ملحمة الشيخ أحمد حسيني
الترجمة عن الكردية: محمد عفيف الحسيني
كانت سنابل عمره تصفرًّ،
وتذرو تحت الأشعة العنصرية للملحمة
تسقط عيناه من وجهه.
بنسيج لغته يطفىء جاذبية الاحتضار.
سأموت هنا!
هنا! وكأنّ الموت يولد لأول مرة.
هنا! أقدِّم قلبي للضباب، وأسلم آلامي لعرائس البحر اللامبالية.
وهاهنا! في نعش قلبي، أتلقى وصايا أوديسيوس الضائع،
وعلى جبين طروادة، أضرم نار المجوس، وقبل أن أتحولَ إلى قارب للوقت، أحتضر!.
كان يتوجه بحرائقه نحو الجبال التي من عناد الحجل، ومن ندم سفن الرسل الذين من حشيش وقناديل زرقاء؛ كان يلعب بعجينة الخوف، ويخاطب الكراكي.
ويَحكُّ سنين ألمه الثلاث والأربعين، بالجريان المدبب للوقت، وينتشل لحيته من طريق الريح.
تتقن طفولةُ الجبال الحبوَ على جلده... وتتقدّم الكهوف المتوحشة، صوب إرادته.
تنغرز أشواك الصرخة في حلمه، ويفرش هويته الوحشية أمام طعنات رذاذ المطر.
ـ لماذا يا شيخ الورد تنتخب ملائكة الألم، و"زين" البكائيات؟
يسأل، ويتكىء على لغة الغار في عنق "جودي" الحنون.
ـ هنا! الغروب شهيد التاريخ؛ وفي اللازورد الكثيف للهاجس، ينتفض عقل الكلام.
لم أكن أود أن تبني أجنحة الشمس في دمي ذروات العشق، لكن، نشيد صوتي ومواويل أمواج الصمت فيِّ وسنين كهولة الفصول، تقيم وتشع في شرايين هذه الجبال:
ـ عرِّ ملحمتك التي من أرجوان الحرب.. التي من اليأس والجسارة.. التي من الاستغاثة، يا شيخيّ.
ـ ليس هناك أبخس من الكلام، اسأل نفسك ومنفضة عمرك، واسألِ الصدى المشاكس لشهداء البلوط، اسألِ الكتابَ ـ الصدفةَ في ستوكهولم العاصمة.
في الكتاب الممزق، يبحث عن الحارة الفوقية لذاكرته.
عن بئر القرية، وحبل الحياة وعن بكرة القصص الممنوعة.
يبحث عن مخزن أسراره وعن قدسية قبلته الأولى.
يلملم السمسم البري عن شفتي ظهيرة "بوتان"، ويتعرف على بسالة اللذة في نهود ديار بكر المريضة.
وراء السراب يسير نحو أسطورة السراب.
ينثر دمع الشمس على السهول، ويجرجر "طوروس" الهادئ في بسالة القبل نحو انصباب عرقه.
وحيداً، يأتي مع نجوم قلبه، ويقف أمام سطوة ذكرياته..
وجهٌ من حجر،
اسمٌ من حجر،
مكانٌ من حجر،
مطرٌ من حجر
و"عامودا" من حجر.
يتكلم ويصمت.
يمكث ويرحل.
يموت ويحيا.
يبغي ويرفض.
يبصر ولا يبصر.
يكون ويتلاشى.
يتحول دخاناً..
طحيناً..
مودعاً...
تتبعه سنونوةُ السفر.
كانت أعوامه الثلاثة والأربعين، تأتي، وتضيع في عقدِ صدر "جارجرا".
وكان ذوبان "قاضي محمد" الذي من ريحانة الدهشة، تحاصر دهشته.
يهرب من حدة ذاكرته، يرتمي في بحيرة حضن أمه، ويلتفت صوب الصفوف المتألقة من جثث النور.
كأيقوباد التعب، يجلب معه غبار "نينوى"، ويعقد محاربو "سوبارتو" الرقصة الأخيرة على بطن "تشالديران".
كانت فراشات احتضار "البارزاني" الصبور منهكةً، تسأل عن بكاء سوسنات "بيران".
كفى!
حدادك يمرغ ألق الكون في السواد!
كفى!
بذور شكك يوقد الأنين في السؤال.
كفى!
تراب ذاكرتك يشطر ذاكرة الغيوم.
ـ "المكان مكاني".
يقول للطير.
تردديّ..
لكن، تولد عناقيد الكلام وصفحات المسافة؛ يقول لسنواته:
ـ الجبال مشغولةٌ ببيارقها البيضاء، وأنت بالأرواح الميتة، وبالبلوطةِ ـ الخرابِ؟
ـ امدح دم أحفادي المراق للتو بالدم.
ـ احفظ دمك من صلاة العشق؟
ـ أنا هنا، لأقتل الحياة!
ـ ولماذا تنوح في وديان الفجر؟
ـ أتضامن مع سلاسل صرختي.
ـ وشيخ مصير العشاق؟
ـ هناك، وراء الظلال الوحشية للزمن، يبحث عن وقع الريح السوداء الغالية.
الشيخ الصنعاني:
"تعال، واقترب من تفجِّر قلبي، واترك في كفيّ مرايا ليلتك الهائجة.. افرش أفق رؤياك في سماوات حنيني. خطْ سنواتك الثلاث والأربعين بمتانةٍ في ذاكرتي، وهدهد سماء زفرتك في الوداع الصموت. درِّبْ ثمالتك على السرخس، وبمصفاة الإنشاء الجميل، صفِّ حليب، لغتك".
توجعني الرغبات، وتورق سبع مرات أزاهير البوح في حلمي:
(لا حدّ ولا عدّ
لآلام المتيمين.
تأتي السهام من الحصار
مئات المرات.. آلاف المرات
سهام كالمطر
تمطر على القلب بغتة).
الشيخ أحمد حسيني:
"تحت ظل الشجرة ـ شجرةِ الرمان، كان يثير والدته، وينثر ومضات كردستان على خوفها.
تنسج الأمُ بمغزلها جواربَ للقدر، وتنظر برغبةٍ إلى تأمّل والده. تشرب ضياء القمر، وتدرك مكانها في المقبرة.
تصطدم خفافيش دهشتها، بألم الحياة، وتكسر بندق ابتسامتها.
تريد عيناها أن تقولا شيئاً، لكن دموعها اللاهبة أرادت غير ذلك":
(شعاعة نظرة الحبيبة
كالرمح في يد الرمّاح
بغنج ورقص وعسكر
ـ كالباز ـ تهجم الدم
قلت يا صاحبة الجديلة الصفراء
القلب يتمنى موته).
الشيخ الصنعاني:
"في مشانق الحنين، بدأت طرق أرمينية تنتحر. في فسحةٍ بين الموت والحياة سأسقي أشجاري، وبالخضرة سأزين شفتي الحبيبة. سأسلم حرقة النشيد إلى الجدائل النارية لدهشتك، وسأفرش أسرار حبي وجنوني على حافات نظرات "ميزوبوتاميا".
في تلك اللحظة المجهضة، ستلتحق ملائكة التاريخ بأنينك، وسترقص روحك على فم السكين".
الشيخ أحمد حسيني:
"ستنتفض جداول سنواتي في الرماد، سأدرب الموج ورغوة الوقت على لغتي، سأعرّي شلالات استسلامي في قماط الطبيعة، وسأجرجر خلجان جسدها صوب نظارة الوحدة.
فجراً فجراً،
مشهداً مشهداً،
سوراً سوراً،
هاجساً هاجساً،
شمساً شمساً،
سأقرأ سكاكر لغتك، وأجهز حصاني بسروج الندى، وأسير نحو الرغبة في شمعدانك".
يتيبس نشيد خلاياه.
آسخيلوس يروِّض طرقَ العبثِ
ويشوي لحم أرنبة قدره.
تنشطر السماء،
يتحرك مطر الطفولة، ينهمر الرماد، ويتلاشى صوت الرواة.
تصرخ المرثية في مهدها، وتنسى أمه زغاريد الريح التي تسبق الهطول،
يشيّد لروحه مقبرةً مجهولةً، ويمسك بكفن أخيه حتى لا يأخذ الحب معه،
يحدق في أيقونة الجدار، ويضع رأسه على حجارة القبر،
يأتي الموتى،
يأتي أخوه،
وأمه تأتي،
يأتي أصدقاؤه،
يعود الندى،
وتعود سبّحةُ والده،
لكن، شيخ الورد لم يأتِ،
آسخيلوس لم يأتِ،
كافافيس لم يأتِ،
وإيثاكا تشتاق لوقع أقدام الرماد، تسأل عن القصائد،
وكأنّها المرة الأخيرة.. حدق في العواصم،
تألم لفكاهة صور الكتاب في ستوكهولم.
بحث عن المشاهد الأصيلة في عصر شيخ الورد، وردد:
ـ "تتحول المدارس إلى مخافر، يا شيخ الورد!
الذكريات إلى برارٍ، يا شيخ الورد!
البشر إلى أحذية، يا شيخ الورد!
والأقلام إلى طبول، يا شيخ الورد!
وعشقك إلى ثأر، يا شيخ الورد!".
في ذات المساء، أحس بالنبتة العضّاضّة لسنواته،
وفي ذات الموت، أحس بجسارة العشاق وهم يدوّنون الخرائط للجبل الحزين.
أطلق ثلاثاً وأربعين مقبرة منهكة من صدره
وبتروِ، لفَّ قماطه، هدهد ترنيمته
وكسر قلمه؛
وفي الشعر الحريري لـ "بِرْجا بَلَكْ" التقى بملحمته البالية .