هذه آخر الأرض!
لم يبقَ إلا الفراق
سأسوي هنالك قبرا،
وأجعل شاهده مِزقةَ من لوائكَ،
ثم أقول سلاما!
زمن الغزوات مضي، والرفاق
ذهبوا، ورجعنا يتامى
هل سوي زهرتين أضمهما فوق قبرك،
ثم أمزق عن قدمي الوثاق
إنني قد تبعتك من أولِ الحلمِ،
من أول اليأس حتى نهايتهِ،
ووفيت الذماما
ورحلت وراءك من مستحيل إلي مستحيل
لم أكنْ اشتهي أن أري لونَ عينيك،
أو أن أميط اللثاما
كنت أمشي وراء دمي
فأري مدنا تتلألأ مثل البراعم،
حيث يغيم المدى ويضيع الصهيل
والحصونَ تساقط حولي،
أصرخ في الناس! يوم بيومِ،
وقرطبة الملتقي والعناق
آه! هل يخدع الدمج صاحبه
هل تكون الدماء التي عَشقَتْك حراما!
تلك غرناطة سقطت!
ورأيتكَ تسقط دون جراحِ،
كما يسقط النجم دون احتراق!
فحملتك كالطفل بين يدي وهرولت،
أكرم أيامَنا أن تدوس َ عليها الخيول
وتسللت عبر المدينةِ حتى وصلت إلي البحر،
كهلا يسير بجثةِ صاحبهِ،
في ختام السباق!
مَن تجري يحمل الآن عبءَ الهزيمةِ فينا
المغني الذي طاف يبحث للحلم عن جسدِ يرتديه
أم هو الملك المدعي أن حلمَ المغني تجسَّد فيه
هل خدعت بملكك حتى حسبتكَ صاحب المنتظرْ
أم خدعت بأغنيتي،
وانتظرت الذي وعدتْكَ به ثم لم تنتصر
أم خدعنا معا بسرابِ الزمان الجميل؟!
كان بيتي بقرطبة،
والسماء بساط،
وقلبي إبريق خمري،
وبين يدي النجوم
صاح بي صائح: لا تصدٌِق!
ولكنني كنت أضرب أوتارَ قيثارتي،
باحثا عن قراره صوت قديم
لم أكن بالمصدق، أو بالمكذٌِبِ،
كنت أغني، وكان الندامى
يملأون السماء رضا وابتساما!
والسماء صحاري،
وظهر مدينتنا صهوة
والطريق
من القدس للقادسية جد طويِل
قلت لي:
كيف نمضي بغير دليل
قلت:
هاكَ المدينةَ تحتكَ،
فانظر وجوهَ سلاطينها الغابرينَ،
معلقة فوق أبوابها، واتقِ الله فينا!
كنت أحلم حينئذي
كنت في قلعة من قلاع المدينةِ ملقي سجينا
كنت أكتب مظلمة،
وأراقب موكبكَ الذهبيْ
فتأخذني نشوة ، وأمزق مظلمتي،
ثم أكتب فيك قصيدة
آه يا سيدي،
كم عشنا إلي زمن يأخذ القلبَ،
قلنا لك أصنْع كما تشتهي،
وأعدْ للمدينة لؤلؤة العدلِ،
لؤلؤةَ المستحيلِ الفريدة
صاح بي صائح لا تبايعْ!
ولكنني كنت أضرب أوتارَ قيثارتي،
باحثا عن قرارة صوت قديم!
لم أكن أتحدث عن ملِكي،
كنت أبحث عن رجل،
أخبرَ القلب أن بأمته أوشكت،
كيف أعرف أن لدي بايعته المدينة،
ليس الذي وَعَدَتنا السماء؟!
والسماء خلاء
وأهاج المدينةِ غرقي يموتون تحتَ المجاعة
ويصيحون فَوْق المآذن
أن الحوانيتَ مغلقةْ
وصلاة الجماعة
باطلة، والفرنجة قادمة
فالنجاءَ النجاءْ!
ووقفت على شرفات المدينةِ أشهدها،
وهي تشحب بين يديْ كطفل،
ويختلط الرهَج المتصاعد حول مساجِدها
بالبكاء
وأنا العاشق المستحث قوافيَّ من يوم أن وجلِدْتْ،
واستدارت علي جيدِها وسوسات القلادة
تهت فيها، وضاع دليلي
يا تجري هل هو الموت؟
هل هو ميلادها الحق؟
من يستطيع الشهادة
أنا لا!
لم أكن شاهدا أبدا
إنني قاتل أو قتيل!
محتج عشرين موتا،
وأهلكت عشرين عمرا،
وآخيت روح الفصول
تتوارى عصوركم وأظل أغني لمن سوف يأتي،
فترجعك قرطبة وتجوز الشفاعة
صاح بي صائح: أنج أنتَ!
ولكنني كنت في دمِ قرطبة أتمزقْ
عبرَ المخاض الأليم
كنت أضرب أوتار قيثارتي،
باحثا عن قِرارة صوتي قديم
صِحْتَ بي أنتَ..
هل كنتَ أنت؟!
آه! لا تسألوني جوابا،
أنا لم أكن شاهدا أبدا
إنني قاتل أو قتيل
وأنا طالب الدمِ،
طالب لؤلؤةِ المستحيل
كان بيتي بقرطبة
بِعت قيثارتي، ثم جزت المضيق
قاصدا مكة، والطريق
رائِع.. كنت وحدي وكانت بلاد دليلي
وكان محمد فوق المآذن يمسك طرف الهلال
وينير سبيلي
ويوقف خيل الفرنجِة
يمسخها شجرا أخضرا في التلال!
إنني أحلم الآنَ.
بيتي، كان بغرناطة
بعت قيثارتي، واشتريت طعاما
ورحلت إلي بلدي لست أدري اسمها،
جعت فيها
وانضممت لطائفة الفقراء بها،
واتخذت إماما
هل هو الوحي؟
أم أنه الرأي يا سيدي والمكيدة.
هل أمرنا بأن نرفَع السيفَ؟
أم نعطَي الخدْ؟
هل نغصب الملكَ؟ أم نتفرق في الصحراء؟!
ولقيتك، أنتَ الذي قلت لي:
عد لغرناطة، وادع أهل الجزيرةِ أن يتبعوني،
وأحيِ العقيدة!
إنني أحلم الآنَ.
لم تأتِ
بل جاء جيش الفرنجةِ
فاحتملونا إلي البحر نبكي علي الملك.
لا، لست أبكي علي الملك،
لكنْ علي عمر ضائعي لم يكن غيرَ وهمي جميل!
فوداعا هنا يا أميري!
آن لي أن أعودَ لقيثارتي،
وأواصل ملحمتي وعبوري
تلك غرناطة تختفي
ويلف الضباب مآذنَها
وتغطي المياه سفائِنَها
وتعود إلي قبرِكَ الملكي بها،
وأعود إلي قدري ومصيري
من تجري يعلم الآن في أي أرضي أموت؟
وفي أي أرض يكون نشوري؟
إنني ضائع في البلاد
ضائع بين تاريخي المستحيلِ،
وتاريخَي المستعاد
حامل في دمي نكبتي
حامل خطئي وسقوطي
هل تجري أتذكر صوتي القديمَ،
فيبعثني الله من تحت هذا الرماد
أم أغيب كما غبتَ أنتَ،
وتسقط غرناطة في المحيط!
سبتمبر 1971