كانت الأشجار قد عريت إلا من قليل من كسائها وقد غلبت عليه الصفرة وأخذت الأوراق تتدلى فى رقة ونعومة أو ربما فى يأس وألم لكنها توشك أن تفقد آخر رمق لها فى الحياة , وسرعان ما تسقط على الأرض وتذريها الرياح بلا رحمة أو هوادة وهذا قدرها ترى هل هى راضية بما تؤل إليه ؟
وأخذ يسبح فى جو السماء سحابات رمادية وأُخَربيضاء غير ناصعة وبدت السماء كمن يُعَبئ لوقت يكثر فيه العمل , وتبدو مضطربة كمن يخفى أخبارا ليست جيدة , ويترامى للأذن صوت الريح الذى يجيش بأنات كمن أقبل على البكاء لكنه يستحضر حزنا قديما حتى يستطيع البكاء وغابت الشمس هنيهة ثم بدأت تقطر مطرا خفيفا ناعما كأنه من ماء الجنة إنه شهر نوفمبر, وقد إرتبط المكان رغما عنه بذاك الزمان الذى شهد الوداع بين قلبين ظنا لردح من الزمن أنهما عاشقين , فآتِى المكان فى نفس الزمان لأستحضر الذكريات فلا أنا ولا المكان ولا الزمان كنا على موعد مسبق بما كان لكنه القدر الذى جمعنا وصرنا للآن رفقاء ليوم واحد فقط من كل عام .
واليوم كعادتى فى هذا الوقت من العام خرجت من بيتى المظلم البارد متجهة إلى المكان الذى هو عبارة عن طريق طويل يربط بلدتنا الصغيرة بالطريق السريع وعلى أحد جانبيه ترعة قد زرعت حافتها بشجر الكافور منذ زمن بعيد وأما على الجانب الآخر فتوجد حديقة قديمة كانت لقصر أحد الباشوات ويليها أرض زراعية تتخلص الآن من زراعاتها الصيفية من بقايا أرز وبقايا قطن , وتجولت بالمكان كمن تعود إلى بيتها بعد غياب متفقدة كل شبر فيه أسأل عن الغائب وأستفسر عن الوافد ثم أصل إلى شجرة التوت التى وللأسف كنا قد تعارفنا يومذاك وهى شبه عارية ولم يسعدنى أو يسعدها الحظ أن أراها وهى فى أبهى حلة لها مورقة مثمرة ذلك لأنى لا آتى هنا إلا فى هذا الوقت من العام فأرتكن عليها , ثم أمضى وتمضى بى الذكريات وأنا شاردة الفكر واضعة يدىّ فى جيبى المعطف ثم أعيش وهما بأننى راوية على مسرح لا ينتفل من مكانه وجمهور لا تتغير ملامحه وأروى قصتى .
الفصل الأول
بعبراتى قد ودعتك يومئذ وكان أملى أن يأتى اليوم الذى يفوح عطرك فيه من بعيد فأتنسمه ثم تهرع إلىّ فأدنو منك , فبرغم تلك الحيرة التى رميتنى بداخلها مازلت أبحث عن ذنب إرتكبته لتبتعد عنى وتتجاهل عمرا من الصبا والشباب والأحلام , ومازلت أذكر كم كانت نفسى تصرخ بشدة ويقتل كبرياءها التوسل إليك ألاّ تذهب وكأنى كنت أحيك ثوب عرسى وأزينه ليكون كفنا لكل لحظة من لحظاتى المعدودة مع الهناء .
الفصل الثانى
قبل الفراق لم تكن الدنيا بأسرها إلا مكانا واحدا يجمعنا سويا , كانت اللحظات التى نمضيها معاً أشبه بنغمات تلك العصافير على تلك الشجرة هناك فى مقابلة إصبعى , ثم أتى اليوم الذى ودعتنى فيه بكلمات باردة خاوية من المعانى , كنت أحس وكأنك تجتهد لتبحث عن معنى لفراقنا , وبعد كنت تعبر الطريق وعلى جانبيه تلك الحشائش الخضراء فالجرداء فالشجيرات النحيلة وتمضى مع الشمس التى تتوارى بين السحب والريح الذى هاج رويدا وأوشكت السماء على البكاء وكنت أرقبك بناظرىّ حتى غبت عن عينى عند شجرة التوت فأسرعت إلى مكان آخر كى أراك من خلاله جيدا فإذا بأول قطرة مطر تقع فى عينى فاهتزت الصورة واختلت الأشكال وتضيع أنت كسراب فأسرعت لأزيل لا أدرى أكانت عبراتى أنا أم عبرات الدنيا يبكيها شئ ما لكنك سبقت واختفيت إلى الأبد .
الفصل الثالث
وسالت دموعى وهطل المطر وأنا أمشى على أشواك باتت تئن ولا أعرف غير أنك فارقت وأحسست ساعتها بأنك لن تعود , والغد بالنسبة لى كان كهذا الغيم الذى لا أرى فيه شئ , واليوم ككل يوم سابع من " نوفمبر" آتى إلى هنا كى أسرد حكاية بكى فيها معى الشجر والمطر .