لا يعاني مــــــن فوبيا الــــــــوزن الشعري محمد فريد أبوسعدة: أحلم بتوسيع العالم عن طريق الشعر
تاريخ الطباعة: 04/06/2008
اطبع
--------------------------------------------------------------------------------
العدد 12577 - 27/06/2005 القاهرة ـ صبحي موسى:
لم يكن محمد فريد أبو سعدة واحداً من الذين يحبون أن يظهروا على أنهم نجباء القوم في جيل السبعينيات المصري، فظل يعمل بدأب وبعيداً عن الضجيج والشعارات أو الوعود التي سبقت وصاحبت تجاربهم، وعادة ما يتوقف المغرمون بإحصاء الأسماء دون ذكر اسمه، وإن حدث فإنه يأتي في مؤخرة القائمة التي تزينها الأسماء ذات الكفاح المسلح، والمدهش أنه قدم خلال مشواره الهادئ هذا تسعة دواوين وثلاث مسرحيات شعرية، كتب في بدء حياته القصيدة العمودية، ثم التفعيلية، وتحول كأغلب أبناء جيله لكتابة النص النثري، لكنه لم يغرم مثلهم بألاعيب اللغة وتشكيلاتها، على العكس كان انتماؤه لفكرة وحدة الأجناس الأدبية أكثر منهم، فجاءت القصيدة جزءاً من المشهد المسرحي، والمقطع كادراً سينمائياً، وظلت اللغة لديه تعني التصوير بالعين المندهشة، لا تشكلات لغوية محضة، ومن ثم فقد بدا سؤاله الشعري سؤالاً هادئاً في الظاهر وجودياً متأملاً في الباطن، يغلب عليه بعض الحنين إلى الماضي في تفاعيله العروضية، وينصاع كثيراً لتدفق المشهد الشعري في نثريته، صدر له مؤخراً ديوانه التاسع «سماء على طاولة» الذي جدد في ذهننا العديد من الأسئلة التي كنا نرغب في طرحها عليه منـذ زمن، فبدأنـاه قائلين:
> كنت واحداً من المتحولين من النص التفعيلي إلى النص النثري، فما الذي أغراك لهذا التحول؟
ـ «المتحولون» هذه مفردة غير دقيقة لأنها تعني قطيعة مع شكل تبنياً لشكل آخر، كما أنها تشي بفعل قصدي كأن تقول نويت الصيام غداً، لا، فالأمر لم يكن على هذا النحو، وحتى عندما كان جمال القصاص يسخر من قصيدة النثر ومن الذين يكتبونها متباهياً بأنه يمكنه أن يكتب ديواناً كل يوم ؛ لم يكد يفعل ذلك حتى أخذته اللعنة فلم يعد يكتب سوى قصيدة النثر!
ما أقوله إنني ربما لن أكتب ديواناً كاملاً من شعر التفعيلة في المستقبل، لكنني لا أعاني من «فوبيا الوزن».
أما الذي أغراني بكتابة قصيدة النثر فهو أمر آخر، يعود إلى بداية السبعينيات، مع ظهور دواوين «الفرح ليس مهنتي، حزن في ضوء القمر» لمحمد الماغوط، دعني أقول لك أن موقفاً جديداً من الشعر قد ظهر مع السبعينيات، فمع تداعيات كامب ديفيد تقلص الدور النبوي ـ الرسولي ـ للشعر وهو الدور الذي مثله أمل دنقل وقاد فيه الجماهير من أذنيها، أي اعتمد على الصوت. ارتبط هذا الخفوت في الدور الرسولي بخفوت آخر في الإيقاع، فلم يعد أحد يكتب على أكثر من بحرين من البحور الصافية السبعة، ثم تزامن مع هذا كله البزوغ الأخير لقصيدة النثر عند أنسي الحاج والماغوط، كان الخفوت والبزوغ يهيئان إذن المشهد الشعري لينتقل من سحر الصوت إلى سحر البصر، أي أننا أصبحنا أمام ظاهرة عامة تنم عن تحول في الذائقة، وكانت من الغواية، حتى أن بعضاً من ألمع شعراء الستينيات مثل أبو سنه جربوا هذا الشكل، وإن على استحياء، وفي حدود قصيدة أو قصيدتين.
في هذه الظروف كتب السبعينيون هذه القصيدة، هناك من كانت ـ هذه القصيدة ـ خياره الوحيد، وهناك من مزج بينها وبين قصيدة التفعيلة.
مصادر متنوعة
> يقدم النص لدى فريد أبو سعدة عدداً من تقنيات الأشكال الأدبية الأخرى كالمسرح والسينما والقصة القصيرة، بما فيها من مشهدية وسرد، فما مفهوم هذا النص لديك؟
ـ مصادر تجربتي كثيرة ومتعددة تجدها في المسرح والرواية والسينما والفن التشكيلي، لقد كنا في أوائل الستينيات مسحورين بالسينما الجديدة عند كلود ليلوش مثلاً، حتى أنني تمنيت أن أكون مخرجاً، كان الكادر قصيدة كاملة، وفي أوائل السبعينيات سحرتنا الواقعية السحرية عند أدباء أمريكا اللاتينية، ونبهتني إلى كرامات الأولياء والشطح الصوفي في تراثنا، وبين الستينيات والسبعينيات كنت أتدبر القروض القليلة للسفر من المحلة إلى القاهرة لرؤية «ليلة مصرع جيفارا» أو «ماراصاد» وغيرهما من عروض المسرح القومي أو مسرح الجيب وقتها.
كما تعلمت وأحببت أثناء دراستي للفن الفن السريالي، وأهمية الطبيعة الصامتة، تلك التي تقول نفسها دون حاجة إلى الكلام
علمتني السينما تكوين المشهد وعلمني المسرح الإيقاع، وعلمتني الرواية الحكي، وعلمني الشطح الدهشة، وعلمتني الطبيعة الصامتة الاقتصاد.
> يكاد يكون الديوان الأخير «سماء على طاولة» جزءاً آخر من ديوانك السابق «جليس لمحتضر» سواء على مستوى التقنية أو العالم، فما الذي أردت إبرازه من خلال هذه التجربة؟
ـ لا.. هناك فروق عديدة بين ديواني جليس لمحتضر وسماء على طاولة، ربما لم تقع أنت عليها، لكنها موجودة، وأشار النقاد إليها، فارجع إليهم إن شئت لكنني لن أتطوع بكشف نفسي أمامك، وبعيداً عن حالتي بالتحديد، دعني أسألك عن المتنبي، وهل هنالك مراحل في شعره، أو قل لي كم مرحلة في شعر أدونيس أو محمود درويش، لا أحد يستطيع أن يخلع جلده كالثعبان كل عام، هنالك دائماً ما يتغير، وهناك ما هو ممثل للشعر يميزه، كالجينات الوراثية، عن باقي الشعراء.
المسرح أوسع
> شغل السبعينيون باللغة، لكنك تكاد أن تكون العازف الوحيد عن هذا التشكيل اللغوي، فما الفارق بين تجربتك وسؤالك الميتافيزيقي وسؤالهم هم عن طريق اللغة؟
ـ لأنني كنت مهموماً بالفن كما أوضحت، فإن اللغة لم تكن في تجربتي إلا وسيلة، إنها بديل للفرشاة أو الكاميرا لنقل هذه المشاهد التي تشاغب خيالي، كنت أريد أن يرى القارئ ما أرى لا أن يسمع ما أقول. كنت أريده أن يندهش كما اندهشت، وأن يستخلص من المشهد المعنى الذي يمرق كشهاب في خيالي.
معظم السبعينيين ـ في مرحلتهم الأولى على الأقل ـ أرادوا أن يكثروا المعنى أرادوا أن يضعوا في اللفظة الواحدة أكثر من معنى، كان سؤالهم: هل يمكن قنص العالم بالشعر، وكان سؤالي: هل يمكن توسيع العالم بالشعر، لم يكن الأمر بمثل هذا الوضوح في أوائل السبعينيات، بل ولعلي خلطت حينذاك كثيراً بين السؤالين.
> الآن وبعدما قدمت أكثر من ثلاثة دواوين نثرية، ما الذي تراه في مستقبل هذا النص؟
ـ هذا النص ليس في تجربتي بالتحديد، هو أفق قابل للاتساع كلما سرنا فيه ويمكننا من الإمساك بالعالم وتوسيعه بأكثر مما هو عليه، إنه يفعل الآن ما تفعله الرواية، وقد بدأ بجعل القصة القصيرة تعاني من أزمة وجود، وأعتقد أنه خلال عقد واحد فقط لن يكون هناك من يكتب القصة القصيرة!! سنكون فقط أمام قصيدة النثر والرواية.
انظر إلى ما يحدث في تجربة واحد من أهم كتاب القصة القصيرة وهو محمد المخزنجي، ولاحظ هذا التحول من كتابة القصة القصيرة جداً ـ التي بنى بها مجده وشهرته ـ إلى القصة الطويلة التي يكتبها الآن، هذا التحول لم يحدث في رأيي إلا بضغط قصيدة النثر، واستيلائها على الفضاء الذي كان يمثل المجال الحيوي للقصة البالغة القصر قبل عقدين من الزمان!
بين الشعر والمسرح
> قدمت تجربة مسرحية أخيراً بعنوان «ليلة السهرودي الأخيرة، فلماذا السهروردي ولماذا الشعر؟
ـ المسرح أوسع من القصيدة، أنا في المسرح خالق شخصيات حية، لا صانع أقنعة أتحدث من خلالها في القصيدة. لقد كتبت قصيدة عن السهروردي وأعتقد أنها جميلة، لكنها تبقى بآليات الشعر أقل من الحضور الفعلي للشخصية على خشبة المسرح، السهروردي شخصية تراجيدية، عليك أن تتخيل شخصاً عليه أن يختار ميتة من بين ميتات يعرضها عليه أحب مريديه ليصبح بموت شيخه ملكاً على الشام، التراجيديا على هذا النحو لا بد أن تتوهج، ولا بد أن تصل إلى الشعر.
> يرى الكثيرون من أبناء السبعينيات ضرورة كبرى للوعي بما يعنيه من أفكار في النص، ويرى التسعينيون هذه الأهمية في المتعة الفنية أولاً.. فإلى أيهما تنحاز؟
ـ لا شعر كبير بدون أسئلة كبيرة، ولا أسئلة بدون وعي،ولا أعتقد أنه يمكن المفاضلة هكذا بين شعر يحتوى على فكر، وشعر يحتوى على المتعة ويخلو من الفكر، إذ في هذا الخلو ذاته فكر. السؤال هو كيف يتبدى الوعي في القصيدة، هل هو من تجربة الشاعر أم لا، هل هو من نسيج القصيدة أم لا.. «ذاكرة الوعل» عمل شعري فكري و «الغرام المسلح» ـ ديوان لحلمي سالم ـ عمل شعري فكري، والفكر في العملين جزء أصيل من التجربة، وجزء أصيل من المتعة الفنية.
> ما هي رؤيتك لمشهد الشعر المصري الآن؟
ـ حُرم جيل السبعينيات ـ جيلنا نحن ـ من وجود شاعرات فيه، أليس هذا غريباً! وأليس غريباً أن يتكاثرن هكذا كالفطر منذ الثمانينات، لقد كنا جيلاً ذكورياً كثير العراك، مناقيرنا كما هي في صدور من سبقونا، كانت أيضاً في صدور بعضنا البعض، بعكس هذه الكانتونات الشعرية التي لطفتها الأصوات الأنثوية.
على أي حال، فإن المشهد الشعري الآن بقدر غناه الجمالي تكون هشاشته الفكرية، إذ لم تعد فكرة اختراق التابو قادرة على تبرير هذا المشهد، أي لم تعد امتيازاً للشعر، ومن ثم فإنني أقول إن الوعي بالمأزق الوجودي هو الذي يمكن أن ينقذ هذا المشهد الشعري من الانهيار.
أعمال الشاعر
الشعرية:
السفر إلى منابت الأنهار/ وردة للطواسين/ غزالة تقفز في النار/ وردة القيظ/ ذاكرة الوعل/ طائر الكحول/ معلقة بشص/ في صباح جميل كهذا «مختارات»/ جليس لمحتضر/ سماء على طاولة
المسرحية:
عندما ترتفع الهارمونيكا/ حيوانات الليل/ ليلة السهروردي الأخيرة.
--------------------------------------------------------------------------------
جريدة القبس