نشرت فى المدى أواخر عام 2003
قبضةُ العاصفة
فريد أبو سعدة
تتنفس في قصائد أمل دنقل روح متمردة ، قلقة ،رافضة . روح معذبة بالرغبة في العدل . روح الجماعة التي استنامت إلى حلم باهظ و أفاقت على جراح باهظة، فراحت تتوسل إلى تطهيرها بفنون من اللذاعة و التهكم و المرارة .
كان هذا بعض ما شدّني إلى أمل دنقل ، و بهرني في شعره ، كنت منخرطاً في عمل سياسي يتوخى دوراً جمالياً للشاعر كهذا الذي كان يؤديه ، و كان السياسيون من حولي ينظرون إلى أمل بإكبار باعتباره حزباً وحدة . كان أمل شيئاً آخر غير صلاح عبد الصبور ، الذي لم يكن من اهتمامه، أو في إمكانه بالأحرى، أن يضع قصائده على شفاه الغاضبين . و في حيرتي بين صلاح و أمل كنت كمن وجد الإجابة فجأة عندما انتشرت الأخبار عن اختيار أمل لتمثيل دور ( اخناتون ) في فيلم سينمائي، فقد بدا لي دائماً و كأنه نبي صحراوي يجمع بين إرميا و موسى !!
أتصور أن حركة الشعر الحر قد أصابها الضرر ببزوغ نجم أمل دنقل . فهذه الحركة التي تأسست على الهمس لا الجهارة ، و على الكتابية لا الشفاهية . الحركة التي طرحت وراءها الأوزان المركبة و اتخذت الأوزان الصافية فقط لتحجيم دور الإيقاع من أجل تثوير القصيدة العربية، و إدخال عناصر جديدة للتشكيل منها الرمز و القناع و تعدد الأصوات ، و منها المونتاج و المنولوج الداخلي و الفلاش باك . عناصر مثل التكرارو التوازي و المفارقة و أشكالاً جديدة من التناص و التعامل مع التراث .
كان تجديد و تثوير القصيدة ، من خلال هذه الرؤية الجمالية ، محايثاً لتنامي و صعود المشروع الناصري ، و كان البتر المؤلم لهذا المشروع في 1967 هو في الوقت ذاته بتر مؤلم للحركة الشعرية المحايثة له . لقد أدى الإنفجار المروع ليس فقط إلى تبديد القناعات و التسليمات التي وحدت و جيّشت الأمة ، بل و أدى إلى شيء آخر أكثر خطورة فقد أيقظ كل ما كان مستوراً أو مكبوتاً تحت هذه الواجهة من قناعات و تسليمات . تبدى الواقع عن مشهد غريب ، تتزاحم فيه الفرق و الشراذم قادمة من كل فجّ عميق ، تتنادى و تتصارخ و قد أعطتها الهزيمة مشروعية الوجود . كان الشعور بالغضب و المهانة قد وصل إلى حدّ جلد الذات و كان الرفض و التمرد قد راح يبحث عمن يقوم بالمهمة ، بالطبع لم يكن ليجده عند صلاح عبد الصبور ، و لا في نجوم جيل الستينات الذين راحوا يتمردون لا في الشارع كما هو مطلوب و إنما في الصالونات أمام النخبة و بحضور النقاد ، لقد كانوا في الحقيقة أكثر التصاقاً بالأفق الجمالي لحركة الشعر الحر ، أكثر فنية و كتابية مما يلزم لمهمة من هذا النوع .
من هنا يمكن فهم الدور التاريخي لأمل دنقل ، لقد وجدت مشاعر الغضب و التمرد صوتها الأنقى فيه ، و استطاع بجيش من الغاضبين والممرورين من كل نوع و اتجاه أن يزرع وجوده في خريطة الشعر، و أن تتغنى بقصائده الملايين
لقد لعب أمل دنقل دور الوسيط الجمالي بين هؤلاء الذين يجربون أشكالاً جديدة و صيغاً جديدة مدفوعين برؤى مختلفة ، و بين الجمهور الواسع و طرائق تذوقه القديمة، و هو نفسه يقول : عندما يكتب شاعر مثل أراجون ، ينتمي إلى مدرسة فنية معقدة، هل يمكن أن يصل هذا الشاعر إلى الجماهير؟ المسألة أن يأتي شاعر بعد ذلك يستعير الصور و بعض الطرائق التي استخدمها أرجون ليقدمها بشكل مبسط )
هذه هى المعادلة التي كان أمل علامة عليها ، المعادلة التي توفق بين الفن و التحريض ، كان التحريض يصنع له جمهوراً واسعاً، و كان الفن يقيه من السقوط في الابتذال الذي سقط فيه كثيرون ممن جاروه
انطلق أمل ليملأ حقبة كاملة من الزمن (1967 _1977 ) بهذا الصوت القوي بعد أن أربك جيله كله، و أخفت إلى درجة كبيرة ما كانت تحاوله حركة الشعر الحر ، كيف لا و قد تبدى الحس العام ، خلال هذه الحقبة، عن بداوة لا يمكن أن يتعامل معها إلا شاعر عام ، يرى أن مهمته هي أن يستولي على وجدان قارئه حتى لو غازل من أجل هذا كل ما قامت حركة الشعر الحر لمواجهته و تصفيته
كان يرى أن الأذن العربية لم تتخل عن تقاليدها السماعية ، و أن القافية تحقق عنصراً هاماً من عناصر الموسيقى في القصيدة ، و أن مهارة الشاعر لا تكمن في التخلي عن القافية أو الوسائل الكلاسيكية الأخرى بقدر ما تكمن في إعادة توظيفها لصالح القصيدة .
كان يدرك بالضبط مهمته و يعرف بالضبط الفرق بينه و بين ما تتوخاه حركة الشعر الحر و قد اختار ما يمليه عليه واجبه
يقول : الشاعر إما أن يكون مقروءاً أو يكون مسموعاً ، فإذا كان مقروءاً فيجب أن تكون صوره البصرية التشكيلية حديثة جداً و إذا كان مسموعاً فيجب أن تكون الإيقاعات الشعرية ليس مما ينصرف عنه الجمهور، بل مما يشدّ الأذن أيضاً و بذلك يضطر إلى استخدام قيم موسيقية تقليدية مثل القافية و الإيقاعات الحادة )
لقد طرح أمل إذن الشفاهية و الإنشاد من جديد ، و أوقف إلى حدّ ما تطور الذائقة التي كانت تستجيب ، و إن ببطء ، لمنجزات حركة الشعر الحر، و أطلق حسّاً غفلاً بدائياً و بدوياً يطرب للإيقاعات الحادة . كان أمل واعياً بنظرة النقاد إلى شعره ، و اتهامهم له بالمباشرة و العمومية ، و قد حاول ، إلى حدّ ( الإصطناع ) كما يقول ، أن يدخل في قصيدته الرموز و الأقنعة و الحيل الفنية الأخرى ، التي ابتدعتها حركة الشعر الحر ، من أجل تغيير هذه النظرة لكنها لازمته حتى أخر قصائده الكبيرة ( لا تصالح )
أتصور أن شعر السبعينات ، الذي ظل يعمل في الهامش، كان رداً من بعض وجوهه، على قصيدة أمل، ليس فقط بالعودة إلى التيار الرئيسي لحركة الشعر ، و الإهتمام بالشكل و التشكيل الذي كاد أن يطوّح به أمل ، بل وتجاوز أزمة الحركة أيضاً فقد كان شاعراً هائلاً مثل صلاح قد دخل في نفق معتم من التأمل الفلسفي مأخوذا بألغاز الوجود ، مفرّطاً ، و هذا هو المهم ، في الكثير من إنجازاته و حيله حتى بدا في آخر دواوينه كما لو كان نفساً غنائياً مهزوماً و راغباً في الموت
كان السبعينيون إذن يعيدون الاعتبار للتشكيل باعتباره جسد الرؤية لا وعاءأ يملأ مرّة بعد مرة بهذا السائل أو ذاك، كانوا يندفعون بعد موجة الرومانسيين في أوائل القرن، وبعد موجة الشعر الحر في أواخر الأربعينات ، يندفعون كموجة ثالثة إلى تطوير واكتشاف تقنيات جديدة ، و اجتراح فضاءات من التجريب و المغامرة تتكيء على اجتلاء الذات الفردة لنفسها ، و معاينة لإشتباكاتها المعقدة بالآخر والعالم على حدّ سواء
كنت منبهراً بالنقيضين : صلاح و أمل ، و في الوقت ذاته أشعر أن ثمة فراغاً ما لا يملآنه ، فلا كلاسيكية أمل الجديدة ، و لا عدمية صلاح الشجية تكفيان لاقتناص هذه الروح التي تتململ فيّ ، روح جياشة ، رافضة ، لكنها عديمة الثقة و مجروحة اليقين
أتصور أن تجربتي كانت نفياً جدلياً لكل من صلاح و أمل معاً ، و حواراً مع تجارب أخرى أيضاً . لا شك أنني تأثرت بالتشكيل الموسيقي لأمل دنقل لكنني لم أكن مثله مغرماً بهذا القدر من الإصاتة والجهارة، التي راح أمل من أجلها يستخدم عناقيد من القوافي المقيدة شديدة الوطأة والتي لازمت تجربته حتى النهاية فيقول في قصيدة ( زهور )
سلال من الورد
ألمحها بين إغفاءة و إفاقة ْ
و على كل باقة ْ
اسم حاملها في بطاقة ْ
و بالرغم من أن الحيل الخاصة بأمل دنقل نادرة جداً إلا أنه قدم لي الكثير من الحيل الشعرية التي استعارها من منجزات حركة الشعر الحر، بعد أن نفخ فيها من روحه القوي الصاخب ، و أعاد صياغتها بقدرته على التبسيط و الإيصال، مما مكنني من استيعاب هذه الحيل و الإلتفات إلى مصادرها الأصلية ، بل و مكنني من امتلاكها و استعمالها أيضاً
و لكن مياهاً كثيرة مرت من تحت الجسر، لقد تغيرت حساسيتي تجاه كل هذا : الموسيقى ، و الحيل الشعرية ، و روح الجماعة ، ومع ذلك بقي شيء أهم من ذلك كله ، بقي ما سيدفع أجيالاً من القراء إلى الإعجاب بأمل دنقل ، إنه الخاطر الشعري الذي لا يخلو من غرابة و جدّة
أشعر الأن أني و حيد
و أن المدينة في الليل
( أشباحها و بناياتها الشاهقة )
سفن غارقة
نهبتها قراصنة الموت ثم رمتها إلى القاع
منذ سنين
أسند الرأس ربانها فوق حافتها
و زجاجة خمر محطمة تحت أقدامه
و بقايا وسام ثمين
و تشبث بحارة الأمس فيها بأعمدة الصمت في الأروقة
يتسلل من بين أسمالهم سمك الذكريات الحزين
إلى آخر الإصحاح السابع من قصيدته الجميلة ( سفر أمل دنقل ) أو ( سفر أ لف دال )
سيبقى أمل دنقل، شأن الكباردائماً، مثيراً للأسئلة ، شاغلاً الجميع ، المختلفين و المتفقين ، و أنه من هناك يراقبنا، و نحن نجتمع للإحتفال بعشرين عاماً على رحيله ،و يبتسم متهكماً من بعض من جائوا و كانوا يناصبونه العداء !!