يوميات امرأة عربية في باريس
الغرب .. وصدمة المتناقضات
محمود رمضان الطهطاوي
(( باريس مدينة الجن والملائكة )) على حد تعبير بطل (( الأديب )) لطه حسين ، وأشهر من كتبوا عن باريس هو الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي في أوائل القرن التاسع عشر ، ومكث في فرنسا خمس سنوات من ( 1826- 1831م) ، وكتب كتابه الشهير (( تلخيص الإبريز في تلخيص باريز )) ،وفيه يصف الحياة في فرنسا ويتحدث عن تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية ويسهب في كثير من الموضوعات والمشاهدات .
ويعتبر كتاب الطهطاوي فريدا من نوعه ،ولم يشتهر كتاب عن نفس الموضوع بنفس الدرجة ، وإن كان كثير من الأدباء تأثر بالوجه الثقافي الحضاري لفرنسا ، فيعد رحلة الطهطاوي الشهيرة إلى باريس ، توالت الرحلات وكثرت المؤلفات ، فكتب طه حسين روايته (( الأديب )) وتوفيق الحكيم كتب (( عصفور من الشرق )) ، وسهيل إدريس كتب روايته (( الحي اللاتيني )) ، وغيرهم .
الكاتبة السورية (( هدى الزيني )) تواصل مسيرة الانبهار بتلك المدينة الساحرة التي يحج إليها المبدعون من كل صوب وحدب ، تشدهم الحياة بها بكل متناقضاتها ، حلوها ومرها ، فماذا أضافت هدى الزيني إلى رصيد المبهورين ؟ إنها في كتابها (( يوميات امرأة عربية في باريس )) الصادر عن مشروع مكتبة الأسرة بالقاهرة (( 2001م)) هذا العنوان اللافت الذي سرعان ما يذكرنا بتوفيق الحكيم وكتابه (( يوميات نائب في الأرياف )) فالاثنان يبدآن بتلك المفردة (( يوميات )) ولاعلاقة لليوميات بالمحتوى ، فيوميات نائب في الأرياف رواية تحمل حدثا ، أما يوميات امرأة عربية في باريس فهي مجرد مذكرات / مشاهدات ، وإن كان الجزء الأخير المعنون (( وجوه من باريس )) يحمل لنا حكايا وقصصا تقترب في البناء من أسلوب القص ، ولكن المذكرات لاتزيد عن كونها تسجيلا للواقع المعاش بشكل سردي لا يرقى إلى تقنية الرواية / القصة بشكلها الحالي وإن جاءت لغة الكاتبة سردية وتحمل حبكة تقترب من القص .
والكاتبة لا تشير من قريب ولا من بعيد عن متى كانت الرحلة ؟ ومتى عادت ؟ وكم استغرقت ؟ فقدت التأريخ الذي هو جوهر اليوميات ، وإن كان القارئ سيدرك من خلال القراءة أن الرحلة كانت في السنوات الأخيرة من القرن الواحد والعشرين .
هدى الزيني تقدم لنا تجربتها ، تجربة جريئة طموحة ، وكما تقول في يومياتها : (( إنها بداية السفر ، وبداية الغربة لامرأة عربية أرادت ان تشق طريقها في عالم الغربة ولا تملك من سلاح سوى الإرادة والطموح اختارت باريس لأنها مدينة ذات عوالم غنية بالفن والفكر والثقافة وعمق التجربة الإنسانية )) ص13
تتميز اليوميات بأنها تعطينا صورة رائعة للمرأة العربية / الشرقية ، التي تواجه ذاتها ومجتمعها وتعيش في بيئة مختلفة ومغايرة تماما لواقعها العربي ، وتبرهن لنا كيف تستطيع أن تتكيف وأن تتعايش في بيئة متحررة من كل القيود وتحافظ على شرقيتها وعاداتها وتقاليدها العربية / الشرقية / الإسلامية ، وسط هذا الخضم المتناقض ، وسط هذا الصراع الجاذب ، إنها مغامرة تستحق التوقف عندها ، بما تحمله من دلالات ورؤى ، وروح المغامرة ، وما تجسده من صراع داخلي تمتزج فيه دواخل المرأة الشرقية بما تعانيه من تلك الوحدة ، الغربة ، الحرية المنفتحة ، التناقض .... الخ .
هذه المفردات تبرزها الكاتبة بوعي أو بدون عبر يومياتها ،وهي تمتطي المدينة (( الحلم التي تملأ مساحات عقلي )) ص7 على حد قولها .
متاعب الرحلة
في السفر فوائد جمة ، ولكن فيه متاعب كثيرة ، سنتوقف أمام متاعب هدى الزيني قبل أن نلج فوائد رحلتها الباريسية ، وهي تدرك تماما المتاعب قبل حدوثها فقد حذروها والرحلة مجرد فكرة ولكنها أصرت على خوض التجربة (( سأصمد )) وقفت هذه الكلمة سامقة تتحدى كل التحذيرات ، وتبدأ مشاق الرحلة منذ هبوطها من الطائرة والبحث عن سكن فتسكن في غرفة متواضعة في فندق فقير ثم في استديو متواضع ، وفيهما لا تشعر بطعم الاستقرار ، وتعيش على الوجبات السريعة الرخيصة حتى لا تفقد ما معها من مال ، فقد جاءت لتدرس في السوربون – كما طه حسين – وتعمل حاضنة أطفال لتستطيع تكملة دراستها .
وتواجه إعصار الحياة ، وتقف شامخة متحدية الأعاصير ، فها هو صديق عربي تتعرف عليه على المقهى ولكن سرعان ما يطلب منها أن يتناول معها القهوة في بيتها ، تصدمها كلمات الرجل ومداعباته السخيفة ودعوته الماجنة ، وتتساءل : (( لماذا طلب مني هذا الرجل أن أتخلى عن شرقيتي وأصولي . وتربيتي التي شربتها من لبن أمي ،وتعرفت على خطوطها في المدرسة والحارة والمجتمع لماذا لم يمدجسور الألفة بيننا . ونحن كغرباء بحاجة لبعض ... من أجل أن نزيل عن كاهلنا مرارة الحياة اليومية التي يعيشها الجميع بلا استثناء الباريسيون والغرباء )) ص49
واستطاعت أن تعبر عن هذه اللحظة القاسية التي تجسد صلابة المرأة العربية / المثقفة بعنوان هذا المقطع اللافت من اليوميات (( كبوة الفارس عند أعتاب امرأة شرقية )) ، ربما هذه الصدمة التي جعلتها تكتب بوعي أو بدون المقطع الثاني : (( مساءات باريس والضياع العربي )) ، لتقدم لنا من خلاله صورة لهذا الترف العربي في باريس في مقابل العمالة العربية المشردة ، تعبر عن هذه المفارقة في كلمات موجزة ترسم صورة هذا الوجع / النقيض : (( أموال العرب تبعثر على موائد اللهو المجاني بإباحية وإسراف ، بينما يسقط العمال العرب المهاجرون تحت أنياب الآلات الشرسة وفي فك العنصرية والتهميش من اجل لقمة العيش الغموسة بالدم وملوحة العرق )) ص54
باريس عالم المتناقضات
تقدم لنا الكاتبة لوحات باريسية تحمل تناقضات ومفارقات عجيبة ، باريس العلم الجميل مدينة الفن والثقافة والحرية ، فيها من الغرائب والعجائب الكثير ، تسجله عين الفنانة / الصحفية ، الباحثة عن الجديد والمبهر والمتعب ، فتذكر أن (( الكلب في باريس مدلل ، وإمبراطور وهو دائما على صواب ، وهناك صالونات تجميل لقص شعر الكلاب وتقليم أظافرها ، وبوتيكات لأدواتها ولعبها وأطعمة خاصة ينتجها (( 34)) مصنعا مخصصا لها يقدم بمعدل (( 500)) ألف طن من الطعام سنويا ، وتذكر الإحصائيات أن عدد الكلاب في فرنسا يشير إلى معدل كلب لكل خمسة أشخاص ، أي يصل عدد الكلاب حوالي 8 ملايين ككلب ، و6 ملايين قطة .
وتحكي لنا الكاتبة عن جارتها الفرنسية التي تبالغ في تدليل كلبها إلى الحد أنها صادقتها وتدعوها لتناول فنجان قهوة في منزلها بمجرد أن ربتت على كلبها , تخبرها أنها تبحث لكلبها عن عروس ، وبالفعل تدعوها لحضور هذا العرس بعد أن وجدت العروس سليلة الحسب والنسب .
وتقدم لنا لوحة أخرى من لوحة المتناقضات الباريسية ، وهو عالم (( الكلوشار )) وهو فئة من البشر ترفض كل الانتماءات ، (( هؤلاء البشر يعيش في دواخلهم هاجس الخوف والاغتراب والانتماء ... فالمجتمع والوطن لم يقدم لهم في النهاية سوى زجاجة خمر رخيصة ... ومستقبل غامض بلا ملامح )) وهؤلاء الكوشار يتواجدون في محطات المترو والأنفاق ، وفي الطقس الدافئ يتواجدون في الساحات العامة يتسولون الفرنكات ليشتروا بها زجاجات الخمر ، و(( تلجأ البلديات الباريسية إلى جمعهم قصرا وبالقوة في حافلات خاصة لتجبرهم على حمام ساخن خوفا من أن ينقلوا الجراثيم إلى الآخرين )) ص 68
هم خليط من البشر العجيب وتروي الكاتبة قصة أحدهم نقلا عن رواية صديق (( عرف عنه أنه كان رجلا غنيا .. لكن اسلوب الحياة المادية الملئ جعلته يفضل أسلوب الحياة المادية جعلته يفضل أسلوب الحياة البهومية المليئة بالحرية بلا قيود ولا ضوابط ... قال الصديق : (( أنظر إلى هذه العصا التي أحملها .. إن في داخلها مجموعة من النقود الذهبية من نوع (( نابليون )) تكفيني كي أعيش أفضل حال وأهنأ بال حتى نهاية العمر .. ولكن أنا سعيد بحياتي هكذا إنسان حر قبل كل شئ )) ص71
إنها متناقضات الحياة الباريسية بكل ما فيها من متعة .. جنون .. صخب .. حرية .
تواصل الكاتبة / الشاهدة ، إظهار المتناقضات ، فتقدم لنا صورة للوجه الآخر لباريس في الليل ، فتصور لنا المشهد بتكثيف قصصي : (( القلب الباريسي لا يهدأ عن الحركة ليل نهار ، لعشاق السهر حيث تتشابك الأحلام الرومانسية مع الأجواء الصاخبة )) ص 75.
هذا القلب يسع جميع المتناقضات ، من شارع الشانزليه العريق بمقاهيه التي يحتشد فيها العرب بصورة لافتة ، إلى حارات ( بلفيل ) وكر العصابات والعاطلين .
أعياد فرنسية
حتى الأعياد شاذة وملفتة ، فيها من الجنون الكثير ، إنهم يعبرون عن لحظات المرح والسعادة بطريقتهم الخاصة ، فتحدثنا الكاتبة عن أحد الأعياد : (( مع بداية فصل الربيع من كل عام ، يعيش الفرنسيون عيدا دينيا يسمونه بالفرنسية (( المارديفرا)) وبالعربية (( الثرثاء المدهن )) ... هذا العيد الفرنسي هو يوم شقاوة باريسية يخرج فيه الشباب من حياتهم الجادة إلى العبث والتنكيل بالعباد من المارة الذين يتحولون إلىهدف حي لقذائف صاروخية تطالهم من حيث لا يعلمون ... في هذا النهر الصاخب تتحول الفترينات الأنيقة إلى حالة يرثى لها من الوساخة )) ص 85 ومابعدها