عدد الرسائل : 460 العمر : 51 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
موضوع: مقطع من "أسوار" رواية محمد البساطي الجديدة الأربعاء 18 يونيو 2008, 6:33 pm
المرة الأولي التي أدخل فيها السجن كنت في العاشرة. اصطحبني أبي وكان حارسا هناك. أحواض الزهور علي شكل مربعات تمتد علي جانبي المدخل. صفراء. بنفسجية. حمراء، يتوسطها حوض علي شكل مثلث من الزهور البيضاء، يشرف عليها مسجون يضع دائما سيجارة خلف أذنه وأخري مشتعلة في فمه. يعطيهما له كل صباح كما سمعت رائد السجن، وحين أشرفت مدته علي النهاية بدأ يتبعه مسجون آخر تميزه السيجارة التي يضعها خلف أذنه. سرت مع أبي حتي الحاجز الذي يفصل السجن عن المعتقل. أعمدة حديد طويلة مغطاة بشبكة من السلك. ألمح من ثقوبها المعتقلين يرتدون ملابس بيضاء وشباشب في أقدامهم. كانوا نظيفين حليقي الذقن بخلاف المساجين، وكان أبي استأذن ضابط المعتقل بأن يسمح لأي من المعتقلين بشرح دروسي. قال له الضابط: عندك. اختار. زميل لأبي قام بالاختيار. قال: هو أصلا مدرس في الجامعة. وضحك في وجهي: مدرس خصوصي. عشنا وشفنا.! كان يوم جمعة. فرش زميل أبي جوالا في ظل شجرة. ووقفا غير بعيد. جاء المعتقل. كان في عمر أبي، له ذقن صغيرة مدببة ويلبس نظارة. ألقي نظرة عابرة علي كتاب المطالعة وسألني كثيرا من الأسئلة عن مقرراتي الدراسية الأخري، وما أفعله طول اليوم في المدرسة والألعاب التي أحبها. حتي أصحابي سألني عنهم. وعاتبني لأنني لا أستحم إلا مرة واحدة في نهاية الأسبوع. الاستحمام لابد أن يكون كل يوم بعد العودة من المدرسة، وأشار إلي قدمي وكعبيها السوداويين. كان صبورا علي أخطائي الكثيرة في القراءة، أعطاني واجبا، قال أنه سيراه المرة القادمة. كل يوم جمعة أمضي مع أبي إلي السجن، نشق طريقنا وسط زحام الزائرين المتجمعين أمام البوابة. للمعتقل بوابة خاصة من الجهة الأخري. خالية دائما. غير أن أبي كان يفضل البوابة التي اعتاد عليها، وحراس الباب الذين عاشرهم طويلا، كانوا يوقفونه ويتبادلون بعض النكات ثم نواصل طريقنا. ويوما نسيت أمي أن تدمس الفول ليلة الجمعة. أيقظني أبي باكرا لأشتري الفول. المحل هناك أسفل مبني المحطة. بجواره بقالة ومقهي. كنت أقترب من بائع الفول حين لمحت من يشير إليّ. كان علي ما يبدو واحدا من زوار السجن الذين يأتون باكرا في القطار وينتظرون بالمقهي لحين موعد الزيارة. اقتربت منه. نهض وأخذني من ذراعي. أشار إلي كرسي بجواره: اقعد اشرب كوكاكولا. لا أشربها. طيب عصير؟ ولا عصير. أنت ابن الأنباشي؟ آه. ابنه. شفتك بتدخل معاه. إيه رأيك لو تكسب جنيه ويفضل السر بينا؟ ازاي؟ تأخذ جواب لواحد جوه. مسجون؟ آه مسجون. المساجين كتير. أعرفه ازاي؟ أي واحد منهم وهو يوصله له. كده صح. وآخذ الجنيه؟ ولو جبت رد منه تاخد جنيه تاني. وأجيب الرد ازاي؟ اللي تديه الجواب. قل له يجيب الرد. ماشي. وأجيب الرد هنا؟ حاتلاقيني قاعد في نفس المكان ده. ترددت قليلا. سألني: إيه؟ أنت حاتزوره. إديه الجواب. شوية بس اللي بيدخلوا زيارة. والباقي يمشوا. كذا أسبوع موش عارف أشوفه. كنت أعرف ما قاله. سألته خشية أن يكون في الأمر ما يريب. وارتاح بالي. وارتاح أكثر حين رأيت البعض من زبائن المقهي جذبوا مقاعدهم إلينا، وهمسوا للزبون أنهم أيضا يريدون أن يرسلوا، والزبون رمقني متسائلا. نظرت إليهم واحدا واحدا، وقلت: ماشي. الجواب بجنيه والرد بجنيه. واتفقنا أن أذهب لشراء الفول وأمر عليهم في عودتي وآخذ الجوابات. في البيت أخرجت سبعة جنيهات. وضعتها أمام أبي وأنا أكتم زهوي. حين عرف الحكاية قال: أقعد. قعدت بجواره. أمسك بالجوابات وقلبها في يده. كانت مغلقة. تحسس ما بداخلها. وأرشدني إلي ما أفعل. ما أن دخلنا السجن حتي أفلت يدي ومشي إلي مربعات الزهور. كان يكلم المسجون الجنايني ويشير بيده إلي الزهور البيضاء، ثم عاد. وقف يكلم حارسا قرب البوابة، ومضيت إلي مربعات الزهور. المسجون الجنايني كان منحنيا وظهره لي. سحبت الجوابات من الفانلة الداخلية وأسقطتها في الفوطة المفرودة بجوار يده. لفها ودسها في جيبه. قطف زهرة صغيرة بنفسجية ومدها لي. قال في صوت خافت وهو يشير إلي الزهور: حا يقابلك وأنت راجع ومعاه الرد. أومأ خفيفا نحو المسجون الذي يدربه. وقد كان. مضيت بالردود إلي الزوار. كانوا ينتظرون في المقهي. يوقظني أبي باكرا كل يوم جمعة. أمضي لشراء الفول. كثر عدد الزبائن. وصل إلي خمسة عشر. الجوابات يدسها أبي تحت فانلتي الداخلية قبل خروجنا. تناولت أخيرا وجبة البيض بالبسطرمة التي كنت أتشوق لها. وجيلاتي أيضا. أجحضر علبة منه عند رجوعي بالفول. اشترت أمي قماشا لجلبابين لها. وزاد نصيبي من اللحم والفراخ أثناء العشاء. وبدأ أبي يتنازل لي من وقت لآخر عن الكبدة والقونصة حين تضعهما أمي أمامه أثناء الأكل. قبل ذلك كان يتغافل عن رغبتي فيهما. أحيانا تكون الطيور في غداء الجمعة وأجد أبي يزفر من حين لآخر. تمتد قدمه تحت الطبلية باحثة عن قدم أمي. أسحب قدمي بعيدا عن مسارها. كنت كبيرا بما يكفي لأعرف ما يجري. وأري أمي ترتشف معلقة الشوربة مسبلة عينيها وتجفف جانبي فمها بلقمة عيش. يتنهد أبي بعمق بعد الأكل مسترخيا بظهره، يسلك أسنانه بنتفة من الحصيرة. وتقول أمي بصوت كالغناء: خلصت علي الحصيرة. يرد لاعقا شفتيه: نجيب غيرها. وقبل أن يأمرني بالخروج لشراء حاجة أقول أنني ذاهب لشراء عود قصب من عند المحطة. ويقول: مصه هناك. المصاصة بتوسخ البيت. يدخل حجرته أخيرا وأنا مازلت بحجرة القعاد. وتمضي أمي إلي الحمام. أسمعه بعد قليل يناديها من الحجرة. ترد عليه: أيوة يا حاج جاية. هو لم يحج. تطربه الكلمة. وأتخيله راقدا في السرير يهز قدميه المتعانقتين. باب حجرتهما لا يغلق من الداخل. ترباسه مكسور. سنتان وأكثر وهو يقول أنه سيصلحه. أسمع صوت أمي الهامس: إيه يا حاج. الواد لسه ما خرجش. البسي القميص الأحمر. كل مرة الأحمر. أشتري واحد تاني يساعد معاه. ويسكتان. هما ينتظران أن يسمعا صوت خروجي. أفتح الباب الخارجي وأغلقه ورائي. ويوما سمعته يقول لها: الشيخ النهاردة بيقول.. شيخ مين؟ شيخ الجامع اللي في السجن. بيعمل درس للمساجين كل أسبوع. قال لهم لا تنكحوا علي امتلاء. كنت في حجرتي. سمعت الكلمة وكتمت الضحك. أمي سألت: وبيقول الكلام ده ليه؟ مسجون سأله عن أنسب وقت للعملية. ويتكلم في الحاجات دي؟ من أول درس له يكلمهم عن جهنم وعذاب النار، واللي بيشوفه أهلها. الواحد منهم بعد ما يتحرق ويبقي فحم ربنا سبحانه يحييه تاني عشان يعذبه. والمساجين يسمعوا الكلام ويروحوا في النوم. هو متربع علي دكة وهم مقرفصين علي الأرض يعلو شخيرهم. نمشي بينهم ننخسهم، يصحوا شوية وبعدين يناموا. قلت للشيخ ما تشوف موضوع تاني للدرس. فكلمهم عن النسوان. النسوان. يا خبر. بيقول إيه؟ ياما قال. عايزة تعرفي ليه؟ آهو. أعرف. ما أنت عارفة كل حاجة. إيه يا حاج. ومين يعني اللي عرفني؟ الشيخ قال الكلام ده وأنا بعد الدرس سألته: إيه العيب في أنه يكون علي امتلاء؟ قال لي مكروه. وأنا قلت بأمارة إيه مكروه؟ أنا بحب أعمله علي امتلاء. قال أن كل ما هو ضار مكروه. والنبي شيخك ده ما فاهم حاجة في الدين. أنا كمان بحب علي امتلاء. أمشي في السجن غير خائف رغم الحكاوي التي سمعتها عن المساجين من أبي وأولاد الحراس الآخرين. أحس زهوا حين أري هؤلاء الخطرين يلتفتون لينظروا نحوي وأنا أسير خلف أبي، لا تبدر منهم تحية ما _ بعدها بسنوات فهمت أنه قد يساء تأويلها _ تخيم عليهم لحظات سكون وانفراجة خاطفة تلين معها وجوههم الجامدة وكأن في مشيتي بالبيجامة ما يذكرهم بالشوارع. ويوما كنت مع أبي في نفس المشية، كان يتقدمني، مال مع نهاية العنبر ليسير إلي الجانب الآخر في اتجاه الحاجز الذي يفصلنا عن المعتقل. كدت أتجاوز باب العنبر المفتوح عندما كتمت يد فمي وأحاطت ذراع بوسطي وجذبتني إلي داخل العنبر. أطبق فم علي فمي يلعقه في عنف. كنت أزوم وأعافر، ثم أطلقتني اليدان، ولمحته يعدو مبتعدا داخل العنبر. اندفعت خارجا أمسح فمي بكم البيجامة لأزيل الرائحة الكريهة. جريت إلي أبي، ثم أبطأت متلفتا حولي. لا أدري ما جعلني أخفي عن أبي، وكنت حريصا بعدها أن أجاوره أثناء مشينا في السجن. ### خلفت أبي في السجن بعد إحالته للتقاعد. حين أيقن من فشلي في التعليم أخرجني من المدرسة. وحتي بدون فشلي ما كان راتبه يتحمل نفقات التعليم في الجامعة. سعي في مصلحة السجون لتعييني في نفس السجن مثل آخرين من أبناء الحراس القدامي، وظل عاما بعد التقاعد يتردد علي السجن، يلبس البالطو الذي تزوج به فوق جلباب ويقعد مع زملائه السابقين خارج البوابة. يحدق في وجوه الزائرين، ربما ليري إن كانوا يتذكرونه. وجاء يوم أصابه الخبل. لم يأت المرض فجأة. كنت في مشاغلي لا أنتبه إليه. أمي قالت باكية: والنبي كنت حاسة من وقت أنه موش هو اللي أعرفه. لحق باثنين آخرين من الحراس المتقاعدين كانا من جيراننا وفي نفس الحالة. يمشي الثلاثة بملابسهم الميري متجاورين وسط البلوكات كما اعتادوا وقت أن كانوا في الخدمة، يقصدون الخلاء حيث تتجمع أشجار فوق ثلاثة تلال متجاورة. لا أحد يدري ما يفعلونه هناك. البعض كان يلمحهم وهم يعدون بين الأشجار وصياحهم يترامي إلي البلوكات. والبعض قال أنهم كانوا يلعبون ما يشبه لعبة الاستخفاء. ثم ينفرد كل منهم بتل فلا يراهم أحد، ويتنادون مقلدين أصوات الحيوانات. كان خبلهم ودودا. غير خطر، نوبات من المرح الصاخب، مندفعين لا ينتبهون لما حولهم. ساروا يوما وراء امرأة زميل لهم كان أصغر منهم سنا ولا يزال في الخدمة، كانت في طريقها لبيت جارة في نفس البلوك، تلبس جلباب بيت ضيق يبرز مؤخرتها الثقيلة، راحوا خلفها يحاكون مشيتها. مد واحد منهم يديه يوقف رجرجة المؤخرة وتبعه الآخران. المرأة صرخت وهم صرخوا. خلعت فردة الشبشب وسعت لضربهم، وقفوا ساكتين ينظرون إليها. أمسك زوجها يدها المرفوعة وقد جاء جريا علي صراخها، وزعق: حا تضربي مين يا بنت الكلب. سحبها في عنف من ذراعها وسط دهشة الواقفين، وكانوا علي ما يبدو يتوقعون منه غير ذلك. تحرك الثلاثة وراءهما. وجوههم غير حليقة، علق بشعرها نتف من أوراق الشجر الجافة، وملابسهم الميري ملطخة بالوسخ، التفت زميلهم ويده لا تزال ممسكة بامرأته، هز رأسه وابتسم خفيفا. وقفوا يبادلونه النظرات، حاولوا أن يتكلموا، مرة وأخري، أفواههم مفتوحة، ووجوههم محتقنة، ثم خرجت أصوات أشبه بالمأمأة. سكتوا. استداروا مبتعدين. من يومها أصابهم الخرس. يقفون ساعة العصر كل علي تل في مقدمة الأشجار. يلقون بنظراتهم تجاه البلوكات والسجن، يقذفون بقطع الحجارة، يرقبونها تتدحرج قليلا ثم توقفها الرمال. تعجبهم اللعبة فيقعدون ويبحثون عن الحجارة حولهم، ينزلقون من فوق التلال ليجمعوا ما قذفوه من حجارة ويصعدون بها. يغادرون التلال مع الغروب بعد أن يطلقوا ما سماها البعض صيحة الحرب، وقد تسلح كل منهم بفرع شجرة وخلع حذاءه الميري وعلقه علي كتفه. يمشون متجهمين مشدودي القامة وكأنهم في طابور التمام. يأخذون دورة حول سور السجن بصياحهم المتقطع الشبيه بالمأمأة، ربما كانوا ينادون زملاء لهم بالخدمة، بعدها يتجهون إلي مبني المحطة. كان هناك من يصيح بأسمائهم بعد أن يمروا ولا يلتفتون، وعربات تمضي بين مباني البلوك اختصارا للطريق، تطلق التنبيه ولا يلتفتون، هم في مشيتهم يتهامسون وقد اقتربت رؤوسهم، ويضطر السائق للنزول ويوقفهم بجوار الحائط حتي يمر. ويظلون في وقفتهم حتي بعد أن ابتعد. ويلمحهم واحد صدفة ويقف ليكلمهم. ينصتون له قليلا ثم يواصلون طريقهم. ### يوما هبطوا من التلال، واتخذوا طريقهم المعتاد إلي المحطة. كانوا يمشون بجانب السجن وفوجئوا بالمأمور أمامهم. كان خارجا في طريقه إلي السيارة التي تنظر والسائق بجوار بابها. رآهم وتمهلت خطوته، ربما لم يعرفهم، غير أن ملابسهم الميري لفتت نظره. وجهه جامد لا يفصح، استقرت عيناه علي الأحذية المدلاة من فوق أكتافهم. اندفع السائق نحوهم ملوحا بيديه ليبعدهم. نظروا إليه وعادوا بنظرتهم إلي المأمور. وقفوا متجاورين وقفة انتباه ورفعوا أيديهم بالتحية العسكرية. اقترب المأمور منهم وسأل الأول عن أسمه. كان أبي. مأمأ وسكت. تقدم السائق وقال أنهم لا يتكلمون. بحث المأمور في جيوبه، بدا أنه لم يجد ما يبحث عنه، كانت علبة السجائر في يده، مدها إليهم. تراجعوا، مدها أكثر، تراجعوا مرة أخري، ثم استداروا مبتعدين. صدر أمر المأمور بعدها بمنعهم من ارتداء الملابس الميري لما يلحق بها من مهانة. كما أنه لا يجوز لهم استخدامها بعد التقاعد. أخفت أمي الملابس. بحث عنها أبي في أنحاء البيت. وأكون غادرت إلي السجن، ينتابه الغضب ويقلب المقاعد ويرمي المراتب والمخدات، أحيانا يعثر عليها، وأحيانا تعطيها أمي له وقد خشيت من بعثرة كل شيء. من يجد بدلته يذهب لمساعدة زميليه، مقتحما البيت الآخر ويشارك رفيقه في البحث، ينحيان المرأة جانبا حين تحاول ايقافهما. في النهاية يمضي الثلاثة بملابسهم الميري في جولتهم. الأوامر أوامر. جمعت وابنا زميليّ أبي ملابسهم الميري ووضعناها في كومة خارج البلوك ورششنا عليها قليلا من الجاز وأشعلنا فيها النار بحضور الثلاثة الذين تحلقوا حولها ينظرون في فضول إلي اللهب، ويتابعون موجات الدخان تتصاعد وتحلق. ورأوا الملابس تتحول إلي مزق سوداء. تبعونا في صمت إلي البيوت. ومن كان يظنهم بهذا الذكاء؟ اختفت بدلة لواحد من جيراننا كانت منشورة علي حبل غسيل خارج النافذة الأرضية. ارتفع زعيق امرأة الجار في الشارع. لم تتهم أحدا بالسرقة. ومن يسرق بدلة ميري؟ بعد يومين اختفت بدلة جار آخر من الغسيل أيضا. لم يرتفع زعيق هذه المرة. وقبل أن ينتبه أحد إلي ما قد يفعله الثلاثة اختفت البدلة الثالثة. ورأيناهم وقد عادوا إلي ارتداء الملابس الميري في تجوالهم. واحدة منها كانت ضيقة علي صاحبها، ترك الأزرار مفتوحة. وأين ما كانوا يلبسونه؟ عثر عليها واحد متناثرة بين الأشجار فوق التلال الثلاثة. حين خلعوها في الليل أخذناها _ وكانوا يخفونها تحت المرتبة التي يرقدون فوقها _ وأعدناها إلي أصحابها وأخبرناهم بذلك. استمع أبي لما أقوله وعيناه تنظران إلي النافذة، ثم تركني إلي الفراش. يومان، ورأيناهم بالملابس الميري مرة أخري، ولم يعلق أحد من الجيران عن فقد بدلته، بعدها أخبرني واحد من حراس بوابة السجن أنه من أعطاهم البدل بعد أن طلبوها منه. بدل قديمة جاء بها من المرتجع في المخزن، وطلب مني ألا أتكلم حتي لا يبلغ الخبر المأمور فيبطش به، ورجاني أن أترك أبي في حاله فهو لا يؤذي أحدا. ماتت أمي في هذا الوقت، ربما من حسرتها. كانت تنتظر عودته في الليل. تحممه وأسمع بكاءها في الحمام، وتطعمه بيدها وهي تغني له، تمسح ما يسيل من فمه. عيناه علي وجهها لا تفارقانه، وعندما تتلفت علي صوت أو باحثة عن شيء يميل رأسه لينظر معها، وتصحبه إلي الفراش وتحتويه بذراعيها. يستكين في حضنها ويروح في النوم. حين يتأخر في الخارج أكثر من اللازم. أمضي مع زميليّ للبحث عنهم. عادة يقعدون علي دكة من الخشب في نهاية رصيف المحطة بعيدا عن أضوائها، ينظرون إلي القطارات تأتي وتتوقف وتنطبق، ويمر عليهم بائع القصب. ونراهم وقد أمسك كل منهم عودا يمصه، وعند أقدامهم كوم كبير من المصاصة لابد أنها تخلفت من عدة عيدان. حين يلمحوننا يتوقفون عن المص، يرمي كل منهم ما تبقي من عوده ويقفون كالمذنبين، ثم يتبعوننا، يتهامسون فيما بينهم بأصوات لا نفهمها. وقبل أن نغادر مبني المحطة نمر علي بائع القصب الذي يكون في انتظارنا، يرد لنا الساعات التي أعطوها له مقابل ما أخذوه من عيدان، وندفع له ثمن القصب ونمضي. ويوما كانوا يلهون علي قضبان السكة الحديد بعد مص القصب. الوقت ليل، والمحطة تكاد تخلو، اثنان علي دكة في الطرف الآخر أخذهما النعاس. ابتعد الثلاثة. بلعتهم الظلمة، يتردد صدي ضحكاتهم، واحد منهم يمشي بين القضيبين، الآخران سار كل منهم علي قضيب يبدل بقدميه مستندا علي كتف الأوسط الذي راح يطلق صوتا أشبه بصفير القطار، والقطار قادم من ورائهم وضوؤه يبدد العتمة، كانوا يمرحون وقد ضاعت أصواتهم وسط الضجيج المقبل. أيام قليلة بعد رحيلهم وظهر الخبل علي واحد من المتقاعدين الجدد، لم يكن مضي علي تقاعده أكثر من ستة شهور، وتبعه ثلاثة آخرون كانوا يمشون في البداية بين البلوكات مترددين، يتلفتون كثيرا حولهم وكأنهم لم يروا المكان من قبل، وكل يمسك بيد الآخر، ثم عرفوا طريقهم إلي الأشجار فوق التلال، ويقال أنهم عثروا هناك علي آثار من سبقوهم. حبل مشدود إلي فرع شجرة في شكل أرجوحة، ثلاث حفر عميقة متجاورة كالخنادق بداخلها بقايا أكل عفن كانوا يأخذونه علي ما يبدو من البيوت قبل انطلاقهم في الصباح ويحشون به جيوبهم. هتف مأمور السجن مشدوها حين سمع بخبرهم: إيه الحكاية؟ وقال: والهدوم الميري؟ اخلعوها المرة دي. ويوما كنت واقفا بساحة السجن أرقب بعض المساجين يتهامسون فيما بينهم، ورأيت زميلي عبد الستار يمشي علي مهل وبيده أوراق إخلاء الطرف حيث كان ينهي إجراءات إحالته إلي التقاعد. تصفح الأوراق مرة أخري، ودقق النظر في بعضها. بدا كأنما يكلم نفسه. نظر إلي قرص الشمس الساطع. نظر طويلا رغم حدة الضوء، ثم التفت ورآني. تأملني قليلا وسار نحوي. وقف لحظة ساكتا. ثم سألني: والدك فين؟ والدي؟ انتبهت. رحت أنظر إليه. قال: زمن طويل ما شفتوش. وجهه هاديء. ساكن. عيناه فقط تتحركان كثيرا، ينظر لكل ما حوله في وقت واحد. قال: آه صحيح. ليه لأ؟ أطرق ساكنا. يتأمل حذاءه. قال: واحدة أكبر من التانية. ربنا خلقني كده. حاقول له إيه؟ خذها وهات واحدة مقاس التانية. مايصحش. يزعل. قلت يا عبد الستار تعال علي نفسك. أحط خرقة في الفردة قدمي تستريح. وآهي ماشية. امسك دي. مد لي الأوراق. ترددت. قال بحدة: امسك. ومسكتها. تركني ومضي. ناداه نقيب المعتقل وكان يقف قريبا: عبد الستار؟ لم يلتفت. ناداه مرة أخري. ظل في مشيته متجها إلي البوابة. الحارس هناك، نظر إليه والتفت إلي النقيب، كان حائرا، تراجع خطوه مفسحا لعبد الستار. بلغني بعدها أنه لحق بالأربعة.