د. مصطفى عطية جمعة مشرف قسم دراسات وآراء في النقد الأدبي
عدد الرسائل : 183 العمر : 55 الجنسية : مصري تاريخ التسجيل : 08/06/2008
| موضوع: قصيدة ودراسة : قراءة في قصيدة : " صلاة في رواق جدتي " للشاعر محمد نديم الإثنين 09 يونيو 2008, 6:44 pm | |
| قصيدة ودراسة : بقلم / د. مصطفى عطية جمعة قراءة في قصيدة : " صلاة في رواق جدتي " للشاعر محمد نديم الإيمان المفعم يعطر الجماليات النصية
إن أبرز ما يميز المذهبية الأدبية الإسلامية كونها رافدا أساسيا مع المذاهب الأدبية والاتجاهات المؤدلجة للأدب والثقافة ، التي تنطلق – في جلّها - من فلسفات بشرية تقرأ الكون والحياة ، وتتنوع من أقصى اليسار الاجتماعي (الواقعية الاشتراكية نموذجا ) إلى أقصى اليمين الفردي ( مثل البراغماتية الفردية) ، وبين هذين البعدين المتطرفين ، نرى الفلسفات العقلية والرومانسية . إلا أن المنظور الإسلامي للأدب واضح في كونه نابعا من تشريع سماوي واضح العقيدة ، شامل التصور ، عميقه ، يجمع الفردي والمجتمعي ، الإنساني والكائني ، الأرضي والسماوي . ومن أبرز إشكاليات الأدب الإسلامي أن الكثيرين ربطوه بالتقليدية ممثلة في: الاتجاه العمودي في الشعر ، ومضامين الدين ، والمباشرة الخطابية التي تتغلب على الجماليات النصية ، مما يؤثر بشكل ملحوظ على البنية وفنية العمل الإبداعي. ويجعل الأمر كله ، ضمن دائرة الدعوة أكثر من دائرة الأدب الجمالي الجاد ذي الرسالة الإنسانية الخالدة . ويمثل الشاعر محمد نديم نموذجا للمعادلة الصعبة : شعر ذورؤية إسلامية بجماليات نصية مميزة ، مع سعي إلى التناول الشمولي لقضايا الزمن والإنسان والإيمان بآليات جمالية جديدة . ومن أجل تعميق الفرضية المتقدمة ، يفضل أن تتركز العين على نص واحد : بالدراسة الجمالية ، بالتحليل والتأويل للمعطيات النصية في ضوء رؤية الشاعر النابعة من التصور الإسلامي . وإليكم النص المنشور في منتدى " مرافئ الوجدان " الإلكتروني ، تعقبه الدراسة النقدية :
" صلاة في رواق جدتي " وجئت إليك بشوق الغريب إلى موطنه . وفي غفلة من ذنوب ثقال ... دخلت الرواق .... لأبدأ بوحي بالبسملة. وفاتحة لانبثاق البنفسج فوق شبابيكه المقفلة . فأسهب عند التقاء الحنين بأرض الجدود ... على عتبات الجنون يراوح قلبي في عشقها . هناك ... وبين كروم النخيل ... ابتهلت ... ذكرت التلاوة عن ظهر قلب .. وما قد تلوت ... وما قد حفظت. وإني رضعت .. حليب الحكايات في قصة للهوى شادية : عروس الضفاف ... وفارسها للوحته الشموس . . فطار إليها جناحا .... وزهوا ... هناك على شرفات الحنين صحوت ... وها قد وعيت ... حروف النداء ... التي .. قد كتبت .. ودرس البطولة. وتحت عباءاتك الدافئات .... غفت وردة القلب ..... حتى روتها الحكايات تنهل من كفك الحانية . هناك إذا النهر يفتح سفر النماء ... ليقرأ فيه دعاء الحفيد لكل الذين سقوا نخلته ... فها أنا ذا قد أضأت الحنين إليك نجيما.. به أهتدي . وها أنا ذا قد شببت فتيا على الحزن في مواويلك المبهجة . حفظت بعيني بوح الدموع .. وتسبيحة الوجد عند السجود ... ورفرفة القلب حين استهام بحب النقاء ... وصفو الغناء ...وشقشقة الفجر فوق المروج ... وثرثرة النهر عند الحقول وزقزقة الطير عند الإياب ...... لتهجع في العش تطوي الجناح ... على رزقها الثر في الحوصلة. وها أنا ذا قد مللت التجول في وحشة المدن الفاجرة. .وجئت إليك أيا موطني. دخلت الرواق .... لأبدأ بوحي بالبسملة. فأبحرت في همهمات الصلاة ... وطرت إليك جناحا ... وزهوا وفوق النخيل ... استحال الفؤاد إلى تمرة للهوى مشتهاة . وها قد طويت , وشاحا نسجت , إلى القلب مشمشة في الربيع... وفي وهدة البرد شمسا حنونا ... وعشبا يضوع بذكرى حديثك , عند المساء , وبسمة وجهك رغم الصبابة والمسألة
************************ إنها رؤية إسلامية للذات الإنسانية في لحظات تجل مع الله ، وما أكثر ما يحتاج المرء إلى هذه اللحظات ، حين يتخلص من بشريته وأرضيته ، فيسمو بفؤاده عاليا ، وهنا السمو تمثل في ولوجه رواق الجدة ، حيث نجد أنفسنا أمام حالة روحية نابعة من المكان ؛ فهي روحية في استحضارها السجود والتسبيح والدعاء، ومكانية في رواق الجدة ، ورغم أن دلالة المكان لم تظهر إلا نزرا يسيرا في النص ، فإنها ظلت حاضرة في الهامش النصي بفعل عنونة النص بها ، فالعنوان يمثل نوعا من الاستباق المضموني لجو النص ، وهو وإن كان ملخصا للتجربة الشعرية ، إلا أنه يعطينا إشارة مكانية وزمانية : المكانية في دخول رواق الجدة ، والرواق في حد ذاته ، يشير إلى تداع مكاني قديم ، ذلك أنه مرتبط بجزء من أجزاء المنزل العربي القديم الذي هو مؤلف من : رواق (ساحة ) وغرف وغالبا يكون في الرواق أركان ، يفضل الأجداد الجلوس فيها ، مستمتعين بالشمس الدافئة المتسربة من فتحات السقف المكشوفة في الشتاء ، أو بنسمات باردة في الصيف ، ويكون الرواق موطن معيشة كاملة للجدة : صلاة وطعام ومسامرة وهجوع أحيانا . ربما غابت هذه الصورة الآن ، ولكنها حية في أعماق من عاصر البيوت العربية القديمة . وفي هذا النص تبدو الذات الشاعرة مهيأة للولوج ، ويبدو أنه ولوج نفسي وليس حركيا ، فقد غابت تفاصيل الحركة الجسدية ، لتفسح المجال للحركة النفسية ، يقول : وجئت إليك بشوق الغريب إلى موطنه . وفي غفلة من ذنوب ثقال ... دخلت الرواق .... لأبدأ بوحي بالبسملة. وفاتحة لانبثاق البنفسج فوق شبابيكه المقفلة . فأسهب عند التقاء الحنين بأرض الجدود ... على عتبات الجنون يراوح قلبي في عشقها . إن الذات الشاعرة تعمدت الحركة النفسية في النص ؛ يقول :" جئت إليك بشوق الغريب " فالشوق : نفسي ، وغفلة الذنب : قلبي ، والبسملة : قولي قلبي ، فالألفاظ النفسية غالبة على المطلع ، لتجعل الرؤية من الأساس فؤادية ، حتى تجذب الروح لما هو آت . المكان تحورت دلالته ليدخل في منحى التراث والحضارة الإسلامية ، فلم تعد الجدة خاصة بالذات ، ولا الرواق مكان خاص ، وإنما هو مرتبط بجموع المسلمين وأمجادهم ، وبالتالي : أصبحنا أمام فضاء نصي جمع : الخاص والعام في بنية واحدة ، ولا نستطيع أن نفصل الرواق المكان الخاص عن تداعيات المنجز المعماري الإسلامي العام ، المعبر عن أحد صور الحضارة الإسلامية ، بكل قيمها السامية المنعكسة في المعمار . وتأكد ذلك بقول الشاعر: " فأسهب عند التقاء الحنين بأرض الجدود ..." فأرض الجدود مكان عام ، يقابله الرواق الخاص ، والجدود جمع عام يشي بكل الموروث الإسلامي والعربي من الأجداد ، ويخص الجدة للذات المبدعة . . ، وهذا ما ذكره لاحقا : " على عتبات الجنون يراوح قلبي في عشقها " الجنون لفظة نفسية ، تشير إلى تخبط الذات البشرية في عنفوان الحياة ، ولكن القلب عاشق لعتبات الرواق ، ومشتاق للاستكانة العاطفية في هذا المكان . ونقف عند صورة : على عتبات الجنون يراوح قلبي في عشقها ، فهي صورة شديدة الروعة ، فقد عبرت عن حالة من الوجد والحب النابعين من الإيمان وحب الجدة ، وما أروع الإضافة في عتبات الجنون ، ثم ذكر القلب بعدها ، لأن هذا تحويرا غير مألوف فالجنون عقلي ، وهنا جاء قلبيا ليؤكد أنه ليس جنونا بل حبا قلبيا وعشقا . وتستوقفنا كذلك الصورة الشاعرية : " وفاتحة لانبثاق البنفسج فوق شبابيكه المقفلة". الرواق مكان مغلق ، يتوسط الدار ، حوله الغرف ، وفي جوانبه الشبابيك المغلقة ، واللون البنفسجي يدلنا بوضوح على الزجاج الملون بالأزرق الفاتح الذي كان سمة للنوافذ في المساجد والبيوت الإسلامية قديما ، ولكن الدلالة تتحول في هذه الصورة من البنفسج اللوني إلى الإيماني النفسي ، فصار البنفسج ضوءا يرمز للإيمان القلبي الوالج عبر شبابيك الرواق ، ومن ثم يدخل الرواق ذاته . يقول مسترجعا ذكرياته الخاصة مع جدته : هناك ... وبين كروم النخيل ... ابتهلت ... ذكرت التلاوة عن ظهر قلب .. وما قد تلوت ... وما قد حفظت. وإني رضعت .. حليب الحكايات في قصة للهوى شادية : عروس الضفاف ... وفارسها للوحته الشموس . . فطار إليها جناحا .... وزهوا ...
المقطع السابق : دال بوضوح على خصوصية علاقتك مع الجدة ، وما فيها من تلاوة وقص وتشبع بالقيم ، فهو ذاكرٌ التلاوة لآيات القرآن الكريم ، وفي نفس الوقت يستمع الحكايات التي تخطت حدود التشويق للطفل ، لتكون ممتزجة في تكوينه ، من خلال الإشارة بلفظة " الحليب " الذي هو مكون للطفل منذ نعومته ، ويخص الحكايات بالفارس ، والعروس ، وهي من أبرز تيمات حكايات الطفولة ، فالفارس غازٍ مجاهد ، والعروس رمز للحب العفيف الذي يجاهد الفارس لنيله . هناك على شرفات الحنين صحوت ... وها قد وعيت ... حروف النداء ... التي .. قد كتبت .. ودرس البطولة. وتحت عباءاتك الدافئات .... غفت وردة القلب ..... حتى روتها الحكايات تنهل من كفك الحانية .
هنا صوت الحفيد الذي يؤكد أنه وعى الدرس ، وشب حافظا له ، ملتزما به ، التزام القلب ، والسلوك وشرفات الحنين إضافة دالة على الجدة التي لم نتعرف ملامحها الجسدية ، وإنما ملامح نفسية مؤثرة في حياة الشاعر وتكوينه ، هنا نجد نظرة الشاعر وهو كبير السن ، إلى ذاته الصغيرة ، وكيف أن هذه الذات وعت البطولة والعزة ، وهذا يجعلنا ندرك الإحالة الخاصة ، لتكون الدلالة عامة للأمة المسلمة وماضيها التليد ، وما بين الخاص والعام ، تكون الذات عظيمة الاعتزاز ، ويبدو هذا في الإلحاح على ما هو نفسي : " وردة القلب" ، ذو العلاقة بالجدة ؛ " تنهل من كفك الحانية " ، والحنو لازمة من لوازم الجدود مع الأحفاد ، وأيضا هو لفظة نفسية موصولة بالإيمان ، فالمؤمن حان القلب ، ليس غليظه . و يقول : استحال الفؤاد إلى تمرة للهوى مشتهاة . وها قد طويت , وشاحا نسجت إلى القلب مشمشة في الربيع...
صورة عظيمة الإيحاء ، عظيمة التركيب ، تشي ولا تصرح ، وهي في كل هذا تؤكد على أن الحفيد سائر على الدرب . وإن كنت أرى حذف " إلى " بعد الفؤاد لأن الفعل متعد ، وستكون الصورة أبلغ ، وما أجمل إضافة التمرة للهوى ، والقلب المشمشة ، إنها صورة النبات التي تضاف إلى القلبية والروحية : تمر ومشمش . والتمر عميق الصلة بالنفس العربية ، فهو مكون من مكونات الغذاء العربي ، وهنا يصبح مكونا نفسيا من خلال إضافته إلى الفؤاد ، ليكون التوغل عميقا شاملا الجسد ( الغذاء ) ، والفؤاد ( الروح ) .
وفي وهدة البرد شمسا حنونا ... وعشبا يضوع بذكرى حديثك , عند المساء , وبسمة وجهك رغم الصبابة والمسألة
صورة رائعة جمعت التناقض الحسي: البرد / الشمس ، البسمة / المسألة وهو تناقض نفسي بالأساس ، مرتبط بالحركة النفسية في النص التي تعتمد المقابلة بين حالة ما قبل دخول الرواق ، وما بعد الدخول ، فشتان في النفس ما بين الحالتين ، وجاء ختام النص معبرا عن هذه المقارنة من خلال الإحساسات الجسدية المباشرة مثل البرد وهو يساوي خمود القلب إيمانا ، ضد الدفء ، وهو يساوي تجدد الإيمان القلبي . والبسمة وهي أمارة في الوجه تدل على الراحة النفسية النابعة في القلب ، وفرق بين البسمة الدالة على الصفاء والضحك الدال على التصنع ، كما أن فعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عند السرور التبسم لا الضحك . أما المسألة فهي دالة على ذل الدنيا التي تقتضي من العبد السؤال . إن هذا النص جمع الحسنيات : تجديدا في الشكل الشعري على مستوى البنية الإيقاعية ، وعلى مستوى الصورة والرمز واللونية والحسية ، وعلى مستوى الدلالات اللفظية المبدعة الموحية ، بجانب رؤية إسلامية ضافية صافية ، نابعة من العمق ، فهو نموذج للأدب ذي التصور الإسلامي . | |
|