخ ...
يصرخ ..
مازال يصرخ .
صرخ الواقفون فوق الرصيف ، وأنا أفرم أسفل العجلات المسرعة .
نهضت من فوق الأسفلت المشتعل برائحة لحمى المحترق . ركضت صوب صديقى الذى
فقد شهقة صراخه الأخيرة .
انهالت علىَّ جنود الأمن المركزى بالهراوات ،
وهم يتوضئون عند الحرم المكى ، وبعضهم مصطفون حول الحاخامات التى راحت تطوف
بالبيت العتيق .
فسقطت أسفل حجارة الرصيف الذى يئن من صرخات الجوعى الذين يلوذون بالجدران المتهاوية من حرارة الاسفلت المشتعل بنشيج
رائحة جلدى المحترق .
مددت له يدىَّ بكوز اللبن ، مازال مبتسماً فى
وجوه الملائكة الباكية ، والتى كانت تشرع فى
تجهيز كفنه .
صرخ ابن الجوشن ، صرخة مدوية ، جفلت منها الصقور فى الأعالى ، وفرت الرمال الداكنة الحمرة هاربة من تحت حوافر فرسه .
انتزع من غمد يزيد الذى كان يرقص فوق كرسى الخلافة ، سيفه ، قاطعاً به رأس الحسين قبل أن يشرب قطرة من كوز اللبن ،
وقبل أن تتدحرج الرأس الشريف ، ضممتها
إلى صدرى ، رحت أغسلها بدموعى الهاربة .
كرَّ ابن الجوشن مرة أخرى ، رشق رمحه فى
رأس الحسين ، ثم شرعها فى وجوه الملائكة الباكية ،هازاً يده صوب جنوده التى مازالت منتشية برايات الانتصار المرفوعة .
ثم آمراً مشاته بتقييدى من تحت ابطى ، ثم
ربطنى فى سرج فرسه منطلقاً صوب بوابات
دمشق .
رحت أتدحرج فوق حجارة الرصيف،وهراوات جنود الأمن المركزى تهشم ضلوعى ، ورأسى
والحاخامات مازالت تطوف بالبيت العتيق .
رمانى ابن الجوشن عند أقدام يزيد الذى مازال يرقص فوق عرشه ، وهو يداعب
عصفوراً صغيراً مكمماً فاهه ، ومقيِّداً
ساقيه المرتعشتين ، وجناحيه الصغيرين
يتدليان بجانبى ضلوعه النازفة .
اقترب منه ابن الجوشن ، مازال يزيد سادراً
فى لهوه ، همس فى أذنيه ببعض الكلمات ،
وما زال رمحه مشرعاً فى رسومات سقف بهو الخلافة ، مرشوقاً فى رأس الحسين الذى
مازال باسماً فى وجهى ، يواسينى فى قيدى .
أمر يزيد بإلقائى عارياً فى موقف الباصات عند نهر اللِّيطانى .
مازالت جنود الحجَّاج يشدون أفرع الشجرة
الموثوق فيها صديقى ، الذى فقد بهجة الضحك فى شهة الصراخ ، وسطل الشاى
المغلى مدلوقاً أسفل سرواله المبلل .
رحت أتدحرج فوق حجارة الرصيف عند شارع الجامعة العربية .
كان هناك احتفالاً منصوباً لتكريم الأم المثالية.
احتشدت السفن الصليبية فى رائعـــــة
" يوسف شاهين "
فيليب أغسطس ملك فرنسا ، ريتشارد قلب
الأسد ملك انجلترا .
ثم هولاكو يستعتطفه المستعصم وهو راكعاً
ألا تسقط عمامته مع أسوار بغداد .
وألفونسوا يتأبط إيزابيلا وهما يطوفان بالبيت
العتيق ، وأميرة الكرك جميلة الجميلات تتأبط
عمنا الحلو " توفيق الدقن " والى عكا ، وهو
يهز رأسه ، مقدماً لها النبيذ قائلاً ، مترنحاً:
" أوسخ من الشرف مفيش " .
وصدام حسين بطبنجته الميرى ، راح يطلق
أعيرته فى فضاء بغداد .
وملوك الطوائف يصطفون حول مائدة عامرة
بالرؤوس المجزوزة ، المحلاة بالسكسكية
والمهلبية الفاطمية .
وكوندرا بنص تضع ساقاً فوق ساق ، أومأت
برأسها ، فعزفت الموسيقى ، بادئة الاحتفالية
مع تلاوة بعض من آيات القرآن من كبير الحاخامات .
ومن السماء المزينة باختناق قرص الشمس
تدلى ناجى العلى مشنوقاً ، وفى يديه ريشته
التى كانت ترسم ملامح محمد الدُّرة الذى فشلت محاولاته فى الاختباء فى ضلوع
أبيه ، فسقطا .
وجنود الأمن المركزى يجرجرون المرأة العجوز ، لتكريمها ، والتى كانت تقبض على مقود عنزتها العجفاء .
كانت ممزقة الثياب ، مقطوعة الثديين .
صافحنى صديقى قبل أن أسقط أسفل العجلات.
مدت يديها بكوز اللبن ، راحت تفرغ محتوياته
فى فم محمد الدُّرة قطرة .. قطرة .
أخرج الحاخام الذى كان يرتل آيات الله طبنجته الميرى، وراح يفرغها فى صدرها
طلقة .. طلقة .
وصيحات التكبير الهادرة تضج بها سماء
شارع الجامعة العربية .
فتحى سعد
أغسطس 2008[b]