كانت الساعة قد إقتربت من التاسعة مساءً عندما كنت أودع صديقتى على باب شقتها بعد أن أديت لها واجب العزاء فى والدها المتوفى - يرحمه الله – وبيتى لا يبعد كثيرا عن بيت صديقتى لكننى أحببت أن أسلك طريقا غير الذى جئت منه كى أتمشى قليلا قبل الذهاب للبيت , وخرجت من مدخل البناية إلى الشارع كثير الأشجار قليل الأنوار , وفى شهر مارس لا تتوقع أبدا تقلبات الجو , وضعت يدىّ فى جيبى سترتى ومضيت فى خطوات بطيئة وكنت أحس بالرياح تدفعنى من الخلف فتحثنى على الإسراع لكننى كنت أقاومها , وكانت شديدة بعض الشئ تقذف بكل شئ من أمامها , وحفيف أوراق الشجر مع الأغصان المنهكة التى يخرج منها براعم غضة نابتة حديثا يوحى بشئ من الخوف لكننى أألف ذلك الصوت على غير عوائد الناس فيكفينى أنه يذكرنى بما أنا عليه من الوحدة والفراغ وأنا كهذى الأوراق المتطايرة تقذفها الريح إلى أين ؟ لا تعرف , تمنيت لو تمطر مطرا خفيفا فتبلل حلقى الذى جف من تأوهات وزفرات توحى بالضيق والإكتئاب , لكنها لم تمطر , ولمحت القمر من خلف البنايات وكان غير مكتملا تتقاذفه السحابات المسرعة فى السماء كأن صوتا يستنفرها لتتجمع فتمطر فى مكان أسعد حظ من هذا المكان فتمنيت لوتحملنى معها وتقذفنى به , ثم إنتحيت متجهة إلى" شارع البحر" الموازى لنهر النيل فى بلدتنا وكان صوت الريح مع الشجر أشد لكن نسمات النهر الذى تتلاعب به عرائس الريح فتسمع ضحكات بسيطة على استحياء كانت أنعم - رغم برودة الجو- ودون إرادة منى أسرعت من خطواتى , وفجأه توقفت .. ثم إستدرت إلى بيت عتيق يطل على النيل , فمنذ عام تقريبا جئت إلى هذا المكان أرقب ومضات أنواره من خلف النافذة والألم يعتصرنى إنه بيت الحبيب الذى تزوج منذ عام ويحتضن مولوده الأول , فهل تراه يدرى مقدار ما أحببته ومقدار ما أعانيه , وبينى وبين نفسى أعلم بأن ليس له ذنب فى ذا وذاك , لقد كان لقاؤنا صدفة تخيم عليها الآلام حينما كنت أرافق أمى أثناء وجودها بالمستشفى , وكان " هو" فى زيارة لوالدة أحد أصدقائه , وفى لحظات صعبة غابت فيها أمى عن الوعى صرخت بشدة دكتور .. دكتور .. وكان هو أول من أتى لنجدتى وحاول أن يهدئ من روعى وذهب مسرعا وأتى بالطبيب وعندما أفاقت أمى كان قد ذهب وفى اليوم التالى ودون توقع منى وجدته قادما وبيده حزمة من ورود يسأل عن صحة أمى وإلتقت عينانا لأول مرة وتذكرت كل كلماته العذبة الرقيقة وهو يحاول أن يبقينى متماسكة بقدر الإمكان وبعد أن سلَّم على أمى وصف لى مكان مسكنه , ولاحظت خاتم الخطبة فى يده اليمنى فحزنت لكن الأمل ظل بقلبى حتى صحوت على خبر زواجه وكان قد مر علية أيام , أعلم أن ليس لى حق فى أن أفكر به لكنه كان حلمى الذى ظللت أحلم به سنوات شبابى - الراحل على عجل - وعندما تحقق أمامى غمرتنى سعادة لم أعرفها من قبل ومع ذلك ففى المرات القليلة التى كنت ألتقيه قبل أن يتزوج عندما كنت أمر عامدة فى وقت خروجه من عمله كان صوتى يتيه بين لهثى وجفاف حلقى مع أننى لم أكن أجرى لكن قلبى كان يهرول بداخلى كطائر يريد أن يبلغ عشه قبل مجئ الليل , وعندما نلتقى كان يظل يدق بسرعة كان ميتا تدب فيه الحياة فيحاول أن يملأ الدنيا ضجيجا ليعلمها بأنه حىٌ .. حى .. , حىٌ يريد أن يعيش , وأحس بشىء يجتاحنى فيحطم كل ما بنيته من كلمات أردت أن أسمعها له أو وصف جميل أصفه به أو قصة طريفة أرويها له , وكأن لكل الأشياء التى أحسها تجاهه لغة أخرى لا أستطيع التعبير بها وأتمنى لويستطيع هوأن يقرأها فى عينى , إنها لغة بسيطة لكنها ممتنعة عن لسانى ولو أنه نظر فى عينىّ نظرة الباحث عن الحب لقرأها ولتوحدت روحينا فى تناغم يطير بنا إلى وادى السحاب الجميل ساعة الفَلَق حيث السماء الأرجوانية ويَحُطْ بنا على أعلى قمة فى الأرض , ثم نرتقى فنلامس سحابات أخرى نُسِجَت من أهازيج الطيور , ثم نميل ثانية فنرى جبالا بألوان إلهية بديعة , وكأننا سفى رياح حط على أرجوحة لا تهدأ , لكنه كان فى وادٍ وأنا فى وادٍ آخر إلتقينا على جسر عتيق وبعد أن تولينا كل فى طريق إنكسر الجسر , و يبدو أن واديه الذى يعيش به جميل ملئ بالأشجار والأزهار فما الداعى لأن يفارقه , وينتهى اللقاء وكل ما حصلت عليه هو كلمات مقتضبة يسأل بها عن صحة أمى وعن أحوالى والسلام حتى دون أن يرفع يده فألامسها , ومنذ علمت بزواجه وقد أمتنعت عن لقاءات الصدفة تلك - المفتعلة من جانبى - وأيقنت بحق غيرى به , وظننت بأن ذلك قد يُسَهّل من نسيانى إياه , لكننى أحيانا - ودون إرادة منى - يجتاح نفسى إحساس بالألم والوحدة فأستحضره أمام عينى بملامحه الطيبة وحديثه العذب وبسمته الملائكية حتى لا أفقد ثقتى بأن الدنيا ما زالت بها أشياء نبيلة وجميلة .