رشــا فاضـل
الشخصيات :
الشاعر
الجنية
الزمان :
العراق في زمن المغول
المكان:
قبو تحت جنون الأرض ..مليء باللوحات والمقتنيات القديمة ..تحيط بها خيوط العنكبوت من كل الجهات .
...........................................
(الشاعر يدخل قبوا مظلما حاملا كيسا كبيرا من الكتب يهبط على سلم قديم حتى يستقر على الأرض تحت بقعة ضوء ليجلس تحتها القرفصاء ويبدأ يخرج الكتب ويمزقها وينثر أوراقها تباعا)
الشاعر وهو ينثر الاوراق - حلّقي في الفضاء ..لعلك تتعثرين بحبرك و تقنعينه بعقم الحكاية
عودي الى رحم العدم ..نقطة البدء وقبلة التلاشي ..
(يمعن في التمزيق ) اذهبي بعيدا عني ..لم اعد مؤهلا لحكاياتك واوهامك والانبعاث
حلقي ودعيهم غذاء دسما لديدان الفراغ ..
اغربي عن وجهي الذي لم يعد يتذكر ملامحه وسط فوضى الوجوه ..
لم اعد احفل بك ولا بخلاخيل صوتك وهي تسير فوق مسامعي مرددة اضغاث احلامي
(..ممعنا في التمزيق ) هذه اخر الصفحات..واخر قطرات الحبر الساكن في دواة الرأس
ها انا اتطهر بإغتسالي من سواد حبرك وقتامة نهارك الذي لم تشرق فيه شمس اليقين يوما
صوت الجنية - تضحك
الشاعر مندهشا - من انت؟
الجنية – الا تعرفني؟
الشاعر بارتباك - اين تختبئين ..وكيف جئت ..وماذا تريدين ؟
الجنية - من الخوف وشقوق البكاء انبعث ..
الشاعر- .. من قال إني ابكي؟ الرجال لايبكون
الجنية - كي لايغرق العالم
الشاعر – بل لانهم اقوى من البكاء
الجنية – للدمع في عالمكم رائحة الهزيمة ..وفي قيعاننا له سحر كأس مشاغبة في ليلة عشق
الشاعر – من انت؟ ولماذا تتحدثين معي ؟ ومالذي تريدينه مني؟
الجنية – في صغرك كنت تتعثر وتسقط كثيرا ..وكنت ارقب نهوضك بشغفي
الشاعر يدور تحت بقعة الضوء – هل تعرفيني الى هذا الحد؟
الجنية - كنت تجلب العابك لتلعب معي دون ان تنتابك رعشة الاسئلة
الشاعر مستذكرا - .......
الجنيه – اليوم الذي نزلت فيه هنا لتخبئ دموعك عن انظارهم..لم تكن قد تعلّمت البكاء بعد.. حتى منحتك منديلي وهمست لك : ان امضي في الكتابة بأبجدية الملح ولا تخش في المطر لومة لائم
الشاعر مأخوذا بالاكتشاف- اعرف هذا الصوت!
الجنية – لكني لا اعرف ملامح الهزيمة فوق شغافك المفتونة بالرقص فوق غيوم المستحيل ؟
الشاعر - منذ ذلك الحريق ..وانا مقعد عن الحلم..عن الطيران ..عن الرقص .. سرفات الدبابات داست فوق اصابعي واجنحة الطائرات قتلت زرقة السماء..ونحن الموهومين بخرافة النجاة ..نمْـثـل بين موتين لايعتقان اجسادنا للتعفن او الانبعاث ..
الجنية – لهذا هبطت الى عالمنا؟
الشاعر – لهذا اقفلت الرؤى على صوت القصائد ..لم تعد بي رغبة لعناق شيء سوى الظلمة ..ظلمة الاستسلام لا السلام
الجنية – لاسلام على الارض .. انتم تبرعون بالتهام بعضكم البعض ..ضجيجكم يتناهى إلى مدن صمتنا ودماؤكم تمطر فوقنا بسخاء ..
الشاعر – لهذا هبطت اليكم
الجنية – لك سماؤنا التي لم تطأها اصابعكم الانسية بعد ..ولك اجنحة من صنع الابدية ..
الشاعر- لا يمكنني ذلك..لا أستطيع .. ..فقد كانوا بارعين في القتل ..من لم يمت صراخا ..مات صمتا .. ومن لم ينله الرصاص الغادر نالته الأحلام الغادرة ... اتركيني لظلمتي واذهبي لتعانقي جنيا اخر يمتهن ابتكار المرايا ..
الجنية – منذ كنا صغارا كنت لا احب ا للعب إلا معك ..لم تكن تخافني .. ولم اكن أأبه لتعاليم عالمنا السفلي الذي يقتضي بعدم الاقتراب من الانس لأن ذلك يعني الاحتراق والتلاشي
الشاعر - وأنا أخافك ..وأخاف مسّك ..هكذا علمونا
الجنية – مسّي قد يعيد ا ليك ..الحلم ..والفجر
الشاعر – كلها لم تعد تعني لي اكثر من ------------ (يصرخ ) قلت لك ..دعيني وانطفائي وإياك أن تفكري بإشعال شمعة
الجنية – اغمض عينيك لتراني
الشاعر - لم اعد قادرا على الرؤيا منذ ان صادروا منا نعمة الضوء ..الشمس لم تعد تعرفنا في ازمنة حظر التجوا ل ..ألا تفهمين انهم حولونا إلى كائنات مجهولة الهوية ..؟ مبهمة الملامح؟ ..لاقيمة لها الا في صناديق الظلمة نحمل ارقاما باصابع القدم كي نتذكر ونحن نرتكب رغبة المسير اننا لسنا اكثر من رقم في تابوت مؤجل .. في ثلاجة جماعية لاتقوى على دفع عفننا .. في ممرات تغص ببقايانا ..في نحيب يأتي متاخرا لزحمة الفجيعة ..
الجنية – لكنك جئت هاربا من جنون الاعالي ..الى سكينة الأقاصي ..تعال لترى حقولك البكر التي لم تطاها الزلازل بعد
الشاعر يصرخ – لم اعد ارغب بشيء او اقوى على شيء ..اتركيني اكمل تمزيق بياض الوهم .. النور يجرحني بظلمته القادمة ..هكذا علمتـني الحياة ..الحب ينكأ القلب برحيله المحتوم ..وصرخة الولادة تنكأ الافق بشهقة الموت .. اني احفظ الدرس جيدا ..
الجنية - احفظ درسي اذن ..ثمة سماء وكأس تمتلئ بزرقة الحياة وأجنحة من ريش الجان
الشاعر باستسلام – كفّي عن إغوائي
الجنية – لن اكفّ عن إغواء موتك الباكر بالرحيل والعودة في زمن اخر ..
الشاعر - .....
الجنية – أغمض عينك لتراني ..وسترى ان لغنائي سحر البحار في لحظة
الخلق الاولى
الشاعر ( يغمض عينيه ...)
الجنية – ارفع يديك عاليا لتلامس يدي ..وهي تلبسك اجنحة الابدية ..
(يرفع يده عاليا )
الشاعر – ما أقسى بياضك .. انت تمطرين بين اصابعي ..واصابعي تورق بخضرة القصائد...
الجنية – تسلق شـَعري نحو ضفاف الشـِعر...
تطلع إلى أصابع الجنيات وهي تعزف فوق النايات وقيثارات الماء
الشاعر (يدور) – وكأنني كنت هنا قبلا ..في حلم ما .. في حياة ما ..اعرف هذه الخطوات التي تحلق بي نحوك ..ومعك .. وبك ...
الجنية –..ارى دماء القصائد تتفجر في عروقك من جديد
الشاعر – وفي دمي تشرئب رغبة الانعتاق والتلاشي بضيائك ..سكرة مجنونة اللذه تداهم صحوي ..لا اقوى على ردها ..ولا ارغب
الجنية – تمدد تحت رُقيتي لأمنع عنك أرواح الهزيمة ..
الشاعر مسحورا –..انا طوع ضوئك وغنائك ..
الجنية – أأمر جسدك بالاغتسال من دبق الحروب ..من الهزائم المنسية ..من الجراح الخافقة ابدآ تحت جلدك
(يستدير حول نفسه ويتلمس جسده ليفتح عينيه بانبهار طفل )
- مساماتي تشرع نوافذها بوجه الهواء وتغسل عن زجاجها البارود والدماء المتخثرة فوق فوهة الجراح ..
الجنية – أأمر ذاكرتك بالنزف بين اصابعي ...
الشاعر ( متوترا ممتنعا عن الدوران) – لا .. توقفي ..اوشك على السقوط من غيمتك الماطرة
الجنية - انزفي..فقد صنعت لك كل هذه الاكفان لادثّرك ببياض النسيان ..
الشاعر يصيح – يكفي قلت لك ساسقط .. مع النزف .. مع المراة التي صاحت صيحتها الاخيرة وسقطت فوق جثة ابنها المزرقه جثة اخرى..
ريش أجنحتي بدأ يتساقط في فم ا لرشاش الذي داهم اخي في طريقه الى المدرسة
..انني اهوي ..أين.. يدك ..؟ اجنحتك ؟ صوتك يخفت ..امام اصواتهم الهجينة وهي تدوس باحذيتها فوق راسي المحشو بالكتب ورائحة الموسيقى ..موسيقى احذيتهم تعلو صوتك ..صوتي الذي صرخ يوما ينادي بوطن للفراشات ..بفراشات للوطن ..بربيع يزهر وردا لا شواهد تتسع فينا قبل الارض ...
باعياد تزهو بالالوان لا بالسواد .. بدمعة امي فرحا لا كمدا ..
يكفي..لا اريد ان اسمع شيئا .. لست أنا من تغطى بذلك الغطاء ..غطاء صديقي الذي داسته الحرب بحوافرها ودست ذكراه وعطره وبقايا انفاس احلامه العالقة في غطائه منذ اخر ليله له على قيد الامل ..ورحت اتغطى بها واستر عورة بردي في الليالي المقفرة من رائحة القمر ...والمزدانة بصقيع الراجمات ..
ولست أنا ..من تجرأ على ايصال جثته بدم بارد امام تشظي الروح فوق ردائه الذي صادف انه يشبه رداء الوطن ..
ولست انا الذي صرخ مصعوقا ..وسط الجنون وصاح باعلى جرحه وسط المزاد العلني الذي بيعت فيه الأرض : إنهم يستبدلون رداء الشهداء..وثوب الوطن الذي غنينا له وكتبنا له الشعر واستبدلنا ملابس أعراسنا بحمرته وخضرته وبياضه وعلقنا نجومه الثلاثة تمائم خضراء في سماوات أحلامنا وطفولتنا وكهولتنا ؟؟
كانوا يرمقون صرختي بالريبة و الاسئلة وهو يفتشون تحت اضافري عن انتمائي..واسمي ..واسم أبي وجدي والأرض التي شهدت صرخة ولادتي ..ولوني وصنف دمي ؟
وكنت امعن في ا لسؤال : ماذا سأقول لرفيقي حين يسألني عن ردائه الذي زف به نحو قصر الرمل؟
..أصواتهم تتكاثر في حنجرتي ..شتائمهم وبذاءة ألسنتهم وهم يطلقون استغاثاتي واستغاثات امي في الممر الطويل المكسو بعشرات الجثث ...حتى تصورتـني في نزهه في الآخرة ..(يضحك) ...كنت اتنزه بين الاعضاء المتناثرة ..كنت ادوس فوق اللحم والعفن واعبر الوجوه بحثا عن وجهه ..عن حلمه ..عن اعوام ربيعه ..وحين وجدته ..ياااااااااااااااا الله (يسقط فوق الارض ) ...انت رسمت عينه ومنحتها زرقة عرشك وهم باصابع الموت يقتلعونها ..ويرمونها للكلاب السائبة ...لأسراب الدود الذي يشهد احتفائا كونيا بولائمنا ..( ينهض ) كنت ارى عينه في كل الشوارع والزوايا ..كنت ابحث عنها في طريقي واتعثر بزرقتها كلما عبرت الارصفة ..وكلما رايت عابرا يركض صرخت به تمهل ؟ لئلا تدوس عيني أخي المفقوءة في إحدى زوايا الوطن ..!
شَعرُك يتفلت من اصابعي ..وذاكرتي تتفلت من قبضة راسي ..اين انا ..في اية متاهة ..داخل أي كابوس آثم ..اين انت؟
(الجنية بصوت كسير ) – اغمض عينك لتراني
الشاعر (يغمض عينيه ) - لا ..لا .. هذه ليست انت ؟ ..ماهذا السواد الذي يغطيك ..؟
اين ذهب ضياؤك ..؟ أنت تحترقين ...تحترقين ...
الجنية - هذه هي ذاكرتك الاثمة ..هو دمك الاسود ..لم اعد قادرة على الغناء ..
اجنحتي تكسرت بنحيبك ..وضيائي اطفأته حروبكم ..وأيدي القتلى و القتلة ..ها قد تحققت نبوءة الاحتراق ...
لن تبكي وحدك هذا المساء ..
الشاعر – يعود الى جلسته الاولى ..يتقرفص ...يكمل تمزيق الاوراق وينثرها في الهواء ...وتهطل فوق راسه الاوراق من السقف ..الكثير من الاوراق ..تملأ المنصة ..
إظلام.