زوينة هي الرواية الثانية في أعمال محمد جبريل التي تمثل روايات السيرة الذاتية للكاتب بعد روايته (مد الموج)وان اخت
التكنيك في الروايتين . وفى (زوينة) يحكى الراوي /البطل , عن رحلة إلى رواية (مسقط)حيث يعمل هناك محررا لإحدى المجلات التي يحررها الكاتب الواحد , ومن خلال الرحلة ينطلق محمد جبريل إلى اكتشاف أفاق المكان ,ساحبا الذات / الفرد إلى الكل من غربة ووصف دقيق للمكان , وعلاقته (بزوينة) / البطل الموازى في الرواية .
والمكان هو البطل الفعلي للرواية . وان كان المكان هو إحدى تقنيات السرد, لكنه هنا يطفو على السطح ليصبح بؤرة الحدث, والشغل الشاغل للكاتب الذي لا يمل الوصف فيه, ومن خلاله أيضا _ المكان_ تتساقط الأحداث وتتشابك في بؤرة واحدة المكان – فقط – هو محركها وهو المنطلق.
علاقة المكان بالتكنيك:
لعل القارئ يلحظ من الوهلة الأولى أسلوب الفلاش باك / تيار الوعي, والذي اعتقد أن الكاتب كان في خطته أثناء الكتابة استخدامه. ففي بداية الرواية , عندما تقترب الطائرة من مسقط , نلحظ بعدها الالتفات والعودة إلى تيار الوعي ( بدت من نافذة الطائرة أضواء الشوارع والدولارات وشعلات البترول ---
قال الشيخ حمود البنهانى : أنت تستطيع دخول البلد بأى كمية من النقود أو الذهب ----)
وعندما تعلو السلم الألى في اقترابه من الطائرة يتذكر وينتقل بتكنيك تيار الوعي إلى داره قبل الرحيل (كنت قد انتهيت من إعداد حقيبتي , لكنى ظللت داخل الحجرة أتردد في الخروج إلى الصالة ومواجهة الحديث مع أمى ,
. وأيضا, وفى الصفحة الثانية من الرواية عندما ينسى البطل/ الراوي في ارتباكه ربط الحزام يتذكر إياه قال: (للطائرة موعد ولن تنتظرك ). لكنه فور أن يدلف إلى المكان ( مسقط سجن سخيف سجن أسواره جبال صخرية مصمتة ليس ثمة ماتبدأمنه أو تنتهي إليه ) يتناسى الكاتب ما أراد أن يتخذه من تكنيك تيار الوعي ليشغله المكان إلى السرد المتواصل , وتساقط تداعيات الأحداث , ليصبح المكان هو المسيطر والمحرك ويتلاءم هذا مع البعد النفسي والذي اعتقد أن الكاتب تعمد ذلك لإبراز قيمة المكان .
البطل المكان:
إن كان البطل – كما هو معروف – الذي تدور حوله الأحداث أو يدورها , فالبطل / الراوي في تلك الرواية يقف موقف الراصد , اللهم إلا في قليل من المواقف التي تفجر أحداثا , كعلاقته ( بزوينة )/ البطل الموازى .
ولكن يبقى المكان هو البطل الأوحد المحرك لكل الأحداث , بل والراسم لبعض الشخصيات , ولم نبالغ إذا قلنا انه له أثره على كل الشخصيات – وهذا مايأتى الحديث عنه لاحقا – فأكثر من ثلثى الرواية – تقريبا – وصفا دقيقا لجغرافية مسقط وعمان . لدرجة أن قارئ قد يظنها ضمن أدب الرحلات, وان كان هناك رابط بين الرواية وذاك النوع من الأدب.
كذا العرض التاريخي (لزنجبار ) بلد المحبوبة (زوينة) وما قام به الزنوج من ثورة لاسترداده , ووصف المكان على لسان البطل ( مسقط لاتعرف السهر ) وبداية مسقط قبل المدينة – على لسان , شوقي كمال – ( مطار تحده البراميل الفارغة , الشوارع ترابية والبنايات ذات النسق العماني , الحمار وسيلة مواصلات شبه وحيدة ) , قول بهجت حسان ( مسقط عبارة عن مجموعة من الأحياء المتناثرة تفصل بينها التلال والروابي .... ) ووصف الكاتب ( قلعة تزوي برج دائري كبير قديم لونه اقرب إلى الصفرة به فتحات للمدفعية تهدمت بعض الجدران )
( حصن جبرين : ثلاث طوابق مبنية بالجص والصخور السور من حولها يمتد طويلا يطل على ما حوله بوابات وفتحات للمراقبة)
وهكذا يتضح جليا أن المكان هو البطل الحقيقي الذي ابهر الكاتب أحيانا , وأحيانا أخرى هو المثير في داخله وما دامت الأشياء المستفزة دائما هي التي تطفوا على السطح ليتلاشى كل شيء أمام قوة هذا البطل / المكان وسطوته ليصبح هو الشغل الشاغل للكاتب الذي اتخذ من المكان موقفا عدائيا في البداية , ثم بدأ في التصالح معه عند لقائه بزوينة الذي جمع بينهما – أيضا – الوحدة وكثرة المكان الذي زاد من تعلقه بها .
علاقة البطل /المكان بالشخصيات :
ليس أدل على علاقة البطل بالشخصيات من مقولة ( تاجور )_والذي صدرها الكاتب روايته (نحن نعيش في هذا العالم عندما نحبه ,فرغم حب الكاتب / الراوي ل (مها )الذي تركها في القاهرة ,أصبح كارها لها عندما ألقته متطلباتها ومتطلبات أسرتها في اسر المكان ذي الطبيعة القاسية ليحصل على المال, ويصبح المكان والوحدة معا هما مفجر العلاقة بينه وبين زوينة التي جعلت بزيارتها له وتعلقه بها من المكان القفر , جنة في داخله مبعثها ( الحب ) والذي رأى بعينها جغرافيا المكان المدهشة , كان يتعايش معه , وينظر إليه نظرة مغايرة وهنا يلعب المكان دورا في صنع شخصية مغايرة لا تربطها عادات المجتمع المسقط، فهي متحررة بعض الشيء.
والمكان أيضا هو الذي صنع شخصية (ناصر) الذي كان يتدرب مع الكاتب/ الراوي، وهو الذي حوله لإنسان مطارد من المرأة الجنية التي قطعت عليه الطريق.
(كان يعود إلى قرب أو يقضى الليل في مسقط يعانى الإحساس بالمطاردة , يتصور المرأة في صعوده إلى الجبل , والمكان- أيضا-هو الذي صنع شخصية (عبد العال ) الذي قرر البقاء في الغربة رغم قسوتها بسبب خيانة زوجته , فتلاشى المكان / الوطن ليحل المكان / الغربة وتصبح الغربة هي الوطن .
حتى في الملابس يفرض المكان ذاته على الشخصيات فلو بقيت زوينة في زنجبار ( ربما كنت ارتدى الشراع , والمكان بطقوسه وعاداته , يفرض حتى كيفية الكتابة في المجلات والجرائد , وهو الذي دفع أحد الشخصيات إلى البقاء للحصول على المال .
وهكذا نلاحظ أن المكان بشكل اخطبوطى في تلك الرواية يتغلغل ليسيطر وتتضاءل كل الشخصيات بجانبه ليمر عليها الكاتب سريعا , وتصبح قصة الحب هي الشعاع الذي حاول الكاتب تسلقه لكسر حاجز الملل الذي عاناه .
وفى النهاية أقول اننى حاولت من خلال هذه القراءة إن أقدم مفتاحا للقارئ وإضاءة حول هذا العمل الذي يحوى في طياته الكثير