أحزان لونية – نص : سامي العامري
قدَري إمرأَةٌ نَيِّقَةٌ
تَقْتَرِفُ الخطايا العَشر
على أنغامِ العود !
وحكمَةٌ تُبايعني على كُلِّ شيءٍ
إلاّ الجدوى !
قَدَري
أنْ تُعاصِرَني ألسنةُ النيرانِ
وتَعْصُرَني أطواقُها الثُعبانيَّةُ
بكُلِّ لَذَّةٍ وانخِطافٍ
قالوا : ليستْ نيراناً هذهِ
إِنَّما نجمةُ الصباح
قُلْتُ : حتى أنتِ يا نجوم ؟!
------------
تريَّثْ ! قالت الربة بينما النجم يتكاثف حولها وهي تهبط كشعلة نورٍ تتسع كلما دنتْ , ثم قالت : لتعلمْ أنَّ الإنسان لا يموت لأنه كَبُرَ في السن وإنما يموت حين لا يعود قادراً على الحب , وهذا الشك الذي نوهتَ اليه اليوم هو الغشاء الذي يكتنف الروح عندما تضيق آفاقها فعليك تشتيتُهُ ولو بالدموع !
جميل أن تحزن ولكن لا تفقد البوصلة !
ها انا حضرتُ فقلْ لي , قُلْ لي ما في جُعبة قلبك هذه الليلة !
قلتُ لها وانا أستنشق عبيرها الكوني :
لي أمنية في الحياة ولكن قبل أبوح بها لك عليَّ القول إن هذه السطور القليلة التي أردت أن أستهل بها مناجاتي لك تسللت اليَّ بغتة ولكني عدت الآن لأقول :
وهل بقي في العمر شيء لكي نحزن على شيء ؟!
بل إنها انحدرتْ بلا اكتراثٍ كالمطر على السفح بعد أن تحدثتُ الى إنسانٍ هنا , كان يشغلني منذ فترة والتقيتُ به اليوم على حِدَةٍ , إنه في الأربعين من عمره ومن هذا البلد . كان يقلقني فيه أمرٌ وهو إشاراته وعمَّقَ هذا القلق أنَّ الجميع يخشون مُجالستهِ وانا عادة يثيرني هكذا أفراد أمّا لماذا لا يحاولون الجلوس معه او محادثته فهم يعتقدون أن ذلك يترك انطباعاً سيئاً عن أنفسهم خصوصاً أمام الأطباء ,
ويقول الأطباء أنه بسبب تهالكهِ الطويل على المخدِّر لا يبدو أن هناك أملاً كبيراً في إعادة تأهيلهِ .
في البداية أطلقَ كلمات عشوائية ثم صاح : ألوان . كان هذا في الصباح , ثم ارتجفَ بشكل هستيري تقريباً وبعدها صمت طويلاً . دنوتُ منه , كان هذا في الممر ولم يكن هناك أحد , فسألته وانا أبتسم : لماذا الألوان ؟
لم ينظر اليَّ ولم يَبدُ عليه أنه سمعني فأعدتُ سؤالي بعد عدة دقائق فنهض وأمسكني من كتفيَّ بحنوٍّ وكأني صديق قديم ثم ابتسمَ وهو يقول : هذه الحضارة , هذه الجبال الفارغة ... ثم سحب نفساً طويلاً وقال متأفِّفاً : لا ... لا فائدة ... وأضاف وهو يبدي استغراباً : كنتُ أشير اليه , فقط أشير اليه مرتين او ثلاثاً فيكفُّ عن الرعي ويرفع عنقهُ ثم يتقدم نحوي عدة أمتار من على بعد ويعود بعدها فيتوقف وكررتُ هذا عدة مرات وفي كل مرة كان يسير بضع خطوات نحوي , الأطباء لم يصدقوني . حصل هذا قبل عشرين عاماً , إنه حِصان أبيض من بين عدة أحصنة في مرعىً واسع لا يعود لنا ولكنه كان بمواجهة بيتنا في الريف , كان الحصان يسير وفق إشاراتي ولا سابق معرفة !! كل ما في الأمر أني حلمتُ بامتطائه عبر الحقول والمراعي فسرحتُ بخيالي وانا أنظر اليه ثم أومأتُ اليه من بعيد لفرط الفرح فحصل ما حصل .
ثم راح يحرك يديه ويشير في الهواء كما لو أنه ينظر الى المرعى الذي عناه . انا لو كنتُ رساماً فربما استطعتُ أن أنقل جزءاً من لوحته التجريدية التي رسمها في الهواء بما فيها من صدق وانفعال .
وقال لي : أمّا لماذا الألوان فأردتُ رسم تلك اللحظات , شيءٍ منها ,
لستُ رساماً ولكني أريد المحاولة , الأطباء هنا عموماً لا يفضلون التسليم بقدرة الإنسان في التأثير على المخلوقات والأشياء وبالعكس , وما كلامهم عن المخدر إلاّ بسبب ما يرونه من ضعفي الجسدي فيخشون أن عقلي قد ضعف كذلك , وانا لا أنكر دور المخدر على القوى العقلية ولكن هذه الحادثة حصلتْ قبل إدماني أما إدماني فكان فيما بعد .
هنا سألتُهُ : وكيف أدمنتَ ؟
فابتسم بحزن وقال : حصل هذا بسبب خطأ أخلاقي مُعيَّن اقترفتُهُ وانا تحت تأثير شراب مسكرٍ قوي وحين صحوت استفظعتُ فعلتي ولم يكن أمامي إلاّ الكنيسة او الإنتحار ولكن وجدتُني الجأ الى المُخدِّر , كحلٍّ ثالث ففي داخلي الكثير من الأشياء الكئيبة المحزنة .
قلتُ : إنها هاوية !
فعلَّق :
نعم هاوية ولكني أشعر بأنها تردم في داخلي شيئاً كلما أمعنتُ في تعميقها !
فقرأتُ للربة :
لقد تمرأيتُ هنا في ظِليَ المديدْ
رأيتُني أُقَرِّبُ البعيدْ
أجمعُ أشتاتي
ما كان حَولي أحَدٌ
وقبلَ أنْ ينفتِحَ العالمُ لي ثانيةً
طويتُ مِرآتي .