| محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الأحد 08 يونيو 2008, 11:22 pm | |
| دراسة نقدية عن شعر الراحل محمد عبد المعطي دكتور : مجدي أحمد توفيق(1) عَرَفْتُ محمد عبد المعطي وأنا لا زلتُ معيداً صغيراً. كنتُ وقتها شاباً لا يعرف أنه يصْلُحُ ناقداً للأدب. وبعد سنواتٍ قليلة بدأ ذلك المعيد الصغير يُدْرِكُ أنه يحب أن يتناولَ نصوصَ الأدب بالتحليل والتفسير، وأنه يحبُّ أن يكونَ ناقداً أدبياً يتابع حركة الأدب في بلادِهِ. ثم كانت سنواتٌ أخرى فأصبح الناقدُ مغموراً كليةً في الحركة الأدبية، ندواتِها، مؤتمراتِها، مجلاتها، كتبِها. أصبح في مكانةٍ ينتظر معها منه بعضُ الناس أن يكشِفَ عن حقائق الأدب، ويُصَوِّبَ مسارَه، كأن ذلك بمستطاعٍ. أما الشاعر الشاب فقد كان اختيارُهُ للعامية الدارجة لغةً لقصائده اختياراً محسوماً من بواكير شعرِهِ . كان يكتب قصائد لها جماليات تلائم القصيدة الفصيحة التي كانت تُكْتَبُ في ثمانينيات القرن الماضي. كُنْتُ أحبُّ قصائدَه. وكُنْتُ أعتقد أنها، على جودتها، تُخْفِي صفاءً لا تسمح له بالظهور. كُنْتُ أرى أن رغبة القصيدة المكتوبة بالعامية أن تنفِيَ عن نفسِها أنها زجليةٌ تجعلها تتحوَّلُ من النقيض إلى النقيض : من وضوح الزجل الذي يبلغ كثيراً حدَّ الحديث التقريري المباشرالذي يُفْسِدُ الشعرَ إفساداً، إلى كثافة القصيدة الفصيحة التي يسمُّونها بالحداثية والتي تطمس، في بعض الأحيان أيضاً، صفاء الروح، ونصاعة المعنى. وفي تضاعيف القصائد التي كان يكتبها الشاعر الشاب كنتُ أرى روح ثائرٍ، يحلم بعالمٍ أبسط وأجمل، وتضطرم داخله شخصيةُ متمرد لا يقبل ما حوله من أوضاع، ولا يهادن ما يراه من مفاسد العيش. كان ذلك الثائرالباكريفسِّرُ لي كلَّ صعوبةٍ ألقاها في شعرِهِ، ويعلل لي كل محبةٍ تخامرني وتعطفني نحو قصائده . ويبدو لي أن الثائر، بعد عِقْدٍ من الزمان، قد ثار على نفسِهِ بأشد مما ثار على العالم حوله؛ فأخذ يكتب قصيدةً مختلفةً، بدت لي أصفى، وأشف، وذاتُ صاحبِها أجلى وأشد بروزاً، واضحة المعالم، مسموعة الصوت . وبدت قصيدته الثانية قريبةً من قصيدة النثر، أو بدت منتميةً إلى قصيدة النثر، لولا أنها احتفظت بغنائية الروح، ونمَّت أداءً لغوياً متناغمَ الأصوات، محسوس الإيقاع. حسبتُهُ قد وصل إلى قصيدته التي ينتهي عندها بحثُهُ، والتي ينسج منها كل ما سأراه له من شعر، ولكنه في السنوات الأخيرة، قد أدخل على قصيدته تحولاً ثالثاً، فأصبحت قصيدةً آخرية، إذا جاز التعبير، أصبحت تعَبِّرُ عن حيواتِ الآخرين بأكثرمما تنطق عن الذات الشاعرة، همومِها، ثورتِها، أحلامِها. وقد اقترن هذا التحول بشعورٍ متنامٍ بأن محصولَ الذات من مفردات العالم لا يزيد عن أن يكون بقايا، ومهملاتٍ، ونثاراً متراكماً، أو كراكيب كما آثر التعبير. في اللحظة التي أدركتُ فيها أن الشاعر قادرٌ على أن يتمرد على نفسه، قادرٌ على أن يأتي بجديد، قادرٌ على أن يزودنا بقصائد مختلفة عما كتبه عن قبل، وفي اللحظة التي أصبحت فيها لا أتوقع له صورةً محددةً لقصائده المقبلة، ولا أتوقع لبحثه عن قصيدته نهاية، إذا بهذه اللحظة هي عينها لحظة النهاية التي لا مزيد بعدها من القصائد، أو من البحث عن شعرٍ جديدٍ مختلف. يالها من مفارقة !!!. لقد تنَقَّلَ الشاعرمن ثائرٍ حالمٍ منكبٍّ على حلمه بعالم أفضل، مستغرق في رؤيته للعالم، إلى ذاتٍ واضحةٍ بارزة، تراجع نفسها، وتناقش عالمها، ثم إلى بائع روبابكيا، يقلب بقايا العمر، ويفتح ذراعيه ليحتضن الناس، يحنو على آلامهم، ويحس بمشاعرهم، أفراحاً وأحزاناً . أريد في السطور المقبلة أن أراقِبَ هذه التحولات. هل هي أيضاً تحولاتي وعمري ؟. بصورة أو بأخرى يقدم لنا محمد عبد المعطي أنفسنا . (2 ) ديوان "رحيق الشهد والمحاياة " نقطة البداية في معرفة الشاعر. يقول الشاعر : " ريح الخلا بتشد من نني النهار دمعة وتطفِّي ضحكتي ... صوتي يسيل ع الصخر متبعتر حمام أبيض بلون النجم والآية آهين يا طعم الغربة آه يا غنوتي الشاردة على حد المدى يا بسمتي المفقودة في عروق الوجع عنواني تاه في الضلمة، وفي التواريخ، وأشجار الهزل والريح بتعوي بين ضلوعي وتنسج التوهة | الضباب تتبدل المسافات فيرتد الربيع المنتشي دبلان آهين أيا أحزان " ( رحيق – ص 25 ) يهتم المقطعُ بأن يصَوِّرَ رؤيةً للعالم بوجهٍ عام . يستعين عليها المقطعُ بمفرداتٍ من الطبيعة . تبدأ بالريح المنطلقة بغير حدود، بغير جدرانٍ تصُدُّها، لأنها ريحُ الخلا. هذه الريح تجتذب الدموعَ من عين النهار. من المفترض أن تكونَ الدموعُ دموعَ الشاعر، ولكن الشاعرَ يراها دموعاً عامةً تعم الكونَ كله. ورد هذه الدموع إلى الشاعر ليس صعباً؛ فدمعةُ النهار تطفئ ضحكةَ الشاعر، وهي بهذا تَرُدُّ إليه الحزن. يستجيب الشاعرُ لحزنِ الكونِ، فيسيل صوتُهُ على الصخر، يتبعثر في صورة حمامٍ أبيضَ بلونِ النجوم، تنتشر في السماء. الصورةُ مركبةٌ، فالصوت ينطق بكلماتٍ، والكلماتُ تسيل كالماء أو الدموع، والكلمات تصير حماماً، والحمام يصير بلونه نجوماً. هذا التركيب يجعل الصورة مكثفةً تكثيفاً شديداً، كان مألوفاً في الشعرفي عِقْدِ الثمانينيات من القرن الماضي. مع هذا فإن الموقفَ الشعري كله موقفٌ غنائيٌّ. والغنوة التي يراها الشاعرُ تشرُدُ على حد المدى علامةُ هذه الغنائية الصريحة القاطعة. هذه الغنائية لا تنخلع من فكرة الانتماء إلى الوطن، و لاتخلو من الأسى لأن الوطنَ ليس على الحال الذي يرجوه له . وستذكر القصيدةُ بعد سطور قليلةٍ النيل، وسيذكره الديوانُ مراراً مشيراً إلى الوطن بمقدار اقتران النيل بمفهوم الوطن : مصر . وفي المقطع الذي ننظر فيه الآن تقوم التواريخ مقام النيل في ردنا إلى الوطن. يتوارى ذِكْرُ الوطن، وهو مقصودٌ بالقول في المقطع الشعري ، لأن التركيبَ الشعري الذي يحققه الشاعرُ قولاً يقوم على التكثيف، وعلى صياغة رؤيةٍ للعالم بوجهٍ عام تبدو رؤيةً مأساويةً حزينةً، غنائيةً باكيةً، يلتقي فيها حزنُ العالم، أو الكون، بحزن الذات، كما يلتقي تيهُ النفس مع ضباب العالم حول شرطةٍ مائلةٍ واحدةٍ آخر المقطع المختار. يقول كذلك : " زي الطراوة بتدخلي دمي فتشب من عيني الخيول ترمح في ميدانك يتبعتر الليل ... العطش يتلم تكويني يرجع نهاري في الحلوق سلسال من الكوثر أنا في العيون البراح .. وفي الملامح هدى لو ضل قلب الكون أطوي إنكسار المدى، واغسل دموع القمر وأوصل لعرش الشمس أغمر شواشي النخل فيسوى الرُّطَب ياللعجب " ( ص 65 ) المنطلقُ غنائيٌّ، يصْدُرُ عن شعور الذات الشاعرة بها؛ تلك التي تقتحم مشاعره، وتدخل دمَهُ . ولكن الصورة، التي ينسجها المقطع بعنايةٍ شديدةٍ، صورةٌ كونيةُ، تستمد عناصرَها من الطبيعة، فيها يتبعثر الليلُ، وتجري الخيول، ويبرز النَّهار، ويسيل نهرٌ من أنهار الجنة، كوثر، ويصير للكون كله قلبٌ، وينكسر المدى الواسع، ويبكي القمر، وترتفع الشمس على عرشها، ثم يهبط المشهدُ على قمم النخيل. هذه لوحةٌ طبيعيةٌ كونية متنوعة الملامح، فيها مفردةٌ دينيةٌ هي الكوثر، وكان من تقاليد الشعر في الثمانينيات الاستعانة بالمفردات الدينية المألوفة (= القصيدة مؤرخة بمارس 1990م )، وهذا حاضرٌ في الديوان ، يرى نفسه، مثلا ، " يونس متمزع في تابوت " (ص18) ويخاطب مريم والمسيح، مثلاً، في موضعٍ ثانٍ ( ص 83)، إلخ. وتلك الإشارات كالأساطير التي كانوا يذكرونها كثيراً (= يذكر الديوانُ إيزيس وإخناتون مثلاً ص 21)، كانت مألوفةً في هذا العهد من تاريخ الشعرفي مصركتقليد تقسيم القصيدة إلى أجزاء معنونة كل منها عنوانُهُ كلمةٌ واحدة كما فعل في " عينيك والسبيل والحلم " (ص 39 – 42 ) . وفكرةُ الحلم هذه مهمةٌ في حالة الحزن الكوني التي يصورها الديوان والتي يقويها المفردات الدينية والأسطورية : " أحلامي فوق جسر الجليد الحلم ذات إن دل فات .. إن ضل مات .. إن زل قدمه على الطريق أصبح شتات وأنا حلمي عنوان للبراح وعيون ملاح... هبات رياح تنسج بدم الليل صباح شارب حليب الفجر من ضي القمر أنا حلمي مبدور في العيون روح البداوه ... وقلب عصري ... وغنوة تجمع ألف صوت وإيدين بتنبش في الفضل ع النور وترسم بالصباح ع الطين عرايس وحكايات " ( ص 59 ) هذه الأحلام متصلةٌ بفكرة الكونية اتصالاً واضحاً. يظهرفي الجليد، والبراح، والليل، والفجر، والقمر، والعيون، والنور، والصباح . هي مفردات الصورة الكونية التي ظهرت لنا من قبل ورسمها الشاعر بعناية شديدةٍ . وهي، من طرفٍ خفيٍّ، متصلة بفكرة الوطن، ببعدٍ ثقافيٍّ وسياسيٍّ كامن فيها، يظهر في التقاء روح البداوة بالقلب العصري التقاءً يمنح للحلم مضموناً سياسياً واجتماعياً. كل هذا يصُبُّ في مستوىً شعبيٍّ بسيط، تمثله العرائسُ والحكايات التي ترتسم آخر المقطع، والتي تقَدِّم للحلم مضموناً شعبياً كذلك. الحلم أخيراً يتجسد ذاتاً. الحلم ذات. إنه يتشبع به حتى يصير الحلم تكوينه الذي أومأ إليه مقطعٌ سابقٌ. لقد نفذ الحلمُ في نفسِهِ وروحِهِ. وامتلأ فضاءُ روحه به. هذا الحلم الذي لا يحققه الواقع يملأ النفس غضباً : " بركان غضب وعيون بتنزف من وريد الحلم وتلم النهار آهه... إنكسار • طب وإنت إيه نابك ؟ • محقون بإبره في سنها نابك • رقصت أحلامي وسعيت .... حنيت إيديه بدم حلمك وانتشيت • غرزة نيابك قلبت رمل الطريق .. عضيت على حروف الأمل مزقت جسد الأرصفه • يا تموت يا تجمع كلمتك • آه ... إ ... ن ... ش ... ر ... خ ... ت " ( ص 55 ) هذا الغضب الذي يبلغ مدى البركان متصل بالحلم الذي ينزف وريدُهُ ، فنزيف الحلم مثارُالغضبِ البركانيِّ العنيف. كذلك فإن الانكسارَ لا يعبرعن زوال الحلم، أو الاستسلام لهزيمته، بل الانكسار مثار الغضب. والحوار يصور هذا الغضب. تقنية الحوار مع مجهول واحدة من تقنيات الشعر في هذا العقد ( القصيدة مؤرخة بإبريل 1986م ). هذا المجهول هنا قوةٌ غاشمةٌ تقتل الأحلام، وتريد منه أن يكف عن الحلم ولا يعبأ بسقوط الأحلام. إنه قاتل يلتذ بقتل الحلم، ويُحَنِّي يديه بدم الحلم المسفوك . وهو مخيَّرٌ بأمرٍ من أمريْن : الموت، أو تَجَمُّعِ الكلمة لنهضة الغضب الذي يقاوم هزيمة الحلم، ويُغَيِّرُ الواقع القائم . وبين الخيارَيْن ينشرخ، يتمزق. والانشراخُ الذي أصبح يتقسَّمُ حروفاً تقنيةٌ أخرى تجعل الانشراخَ كلمةً مصورةً كتابياً بتقسُّم الحروف وانفصالها، ومصوَّر صوتياً بتقسُّم النطق حرفاً حرفاً. هذا الغضب ما جعلني أرى فيه ثائراً حالماً. هذه الكثافة الشعرية لا تنفي وجود صوت غنائي موقَّع بسيط في تضاعيف الديوان أعتقد أنه عينَهُ الصوتُ الذي سيبرز فيما بعد ليُغَيِّرَ شكلَ قصيدته . هذا الصوت حاضرٌ منذ بداية الديوان : " غني غني إفتح الشباك لصوتك رش حلمك ع الوشوش وافتكر بس الساعادي إن قلبك لسه حي ................. ................. ................. غني غني • ياه .... باموت " ( ص 9 ) صحيح أن هذا النص مؤرخ بأكتوبر 1994م، وهذا ما يحعله تأليفاً قريباً من المرحلة الثانية . ولكنه موضوعٌ هنا لأنه لا يزال ينطوي على الحوار مع مجهول، لا يزال ينطوي على روح التفاؤل والرغبة في ملأ نفوس الناس فرحا – وهي ظاهرةٌ في عنوان الديوان بعامةٍ - وتلك طبيعة الثائر الحالم ، ثم لا يزال يعود إلى الخيار الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بين تَجَمُّعِ الكلمة، أو الموت، وهو هنا يرى الموتَ مصيراً له، لا بمعنى الموت الفيزيقي الحقيقي، ولكنَّ الشعورَ بأن الحلم لا يتحقق هو الشعور بالموت، موت الحلم، أو موت الأمل، أو موت الثقة في المستقبل. وهو، على كل حال، مقطعٌ بسيط العبارة مُهَيَّأٌ لأن يقَدِّمَ المعنى في يُسْرٍ . وفي الديوان مقاطع غنائيةٌ مختلفةٌ موقَّعة بارعة، في أحدها حَوَّلَ منغومة الزار : "شيخ محضر، يا شيخ محضر" إلى قطعة شعرية جميلة : " شيخ محضر يا شيخ محضر دِبْلِتْ غنوه في قلب أخضر والإنسان الإنساني وشه إتغير في كياني والريح شايلاني وحطاني بتحلل دمي وأوطاني وبتشرب قلبي مكرر شيخ محضر يا شيخ محضر " ( ص 17 ) وفي موضعٍ ثانٍ يكتب ما يشبه نداء الباعة على حلوى ( ص 33). وفي موضعٍ ثالثٍ يكتب ما يشبه الموال ، أو رباعية عن الحلم المنتحر البوار ( ص 60 )، وفي موضعٍ رابعٍ يكتب شكلاً بيتياً وليس شكل الشعر الحر المألوف ( ص 79) . وآخر هذه المواضع التي تضم قِطَعاً من الشكل العمودي أو البيتي، واضح التنغيم، بارزه، آخر قصيدة في الديوان(ص 89 -90 )، الموجهة لفيومي آخر عزيز علينا هو مصطفى الجارحي، فجاءت قصيدته بسيطة غنائية، موقعة شفافة، كأنها تمهيدٌ لروحٍ جديدة. وإذا كانت أغلب الموضع المذكورة تبدو نوعاً من استيحاء الشعر الشعبي فإنها تدلنا على بُعْدٍ من أبعاد الحلم هو البعد الشعبي الذي أشرتُ إليه من قبل . ويأتي ذِكْرُ مصطفى الجارحي، وتوجيه قصيدة له، نوعاً من ذِكْر صوتٍ ثانٍ يريد أن يعبِّرَ الشعرُ عن ضمير الجماعة الشعبية وروحها، ببساطتها وعُمْقِها. وفي تقديري أن هذا التوجه نحو الجماعة آخر الديوان علامة ملائمة لتحَوُّلٍ قادمٍ ، في ديوانٍ ثانٍ، أريد الآن أن أنتقلَ إليه . | |
|
| |
دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الأحد 08 يونيو 2008, 11:27 pm | |
| ( 3 ) بنت ما ولدتهاش ولادة " الديوان الثاني . ويدلنا عنوانه على أن البعد الوطني الذي كان يظهر في نصوص الديوان الأول من وراء بعض الكلمات القليلة الموحية، قد أصبح أشد ظهوراً، تجسده هذه البنت التي لم تَلِدْها امرأةٌ لأنها رمزٌ لا بنتٌ حقيقيةٌ متعينةٌ . وهذا التوجه يبرز بوضوحٍ من بداية الديوان : " بالظبط زي الفوله فوق النار قلبي بيتنطط ولا يحددش صوره للوجع شمسي بتتاوب ولا تفتحش سكه للنهار بالظبط زي الفوله حلمي بيتحرق رمشك سحابه بتتسرق .... والأرض لسه مشققه والغنوه مش قد الوتر والصوت غريب ... آه يا خبر بالظبط مش قادر أفك رموزك ... أكتبني وافتح ببيبانك وأغسلك وأصلي فيكي أصلي بيكي أصلي ليكي أرش حلمي بين إديكي ... والتقيكي بين عيوني بتسجدي تتعبدي .... تتوضي من صبحي الندى وتجسدي نيلي في عروقي وترصُدي نبضي في وريدك تنشدي غنوة صباحي وتفرضي دمك في دمي توحدي ... تتوحدي " ( بنت – ص 13 ) كانت الصورة كونيةً، مرسومةً من مفردات الطبيعة، والآن أصبحت الصورة شعبيةً تأخذ من حبة الفول مفردةً لتصوير الحلم يتوثب، ويحترق. صحيح أن هذه المخاطبة / المحبوبة لها رمشُ سحابة، ولكنها لا زالت إنسانة بسيطةً تصلي معه، ويصلي بها، ولأجلها. وهي، فوق هذا كله ، ملتقىً رمزيٌّ يحاول جاهداً أن يفكَّ رموزَه بكل قدرةٍ لديه . وهي مجتمع الرمز لأنها تتجاوز كونَها فتاةً، إنسانةً بسيطةً، لتستوعب النيلَ الذي يجري في عروقه فتجسده تجسيداً. ونحن نذكرُ أن النيل في الديوان الأول كان مدخلاً إلى دلالة الأمة بأكملها. وهذه المحبوبة، بطابعها الرمزي، وبطبيعتها التي تكاد تكون صوفيةً، وبقدرتها على أن تجعله يكتب نفسَه بمجرد أن يفك رموزها، هي، بكل هذا، أوسع مدىً من أن تكون محبوبةً محدودة الوجود والكيان. نحن أمام لغةٍ بسيطةٍ لذاتٍ واضحة، بارزة، تريد أن تكتب نفسها، وأن تفك رموزها. هذه الذات البسيطة تقارب الشاعر نفسه : محمد عبد المعطي، شيئاً فشيئاً. إنه الذات التي تخاطب طفلها عبد العزيز في قصيدة " مااعرفشي افتكرتك ليه " ( ص 27 – 29 ). الليل صباحي والقمر مخطوف الليل مغطي والنهار مكشوف يا مين يرسّي الروح على بدني ويلم حلمي من ضباب الخوف ( ص 27 ) هذه القطعة أشبه ما تكون برباعية من رباعيات صلاح جاهين، تريد أن ترسم لنفسِهِ صورةً مناقضةً لصورة الطفل البرئ، الضاحك، الذي ينير الطريق والعالم، ولكن الشاعرَ يعيش عالماً يسوده الليل وقت الصباح، ويخلو من القمر الذي يمكن أن ينيرَ له نهاره الذي أصبح مظلماً. إنه ليلٌ يغطي اليوم، والنهارُ انكشف بلا غطاء، بلا حماية. والروح ينطلق عن بدنه، قلقة، محلقة، لا تكاد تستقر في بدنها. والحلم الذي كان مفتاحاً لفهم الديوان الأول لا يزال حاضراً في الديوان الثاني، لا يزال مبدداً ، مرتبكاً، غائماًَ، ملفوفاً بضباب الخوف. إنه الحلم المقيم في روحه، في ملكوته : عليك الحلم والملكوت مابتكلش ولا بتموت وفاكر خطوتك لسه دا سرداب الليالي تابوت ( ص 28 ) لا يذكر الديوان طفلَ الشاعر فحسب، ولكنه يذكر مراراً طفولة الشاعر أيضاً، من قصيدة "نفس الشوارع " ، إلى قصيدة " خيالات بتمر على رموشي " . هي عشر قصائد تلوح فيها ملامحُ من طفولة الشاعر لتعلن ظهورَ الذات وبروزَها، ذاتاً واقعية، محددة، وليست فحسب ذاتاً حالمة، ثائرة، غائمة الملامح لأنها تتسع لكل الحالمين مثلها، بحلم كحلمها. " الليله هارسم في القصيدة فراش وارسم شجر ماعرفش معنى الخريف والبيوت من فضه وريحة النعناع هادخل برجلي اليمين وأسمِّي ع الآخر أكتب حدود البنت في الحجله ومرجحة الضفاير وتسبيله على الشباك وحلم رومانسي مش ممسوخ " ( ص 39 ) ههنا رَسْمُ الحلم أصبح بسيطاً، شعبياً ، طفولياً. الحلم أصبح عالماً من شجر، فوقه فراش يطير، ووراءه بيوتٌ من فضة، لها رائحة النعناع، وكلها مفرداتٌ قريبةٌ من الخيال الشعبي البسيط . وتظهر بساطته الشعبية وهو يدخل الحلم برجله اليمنى، ويُسَمِّي – ربما على الآخر بمعنى الآخرية – تسميةً معبرةً عن تقاليد شعبية مألوفة في مصر. ويمنح هذا كله روحاً طفولية كامنة في هذه المفردات، صورة البنت التي تلعب ألعاب الأطفال الشعبية البسيطة، قبل أن تلعب ألعابهم فيديو. وترتفع الصورة فوق الطفولة بروح الحب الرومانسي البسيطة التي يريد ألا تكون ممسوخة كما مسختها الأغاني التافهة . تقول القصيدة إنه سيرجِّع صوت فؤاد حداد . ولكنه لا يحاكي فؤاد حداد في شيءٍ. بل يهيئنا ذِكْرُ حداد لأن نستقبل هذا المقطع : " أنا ابن الندى الأزلي وابن الطمي والموال ترابي شكل المعنى ... لآخر ضحكه مصريه وعدَّى الشكل والمضمون " ( ص 39 ) اللغة هنا ليست بهذه البساطة السابقة في القصيدة نفسها. هي تعبيرٌ أعمق عن الذات التي تريد أن تفصِحَ عن نفسها في الديوان بقوة. لقد قال في الديوان السابق : "وباعلن وضوحي وأفارق جروحي ... تهلي ... أميل " ( رحيق الشهد والمحاياة – ص 37 )، ولكنَّ هذا الوضوح يبدو أوضح في الديوان الثاني، ومع هذا فإن هذا الوضوحَ لم يمنع أن يعبر عن نفسه هذا التعبير العميق الذي يكاد يمثِّل تعريفاً بمبادئ الشعر، وبصورة الذات في الديوان. هو لم يفقد كونيته التي تعطفه على الندى الأزلي ، ولكن هذه الكونية أصبحت أشد اتصالاً بالوطن طمْيِهِ ومواويلِهِ وترابِهِ، وشعره يتشكل معناه من همه الدائم بتراب الوطن، بالضحكة المصرية الصافية المشهورة، وتلك الحالة أوجب عنده من مطالب التفنن في الشكل، أو البحث عن مضمون خاصٍ يبرزه . " وأنا لسه بادوِّب أحزاني ف كباية الشاي وف إيدي سيجاره أظن اتشربت قبل ما اولعها بافتكر الضحكه المهزومه.. وباطالع نشرات الأخبار واتريق على كل الشعرا... وباموت م الضحك قصاد قلمي ساعتين وانا عاجز عن ترجمة الصورة ... وتأويل المعنى وباحاول أفسر ف غبائي قدام الهرم المقلوب واتكركب لكن ما اطلعشي ... غير بالشهوه على وش كلينتون " ( بنت - ص 51 ) تبدو اللغةُ ههنا قريبةٌ من لغة قصيدة النثر التي تهتم باليومي والمعيش. ولكنَّ الأمرَ ليس تعبيراً عن تقنيةٍ جديدةٍ بأكثر مما هو تعبيرٌ عن حالة ارتباكٍ ذهنيٍّ أمام العالم الغريب الذي تعيش فيه الذات . والعبارة الشعرية ههنا تبدو ساخرةً بسيطة. جعل المقطع العجز عن كتابة الشعر موضوعاً للشعر. هو مراوغ، يصنع مفارقة ذكية، هي عينها جزءٌ من السخرية في المشهد. الكتابة التي يريدها ترجمة للصورة المشاهدة. هذا في تقديري ما سيحاوله بقوة في الديوان الثالث . أما هنا فإن محاولته تنتهي به إلى إدانة كاملة للعالم الغريب الذي يعيشه, ربما يشير الهرم المقلوب إلى قصر الثقافة بالفيوم تحديداً، لأنه على صورة هرم مقلوب، ولطالما استنكر أدباء ومثقفون أن يكون الهرم مقلوباً وهو قيمة ثقافيةٌ عظمى، ورمزٌ مصري أصيل، قد يكون قلبه حطاً منه. وقد يكون الهرم المقلوب، هرم النظام الاجتماعي، أو هرم النظام العالمي الجديد. ربما يساعدنا كلينتون بحكايته الشهوانية المعروفة،على أن نرفع المعنى إلى هذا المستوى. ولنتذكر أن هناك مستوىً كونياً عاماً لرؤية الشاعرللعالم . ولكن هذه الكونية تبلورت في صورة من مشاهدات الحياة اليومية صورة رئيس أمريكي يبدو في نشرات الأخبار. والقصيدة تدينه، وتدين العالم كله، بكل ما فيه من ظلم، وتركز رؤيتها على وضع المواطن البسيط الذي ينتمي إليه الشاعر، والذي هم أهم ما يهمه، ويريد أن يتأول معنى الصور المشاهدة لأجله. هكذا أصبح محمد عبد المعطي يكتب القصيدة من الصور التي يراها الناس في بعض حياته الغالية . وأريد الآن أن أقف بين أهم قصيدة بالديوان : آخر قصيدة . وهي، في تقديري، الأهم لأنها قمةُ ظهور الذات شعراً في الديوان، فهي نص سيري ذاتي، وله تميُّزٌ يرجع إلى أننا لا نعرف نصوصاً شعريةً كثيرةً تقترب من أن تكونَ سيراً ذاتيةً لأصحابها. ومن المهم أن نقرأ قصيدة " أنا يمكن محتاج دلوقتي أغيَّر دمي " بوصفها سيرةً ذاتيةً شعريةً تبلغ بها الذات قمة حضورها في نصها قبل أن يأتي الديوانُ الثالثُ الأخير ليكون ديواناً غيرياً كما سنرى : " أنا يمكن محــتاج دلوقتي أكتب عن نفســي وصورتي المنقوشة بحزني وأحـلامي وبروايزي اللي مليتها قوافي وعلقتها ع الحـيطة بترقـص وتغني وترجع تتاوب وتنام، يمكن محتـاج أفتكر الحدوته ف حجر أمي وأسافر بخيالي مع المهره اللي راكبها الشاطروالغوله اللي شـعورها بتنطر تعابين وعقارب والدمعه النــازله من عين ست الحسن بتلسع خد حبيبها وتجدد جواه الرغبه ف الاستمرار " ( ص 87 ) تظهر الذات ممثلةً بضمير المتكلم بوضوحٍ أول المقطع في مطلع القصيدة . لقد أخذت القصيدة شكلاً في كتابتها نثرياً، كأنها تريد أن تؤكد اقترابَها من فن السيرة الذاتية بوصفِها نوعاً من أنواع النثر. وربما ترى أن كتابتها على هذا الشكل النثري علامة انتماء القصيدة إلى قصيدة النثر. ولكنَّ الأهم أن نلحظ الكيفيةَ التي يسرد بها سيرتَه، وهي كيفيةٌ شعريةٌ في المحل الأول، تلتفت إلى صورته التي يحملها لنفسه، والتي تحملها قصائده له، صورة ممزوجة بالحزن والحلم والشعر. فيها تعاود ذاكرته استعادة طفولته ، على الأقل في قصائد عشر سابقة من الديوان. وهنا يجد نفسَه يعود إلى طفولته ثانيةً، يستعيد حكايات الجدة، والخيالات التي كانت ترسمها، وهي صورٌ شعبيةٌ عريقةٌ معروفة، كصورة الشاطر على المهرة، وصورة الغولة المخيفة، وصورة ست الحسن التي يتعلق بها الفارس البارعُ ويجاهد لأجل الفوز بها. وقد أصبحنا نعرف أن الانتماءَ إلى الثقافة الشعبية التي يحملها البسطاء من الناس بعدٌ مهم من أبعاد الخبرة الشعرية في الديوانين جميعاً. " ها ارجـع بخيـالي وأشـوف مـياتمـنا وأفراحنا وعديد النسوان لما السبع يقع من طوله وحيطان البيت تنهد وتنبني من تـاني على وعد بفرح جديد وربابه وشاعر وترومبيطه وزفــه وزغاريد . على فكره نفس الهون اللي اتدق عليه ف سبوع المرحوم أخويا جات الدايه..نفس الدايه ودقت به على دـاغ الواد ابني اللي بيكبر وبنفس ملامحي، هيدقوا الهـون لابنه من تاني ولا يقطع لنا عاده قادر يا كريم " ( ص 87 ) يلخص المقطع العُمْرَفي مشاهد الميلاد، والاحتفال بسبوع الطفل، التي تتعاقب على أفراد الأسرة فرداً فرداً، يذكُرُها لأخيه، ثم لابنه، ويتوقعها لابن ابنه الذي لايزال في ضمير الغيب. ومثلما تذكَّرَ حكايات الجدة يتذَكَّرُ من الثقافة الشعبية العديدَ الذي يتلقى به النساءُ الموت حين يفقدون رجالهم، فيستخدمون في عديدهم عباراتٍ من قبيل السبع الذي وقع، والبيت الذي انهد، إلخ. وعلى نحوٍ واضحٍ، يُشْعِرُنا المقطع بأن الحياةَ لها منوالٌ واحدٌ منتظمٌ من جيل إلى جيل، لا يعدوه. هذا المنوال هو العادة التي يدعو الله عز وجل ألا تنقطع دعاءً أقرب ما يكون إلى تأكيد أنها عادةٌ لا تنقطع منه إلى تمني أن تكون هذه العادة غير منقطعةٍ. ستسعيد القصيدة في مقاطعها التي تلي هذا المقطع جواً ريفياً جميلاً كانت طفولة الشاعرتستمتع به. يذكرجرن البلد، ورائحة الخبز، والمصطبة في بيت الجد في فيديمين، وزيَّ المدرسة في طفولته، وهو يسمع صباحاً أغنية بالأحضان لعبد الحليم حافظ التي تلائم إحساساً بالرغبة في احتضان العالم كله، واحتضان البيئة التي يعيش فيها بخاصةٍ. ويذكر المدرس الذي تَوَعَّدَهُ بالإخفاق الدائم في طفولته، وأول قصة حبٍّ له في المرحلة الإعدادية. ثم يذكر بائع الصحف الذي كان يلجأ إليه كل يوم ليقرأ الصحف، مقابل أن يساعده في البيع، ويعاوده الحزن لفقره الشديد وعجزه، بعد السنوات الطويلة، عن أن يطعم أبناءه. وتستعيد القصيدة طرفاً من قراءاته في دار الكتب في مرحلة بناء ثقافته الأولى، ثم يغالبه الحزن لأن الدارَ الأثرية تهدمت، وتوزعت الكتب على أماكن شتى دون أن تجد مَنْ يقرؤها. " أنـا كـنت بامـوت في الشـعر العربي م المتنبي وأبو تمام ولغاية ناجي ونزار، لكن مع شغفي بقصـايدهم ومحاولاتي الناجحـة ف كتابة الفصحى يفضل صوت أمي يرن على وداني وهي بتعجن وتقول : " يا عجين اللفوف... كما النعجه لافت ع الخروف ، كما النبي لاف على صـاحب المعروف ، جود بقيـراطك كمـا جودت بفـدانك وادعي للي سـعى وجابك. اللي ياكل منك لقمـه تنزل ف بطنه بالتقوى والإيمان. النبي فات عليّه وعجيني بين إيديه وقاللي اسـتغفري واتشاهدي يا صبيه، قلت استغفر الله العظيم وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسـول الله " ويلح عليّه جمال الشـعر العبقري اللي انا رددته ف طفولتي من غير ما اوعى مين كتبه " واحد اتنين سرجي مرجي، إنت حـكيم ولا تمرجي " و " لاعبيني لا الاعبك لا اكسر صوابعك، صــوابعك اللولي" و " يا طالع الشجره هات لي معـــاك بقره تحلب وتسقيني بالمعلقه الصيني " الله الشعب دا شاعر بالفطره وانا واحد منه إنما حبيت الشعروأخلصت له واهتميت به " ( ص 91 – 92 ) يروي هنا النص النبع الذي تحوَّل به الشاعرُإلى محبة العامية لغةً للشعر، بدلاً من الفصحى التي جربها بدايةً، ولم يُخْفِق في استعمالها لغةً للشعر، ولكن ما أحس به من عبقرية التعبير الشعبي في أغاني الأطفال، وأغاني النساء في أدائهن أعمال البيت، جعله يميل إلى العامية، ويؤثرها لغةً لما يكتبه من الشعر. ويبدأ من هذا الموضع يسرد بداياته الشعرية، مع محمد حسني، والجارحي، وزيارته للصحفي القدير محسن الخياط، وندوة محمد جبريل، وندوة يسري العزب، وصحبة محمود الحلواني، ويسري حسان، ومسعود شومان، والخلاف مع فؤاد نجم لأنه لا يكتب قصيدة تهتم بالصورة (=حداثية )، فيحدثهم عن الضرورة السياسية التي أحس بها عند زيارة نيكسون لمصر، فأوجب على نفسه أن يكون تعبيره واضحاً بسيطاً صريحاً. وفي تقديري أن هذا الخلاف بمقدار ما يُصَوِّرُ التمايز بين جماليات القصيدة التي بدأ بها محمد عبد المعطي، والقصيدة الثائرة التي كان يكتبها أحمد فؤاد نجم. مع تذكُّرُ القصيدة لهذه الواقعة تحديداً، ومنحها أهميةً ومكانةً بارزةً في قصيدته، تدل جميعاً على أنه احتفظ في مخيلته بجواب نجم ليكونَ خياراً ثانياً محتملاً لكتابة القصيدة، وهذا ما اتخذ عنده، في الديوان الثاني والثالث، صوراً أبسط للقصيدة، وإن تكن، بطبيعة الحال، لا تطابق صورة القصيدة عند أحمد فؤاد نجم. لقد احتفظ بالثائر القديم، لكنه أدرك أن اللغة التي كان يُعَبِّرُ بها عن ثورته وأحلامه، قد أصبح الواقع القائم يتجاوزها، أصبح في حاجةٍ إلى لغةٍ أوضح، وأبسط، وأصرح، نحا نحوها وهو يسمح لقصيدته بأن تكونَ مجالاً لذاته للبروز، ريثما تنفتح على الآخرين في الديوان الأخير. لنمض إلى الديوان الأخير | |
|
| |
دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الأحد 08 يونيو 2008, 11:30 pm | |
| (4 ) صندوق روبابيكيا " هو الديوان الأخير. انتهى الديوان الأول :" رحيق الشهد والمحاياة " بقصيدةِ " قمر غَيَّاب " التي خصَّ بها الشاعرُ شاعراً صديقاً له هو مصطفى الجارحي. فيها غلبه حزنه، ومرارته، وكانا موضوعَ القصيدة، وارتبطا بالرؤية العامة للعالم التي يصورها الديوان. وضم ديوانُ "بنت ما ولدتهاش ولادة " قصيدتين لافتتين، الأولى " طب حتى شوف" (بنت – ص ص 15 – 18 )، أهداها إلى محمد الطلاوي، والأخرى" بس انت حاول تفتكر" (ص ص 19 – 23 )أهداها إلى الشاعر نادي حافظ. أضف إليهما القصيدة التي مر بنا ذِكْرُها ويخص بها ابنه عبد العزيز، والقصيدة التي ينتهي بها الديوانُ، والتي عددتُها سيرةً ذاتيةً شعريةً، وأشار فيها إلى عددٍ غير قليلٍ من الناس الذين مروا به في حياته وتركوا عليه فيها أثراً مذكوراً. وفي هذه المواضع كلها كانت القصيدة ترى الشخصية التي يتجه إليها بالنظر بمقدار تعاطفه معها، وحبه لها، وتأثره بها، ودخولها في تجربته الشخصية الذاتية الحية، ولم تكن، من ثمَّ، تمنح الشخصية المشار إليها مساحةً كبيرةً للظهور. يمكن القول إن التفات الشاعر إلى الآخرين قديمٌ، لكنه أقل ما يكون في الديوان الأول، وأكثر حضوراً في الديوان الثاني الذي يمكن أن نراه جسراً بين الأول والثالث، بين التفاتٍ قليلٍ إلى الآخرين، والتفات أكثر إليهم، والتفاتٍ أوسع وأشد لهم، يحاول أن يتمثلهم، ويتقمص أرواحهم، وتلك هي البنية التي يحاول الديوان الثالث في علاقته بالآخرين أن يحققها. ولكي نلقي ضوءاً على هذه الفكرة لنشرحها فلننظر في قصيدة "فيروس سي" التي أهداها إلى الشاعر طاهر البرنبالي في أزمة مرضه الشديدة التي كنا نخشى عليه من خطرها: " طب وبتنده على خالد عبد المنعم ليه ما تسيبه يعيش من غير أحزان وتقرَّب جنبي نعزي ف بعض ونتعكز على أحلامنا الفارغة ودنيتنا الكدابه يعني انت ها يحرى لك لما يقطع كبدك فيروس سي إيه يعني حتة بني آدم زيك شايل وطنه ف كبده وبيفكروا يبيعوه طب ودي تستاهل تقلق نوم الواد الغلبان بعد ما ريَّح أعصابه شويه وبقى يتنفس من غير خوف " ( صندوق – ص 25 ) تذكر القصيدة خالد عبد المنعم، وهو شاعرٌ كان قد رحل من قبل وفقده الشعر في مصر. وستذكر القصيدة فيما بعد مجدي الجابري، وهو شاعرٌ ثانٍ مات بالسرطان وخسرناه. ثم ستذكر بعده عبد الدايم الشاذلي، وهو ثالثٌ سقط تحت عجلات قطار. فالقصيدة استدعاءٌ صريح لصحبةٍ جميلةٍ من الشعراء، أو هي تَسَانُدٌ على أرواحهم البديعة. لهذا لا يستخدم ضمير المتكلم الذي يتحدث عن نفسه، بل يستخدم ضميرَ المخاطب الذي يستحضر مخاطبه – البرنبالي – ويوجه إليه الحديث، ويستحضر معه صحبةً جميلةً أوسع، ليغدو الشاعر مفردةً في جماعةٍ فائقة الإنسانية، شفافة الأرواح، تتساند، ويلتمس كلٌّ منها في الآخرين عوناً وقوة. إنه التقارب الذي يدعو إليه مخاطَبه، لكي يتبادلا العزاء. وهو يلتمس الإنسانية في شخصية مخاطَبِهِ، البرنبالي. هو شاعرٌ يحمل وطنه في كبده، ليس فحسب الكبد المريض ولكنه كبد المكابدة والمعاناة. وهو يلتمس القوة لتحمل الآلام، ويصمد في أحلامه التي أصبحت الحياة تُكَذِّبُها صباحَ مساء، يلتمسها في قوة الآخرين كما يفعل الشاعر. هذا خطابٌ غيري، متوجه إلى الخارج، يحاول أن يتقمص الآخرين، ويستوعب أرواحهم، ويشاطرهم همومهم، ويرى فيهم قوةً لذاته. وبنية القصائد في هذا الديوان تحقق هذه الفكرة تحقيقاً قوياً. القصيدة في هذا الديوان تشبه ذراعين مفتوحتين لتضم العالم كله على اتساعه في حضن الشاعر. هذا شديدُ الجلاء في الإهداء الشعري الذي وضعه الشاعرُ أول الديوان : " لمحمد عبد المعطي اللي انا عارفه كويس وباحاول ما اكشفلوش باقي الصندوق ابعد ياعبيط قبل ما تخسر نفسك ........................... لاصحابي اللي انا لسه براهن على ضمايرهم بالذمة ما ليس حق أقلق منكم وامسك قلبي بإيدي وامد لكو التانية بدون تفكير ................................ للواد كرم... اللي باموت فيه حاول ما تسلمشي أبوك للشيطان لما تشيلك رجليك " ( ص 7 ) فالذاتُ هنا حاضرةٌ، كما كانت حاضرةً في الديوان الثاني على نحو آخر، وحاضرةً في الأول في غنائيته على نحوٍ أول. ولكن حضورَ الذات هنا لا يعني أن الخطابَ يتناولها موضوعاً له، بل هو يدفع بها إلى الوراء قليلاً، ويطلب من هذه الذات أن تبعد، ولا تنظر في صندوقها كأنه صندوق بندورا، صندوق الشرور. ومقابل دعوته الذات إلى أن تبعد فإنه يمد يديه للأصحاب بقوة، يراهن على ضمائرهم، ويقاوم أي قلقٍ يعتريه تجاههم. ويضع أملَهُ فيهم، وفي ابنه الطفل كرم، الذي لم يكن قد مشى بَعْدُ وقتَ كتابة هذا الإهداء. وعلاقتُه، ههنا، بالأصحاب والابن علاقةٌ أقرب ما تكون إلى الاحتضان، تحوِّلُ القصيدة إلى حِضْنٍ واسعٍ لهم، يلتمس فيهم ضمايرهم، ويضع عليهم الأمل والرهان. وليس الأصحاب وحدهم مَنْ يلتفت إليه الديوان، بل كل إنسانٍ من هؤلاء البسطاء الذين يصحبهم ويصحبونه في رحلة العُمْرِ، وإن لم يكونوا أصحاباً بمعنى الأصدقاء المقرَّبين الذين يصَرِّح لهم بذات نفسِهِ. اقرأ معي، على سبيل المثال، قصيدة " قزاز وراني لعربيه نبيتي " : " ها تحاول تلبس للمره التانيه قناعها وها تروح له وها تصحِّي الوحش الساكن جواه من غير تمهيد ما ها يقدرشي يفلفص منها وهايقوم على حيله يبوَّط فيها ويكتب سطر جديد على صفحه اتهلكت وها يتعمد ينسى إنها آخر مره مسحت بكرامته الشارع من غير رحمه وركبت عربيه عيونها جريئه ولونها نبيتي وكلب كانيش بيطلع له لسانه بكل استهزاء في قزازها الورَّاني وبيفوته بحرقة دمه كان بيسب ساعتها ويلعن في الجامعه اللي اتخرج منها للتلتوار وف أخوه اللي جيوبه ملانه ومنفوخ ع الفاضي وف بنت الكلب اللي بتركب عربيات في السكه عيونها جريئه بعد ما لعبت بيه الكوره وقتها كان بيلم ف قلبه اللي اتنطوَّر ع الأسفلت وبيتفَّض عنه ألسنة الناس وشماتة الكلب وبيحلف لما يشوفها لها يسوِّي بكرامتها الأرض ويرميها ذليله وأحقرمن كلب لسانه مدلدل ف قزاز وراني لعربيه نبيتي " ( ص ص 43 – 45 ) أول ما يسترعي الانتباهَ، في سياقنا، أن الشاعر مختفٍ إلى حدٍّ كبير. ليس غريباً أن يفترضَ القارئ أن الشخصَ الذي تحكي عنه القصيدة، والذي تلعب بمشاعره المرأة هو الشاعر نفسُهُ، يتذكَّر خبرةً قديمةً ما ويرويها. ولكن هذا الفرض سيظل فرضاً محضاً، ولن يستطيعَ أن ينفيَ أن ضمير المتكلم غائبٌ عنا، وأن الذات الشاعرة لا تفصح عن نفسِها داخل القصيدة، ولا تبرز ملامحها فيها. إن القصيدة تشبه قصةً قصيرةً مكتوبةً بضمير الراوي الغائب العليم المُطِلِّ على الأحداث من أفقٍ أعلى غائمٍ. وهذا الغياب له دلالةٌ عكسيةٌ، لأن غيابَ الذات الشاعرة يفتح السبيلَ للآخرين حتى يبرزوا ويتصدروا المشهدَ. نحن الآن أمام أشخاصٍ آخرين، يعيشون في بيئةٍ بسيطةٍ، يمرون بخبراتٍ يمكن ألا يكون لها قيمةٌ عند مَنْ لايهتم بهم، والقصيدة ترد لهم الاعتبار، بأن تجتذبهم إلى صدارتها، وتروي عنهم، وتلتمس الروح الإنسانية فيهم. ولا بد أن قصة الخداع التي ترويها القصيدة ستكون أول ما يثير اهتمام القارئ. وسيظن القارئ أنه أمام قصة شاب يحب فتاةً، وهي تعرف بحبه، وتستغله، وتخدعه، فإذا وقعت على شخصيٍ غنيٍّ يوفِّرُ لها عربةً فاخرةً، وحياةً مرفهة، أهملت عاشقها ولم تعبأ بأنها تجرح مشاعره، وإذا أحست أنها تحتاج إليه، لسببٍ أو لآخر، فإنها لا تتردد في أن تعودَ إليه وهي على ثقةٍ تامةٍ بأن حبه لها سيغلبه على أمره، وسيلين لها، ويسرع إليها، يقبلها، ويكتب معها سطراً جديداً في قصة الحب، ريثما تجد رجلاً آخر أغنى، فتعاود الكرة، تهمله، وتجرحه، وتنصرف عنه. ولكن القصيدة ليست، في تقديري، قصيدة حب، وليست الغايةُ منها أن تروي علاقة الخداع والعشق. فأهمُّ ما تحرص القصيدةُ على إبرازه هو مشهد العربة النبيتية، والكلب ذي اللسان المتدلي، وصورته في زجاج العربة الخلفي. تستحضرالقصيدةُ هذا المشهد في عنوانها بدايةً. ثم بعد اثني عشرة سطراً ترسم المشهدَ بتمهلٍ ووضوح، في ستة سطور، ثم تُلْمِحُ إليه عند سبه الفتاة، وعند ذِكْرِهِ الكلب، وعند خاتمة القصيدة . هذا المشهد، على وجه التحديد، الدال الأكبر الذي تبنيه القصيدة، وتجعل قصة الخداع وسيلةً لكي تملأه بالإحساس بالمهانةِ الذي تريد أن تبني عليه دلالتها. إنه السبب في الإشارة إلى الأخ المغرور بأمواله، الذي يمَثِّلُ دالاًً ثانياً مع قصة الخداع المهين، لبناء دلالة المشهد المكرر. وهذا المشهد هو ما يجعل موضوعَ القصيدة ليس خداع فتاةٍ لشاب يحبها، وإنما هو المهانة التي يحسها الفقيرحين تواجهه مظاهر الترف بحقيقةِ فقره، وعجزه، وتصمه بالضعف، وترتكس به إلى قاع السلَّم الاجتماعي. إن الثائر القديم يعاود التفكيرفي قضية التفاوت الاجتماعي، وما يتصل بها من استعلاء أناسٍ على أناس، أو طبقة على الطبقات الأخرى. ولكنه لم يَعُدِ الآن يكتفي بأن يرسمَ صورةً كونيةً دالةً على ما يتركه التفاوت الطبقي من أثرٍ على النفوس، ولم يَعُد يكتفي بأن يقدِّم شكواه من العالم، والحياة، والمجتمع، وخبراته الذاتية في هذا الشأن، وشعوره بالغبن لأن المجتمع يضع بعض الناس في عرباتٍ فارهة، وحياةٍ مرفهة، ويجعل الآخرين "روبابكيا" ، أو يعيشون وسط أشياء بسيطة كالروبابكيا، يحلمون وتسقُط أحلامهم، وتصير، كذلك، روبابكيا. الذات لا تغيب كل الغياب، فهي حاضرةٌ في الآخرين، في مشاعرهم، وألامهم، وأحلامهم، بوصفِهم صوراً أخرى لأحلام الذات التي أنشأتها في ديوانها الأول، وظلت طَوال الوقت تشكو تعثرها، وتشكو حرمانها مِنَ التحقُّقِ. اقرأ معي قصيدة "صندوق روبابكيا " : "طعم هزيمتك مش قد مرارة حلقي امبارح وأنا في اللفة شايف الدنيا ومش قادر أعاود تاني.. بتستغرب ليه كام عُقب سيجارة اتخنقوا ف طفايتك من ساعة ما واجهتك بحقيقتك وإزاي لسوعت صوابعك ونفخت عليهم نار صدرك فاتحرقوا زيادة ها تعلق خيبة أملك على مين المرة دي البنت ..؟ ابتسمت لك حبه ودخلت قصيدتها وقفلت جناينها عليها قبل ما تدخلها الغربان ويعشش فيها البوم اللي إنت بتجري وراه دلوقتي الوطن..؟ إلعب غيرها ماعادش يساعك ولا عدتش تنشد مواويل أيام الصبا زي زمان وأصحابك يتمايلوا ببراءتهم حواليك ويقولوا الله دلوقت يعوض ربنا على طيبة قلبك ويسهلها لك حتى الخيط اللي مسكته وتبت عليه بإيديك وسنانك وقعدت تهندم فيه بيدوب ف إيديك نظرتك الضيقه زي ما هيه.. وبتلعب ف مساحه أضيق منها لو تطلع براها هاتفتح صندوق الروبابكيا المتزوق من بره ومن جوه صفيح بيدبَّح ف صفيح وانت بتدخله هاتحاول كراكيبه بكل براعة تشل حواسك وتسيطر على تفكيرك وها تتحاصر بالناس الخرده وبالدم الفاسد والصدا والأنقاض والرابش بس اللي أنا متأكد منه ..إنك بني آدم من دم ولحم وإن الطبع الغلاَّب جواك هايرجَّع دمك بسخونته وهايصحِّي مشاعرك قبل ما تتخدَّر وها تقدر تاخد موقف مره ف عمرك قدام صندوق روبابكيا مزوق من بره ومن جوه .... " ( ص ص 55- 58 ) لمرةٍ جديدة قد يحب القارئ أن يفترض أن هذه القصيدة يخاطب فيها الشاعر نفسه. ولما كانت ليست سرديةً بالقدر والصورة التي كانت في القصيدة السابقة – ومثيلاتها في الديوان كثيرة – فإن هذا الفرض يبدو أشد قرباً. ولمرة جديدة لا نرى منه مانعاً حاسماً، وإن كنا هذه المرة لا نستبعد فرضاً مضاداً، يقترح أن المخاطبَ الذي تتجه إليه القصيدةُ بالخطاب هو القارئ عينه: القارئ الضمني الذي تؤسسه القصيدة لنفسها والذي يشبه الشاعر وله أسىً كأساه . المهم أن نلحظ أن وجود آخر يخاطبه الشاعر، وإن يكن مردوداً إلى الذات عينِها، لا يزال يتسع بالذات لرؤية الآخرين، ويجعلها ترى خبرتها فيهم، وتتجاوب معهم، كما رأى في صندوق كراكيبه ناساً خردة، ينتمون إلى عالم الروبابكيا نفسه، عالم الصدأ والأنقاض، و"الرابش " كما يقول النص. تتجاوب القصيدة مع الإهداء الذي تقدَّم ذِكْرُه، والذي ذكر الصندوق باكراً، ومع قصائد أخرى في الديوان : "حتة روبابكيا " ( ص ص 69 – 72)، و" آخر صندوق الروبابكيا" (ص ص 109 – 114)، و"هلاهيل" ( ص ص 95- 100)، ولا تخلو منها فكرة الأراجوزفي "مليون أراجوز" ( ص ص 73- 76)، وفي" بلياتشو" ( ص ص 105- 108)، بمقدار ما تعبر عن هوانٍ يلائم عمراً يقرر الشاعر لنفسه أنه مليءٌ بالروبابكيا. بهذا كله يُنَمِّي الديوان شعوراً قوياً بأن الأحلام الغالية لم تعُدْ معادن ثمينة، بل معادن صدئة من سقط المتاع . أصبحت أحلاماً مهزومة كالهزيمة التي تشير إليها القصيدة أولها، هزيمةً تؤكد المرارة التي يرى الشاعر أنها صحبته من ميلاده ، في المهد : " في اللفة". وهزيمة الأحلام الكبيرة، أو الأحلام الجماعية، وتَحَوُّلُها إلى موضة قديمة، أو روبابكيا، أو سقط المتاع، هي خيبة الأمل التي جعلته يخنق السجائر في المطفأة ضيقاً وحزناً، بغير جدوى. جعلته يشعر بأن طيبة قلبه خسارة، وأن نظرته إلى العالم ضيقة. ومن عجبٍ أن هذا الشعورَ بالهوان، وهذا الوعي بهزيمة الأحلام، وهذا الأسى لأن الحياة قد صارت ركاماً من سقط المتاع، لم تدفع به جميعاً إلى موقفٍ عدميٍّ مستسلم. بل هو يستنكرأن يلجأ إلى الحيا الدفاعية السهلة القديمة، كأن يدعي أن البنتَ التي خانت هي سبب الهزيمة، أو أن الوطن الذي فسد هو سببها، أو أن الأصحاب الطيبين الذين لم يَعُد قادراً على أن ينشِدَ عليهم مواويله القديمة فيهتزون طرباً هم السبب . وما يطالب به مخاطبه / نفسه/ قارئه، هو أن يتخذ موقفاً إيجابياً من صندوق العُمْر. البحث عن موقف إيجابي للذات مقترنٌ بثقةٍ عميقةٍ كاملةٍ في أن روحه الحارة ستعود لها ثورتها وقوتها، ولن تقبل أن يستسلم لحياة الأحلام المهزومة. ومهما يكن العالم مليئاً بسقط المتاع فإن الذات ستظل تجتهد لكي تصنع منه قيمةً، وتبني من خلاله حياةً حلوةً، أو محتملةً، أو جديرةً بأن تعاش. هذا شعرٌ جديرٌ بأن يعيش: شعر مقاومة حقاً . | |
|
| |
دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الأحد 08 يونيو 2008, 11:32 pm | |
| ( 5 ) التحولات التي أراها في شعر محمد عبد المعطي من ديوانٍ إلى ديوان من دواوينه الثلاثة لا تمحو الشخصية الأولى التي بدأ منها. لا تمحو شخصية الثائر الذي امتلأت نفسه بحلمٍ جميل بعالمٍ أفضل، لنفسه، ولوطنه، وللإنسانية جمعاء. هذا الثائر الحالم كانت نظرته إلى العالم كونية، وكانت لغته حافلة بالصور، الجزئية والكلية، المغلقة والممتدة، الحسية والاستشرافية . تعتمد على تناغم الصور بأكثر مما تعتمد على تناغم الإيقاع ورنينه. ولكن الروح الشعبية التي كانت تعتمل في نفسِهِ- والتي عرفنا من آخر قصيدة في الديوان الثاني أنه لم يختر العامية لغةً للشعر إلا افتناناً بعبقرية التعبير الفني الشعبي التلقائي – كانت تنعطف به إلى أشكال موقعة بيتية وسط شعره الحر، متنوع الإيقاعات لتكونَ مواضعَ الإيقاع التقليدي علاماتٍ، لا على قدرته على أن يصوغ الشعر بأنماطه الشعبية فحسب؛ فتلك قدرةٌ غير منكورة عليه، وإنما هي علاماتٌ على أن الروح الشعبية البسيطة، المحبة للجماعة الشعبية البسيطة، تكمن فيه، وتوجه حلمه نحو صالح هذه الجماعة البسيطة، الفقيرة، المهمشة. وبقدر ما كان الحلم ينطوي على غير قليلٍ من الغضب لأن العالم لا يوافِقُ الحلمَ، فقد كان يحمل سعادة الحلم، وكان الحلم يحمل رحيق الشهد والمحاياة الذي ذكره عنوان الديوان الأول. على نحوٍ ما كان الثائر الحالم يحمل في روحه شعوراً بأن ذاته تفنى في حلمٍ أكبر، وأن هذه الذات حاملةُ الحلم، تستحق أن تنتبه إلى نفسها قليلاً، وأن تجعل هيامها بروح الجماعة الشعبية لا تمنعها من أن تصْغِي إلى صوتها الداخلي قليلاً. هذا الصوت الداخلي هو ما شَكَّلَ الديوان الثاني. أصبح الشاعر يتحدث عن نفسه في قصائده كثيراً، يتصاعد بالحديث وصولاً إلى القصيدة الأخيرة التي اتخذت لنفسها صورة السيرة الذاتية الشعرية. واقترن بروزُ الذات بسهولة اللغة، واتصالها بالحياة اليومية والمفردات الشعبية المألوفة. أصبحت السيجارة المحروقة تعبيراً يؤدي ببساطة ما كنت تؤديه شمسٌ تخنقها السحبُ في شفقٍ ملطخ بدم الأحلام. وتدفق الإيقاع هامساً سهلاً تقطعه أداءات تشبه الأداء المسرحي الذي هو بعدٌ من أبعاد الشاعر يتطلب دراسةً أخرى مستقلةً. وبعد أن كان الوطن نيلاً، وتاريخاً، أصبح الوطن بنتاً "ما ولدتهاش ولادة " وفاقاً لعنوان الديوان الثاني الذي يؤكد أن بروز الذات لم يعنِ انقطاعها عن الحلم الجمعي الذي كانت تسدر فيه. ودلته مراجعة الذات في الديوان الثاني على أن العالم لا يسمح للحلم الجمعي بأن يتحقق، وأن مآل الحلم إلى هزيمة، وأن الزمان المعيش لا يلتفت إلى الأحلام الكبيرة، يهملها، يهمشها، ويهمش أصحابها، ويعدها، ويعدهم، من سقط المتاع. وبدأ يفتح ذراعيه للآخرين الذين يشبهونه اغتراباً، وهزيمةً، ووعياً. وبدأ يكتشف أن البسطاء، كبائع الصحف الفقير الذي ألم به في القصيدة السيرة آخر الديوان الثاني، يشبهونه اغتراباً. فأقبل عليهم، يتعزى بهم، ويلتمس فيهم إنسانيةً مفقودة. هؤلاء جعلوا لغته أقل إيقاعاً، أكثر سرداً، وأقرب إلى النثر، وأشد نهلاً من مفردات الحياة اليومية، مع لمحاتٍ إيقاعية متناثرة تؤكد أن الأحلام القديمة لا تموت موتاً زوءاماً. لهذا لم تنته به مراجعة العمر، ولم ينتهِ به فتحه لصندوق العمر، ولم ينتهِ به اكتشافه هذا الكم المهول من سقط المتاع الذي يتناثر حوله، إلى يأسٍ مطبق. بل انتهى به إلى أن يحث نفسه على الفعل. ينبغي أن يواجه نفسه، وعمره، وعالمه. ينبغي أن يفعل شيئاً. بعبارةٍ أخرى ينبغي أن نفعل شيئاً. نحن ينبغي أن نفعل شيئاً. هذا العالم الذي وصفه محمد عبد المعطي عالمنا، وضرورة أن نفعلَ شيئاً موجهةً لنا كما هي موجهة منه لنفسه. نحن أيضاً ينبغي أن نفتح صناديقنا، ونراجع متاعنا، ونتخذ المواقف الصريحة مما لدينا من توافه الأمور، ومن أحلامٍ أصبحت، بمرور الأيام، سقط المتاع الذي يتطلب أن نفعل لأجله شيئاً. لم يقل لنا محمد عبد المعطي ماذا يجب أن نفعل على وجه التحديد. ربما هذا هو ديوانه القادم الذي لم يكتبه. فلنكتبه. فلنفعل شيئاً | |
|
| |
عصام الزهيري مشرف قسم القصص والروايات
عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الإثنين 09 يونيو 2008, 2:09 am | |
| لما أنصت إلى هذه الدراسة أثناء إلقائها في المؤتمر المنعقد بمناسبة رحيل الحاضر الغائب عبدالمعطي، قلت في نفسي : هو بالفعل الشاعر والإنسان الذي عرفناه، في دواوينه الثلاثة اختصر عبدالمعطي وجسد تجربة جيل كامل. دراسة د.مجدي توفيق هي دراسة نافذة من صميم روح الشعر إلى صميم روح المبدع الفنان. لم يقل لنا عبدالمعطي ماذا نفعل بالتحديد ولذلك نحن ننتظر ديوانه القادم بل ونسمع أبياتا منه تتلى فالأفكار والمشاعر العظيمة أرواح خالدة لها القدرة على الانتقال والتجسد والتناسخ كلما بدأت كتابة عن عبدالمعطي تأجلت بفعل شيء لا أدري ماهو. ربما يكون السبب كما قال د.مجدي هو أنني مع آخرين من أصدقائه في انتظار الديوان القادم | |
|
| |
زائر زائر
| موضوع: رد: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الإثنين 09 يونيو 2008, 9:23 am | |
| دراسة جميلة جدا .. رحم الله عبد المعطي .. أكن لوفائكم له احتراماً كبيراً .. نادراً ما يتوافر مثل هذا الوفاء في مثل هذا الزمان .. شكراً يا دكتور محمد . |
|
| |
شحاته ابراهيم مشرف قسم شعر الفصحى
عدد الرسائل : 132 العمر : 58 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الإثنين 09 يونيو 2008, 2:03 pm | |
| [ السؤال الذى يفرض نفسه دائما لماذا ننتظر الى ان يموت المبدع ثم نفكر فى تقديره او تكريمه هل المعاصرة والتفصيلات اليومية والخلافات التافهة تستغرقنا عن تقدير بعضنا بالشكل الكافى وننتظر حتى يأتى الموت فيختطف من يشاء فنهرول خلفه بكاء وحزنا ومن ثم تقديرا وتكريما ونقدا ونشرا وربما نصل الى عمل التماثيل......؟ أين يكمن العيب ؟ هل نحن اسوياء ام غير اسوياء؟ ما فائدة ان يتصف الشخص بأنه مفكر ومبدع وهو غارق فى مستنقع تفصيلات الحياة اليومية وتكون ردود افعاله صدى لتقلباتها.........؟ أليس من المهم فعلا ان نحاول الاجابة على مثل هذه التساؤلات البسيطة التى قد يكون فى تفاعلنا مع اجاباتها ونتائجها تأسيسا وترسيخا لحياة اكثر عمقا ونضجا........ تحياتى لك الشاعر محمد ربيع على ما تبذله فى هذه الدراسات والببلوجرافيا عن عبد المعطى ورحم الله عبد المعطى واسكنه فسيح جناته | |
|
| |
د. مصطفى عطية جمعة مشرف قسم دراسات وآراء في النقد الأدبي
عدد الرسائل : 183 العمر : 55 الجنسية : مصري تاريخ التسجيل : 08/06/2008
| موضوع: رد: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الإثنين 09 يونيو 2008, 10:01 pm | |
| أخي الحبيب د. محمد ربيع هاشم سلام الله عليك دراسة رائعة منك ، تلك التي جمعت ما بين الذاتي المتمثل في علاقتك الخاصة مع محمد عبد المعطي - رحمه الله رحمة واسعة - ، وبين رؤاك النقدية حول ما طرحته عن عالم عبد المعطي الشعري وعلاقة منجزه الإبداعي في دوواينه القليلة بشخصية عبد المعطي الثائرة المعطاءة . وقد تتبعت في دراستك هنا التطور الإبداعي والرؤيوي والجمالي لمسيرة عبد المعطي ، وأرى أنه دراسة متكاملة ، توثق وتعمق المزيد عن عالم عبد المعطي . شكرا لك وتقبل محبتي | |
|
| |
دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الإثنين 09 يونيو 2008, 10:29 pm | |
| الأديبة الرقيقة قصيدته الوردية أشكر مرورك وكلماتك الودودة الجميلة مثلك تقديري واحترامي | |
|
| |
دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الإثنين 09 يونيو 2008, 10:30 pm | |
| الحبيب إلى قلبي القاص الأديب عصام أشكر كلماتك الجميلة وحضورك الرائع تقديري واحترامي | |
|
| |
دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الإثنين 09 يونيو 2008, 10:30 pm | |
| الشاعر الحبيب شحاتة أشكر مرورك العبق وكلماتك الحقيقية المعبرة جدا ، والتي لابد من تفعيلها بيننا على الأقل تقديري واحترامي | |
|
| |
دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: رد: محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا الإثنين 09 يونيو 2008, 10:31 pm | |
| الحبيب إلى قلبي دكتور مصطفى بداية أرحب بك لانضمامك لأسرتك واخوتك هنا في منتدى فضاء الإبداع الذي اكتسب بوجودك ناقدا ناضجا متخصصا سيثري كل الإبداعات بقلمه وفكره وموهبته الجميلة وأحب أن انوه أن الدراسة ليست لي إنما للأستاذ الدكتور مجدي أحمد توفيق ناقدنا الرائع عن عبد المعطي وما دوري هنا إلا النشر فقط لها دمت اخي متوهجا وفاعلا تقديري واحترامي لك | |
|
| |
| محمد عبد المعطي من الثائر الحالم إلى بائع الروبابيكيا | |
|