. الروح في المعتقدات الفرعونية
الحيزوم الحضاري منقول
أودّ التعرّض في هذا البحث إلى مسألة الرّوح و النفس. و تعرّضي لهذه المسألة سيكون من خلال تعامل العقل البشري معهما. سأحاول التوقّف على المسافة بينهما لأرى إذا ما يمكن اعتبارها مسافة زمنية أم أنّها في الحقيقة مسافة حياتيّة؛ و هل أنّ التعرّض لهذه أو تلك، في تاريخ البشرية كان محاولة للفهم و التفسير فقط،أم أنّه يخفي دوافع أخرى؟ وهل أنّ الحديث عن الروح قديما مخالف لحديثنا عن لنفس اليوم؟ أم أنّ الحديث عن هذه و تلك هو مجرّد تعبير عن حيرة أعمق، ولكن لكل ّعصر أدواته و إمكانيّاته وكذلك لغته...للتعبير عن حيرته و الإنسان بتناولهما أو بالتفريق بينهما لم يضف لإنسانيّته شيئا يذكر؟ أو بالعكس هل مكّن هذا التمييز بينهما من توضيح عدّة جوانب لم يكن لنا أن نكون على بيّنة منها لولا هذا التجديد؟ أم هل أنّ المصطلحات هي التي تغيّرت و تطوّرت وبقيت المضامين و بالتالي الحيرة نفسها؟
سأبدأ بمحاولة فهم الدوافع التي تقبع وراء حرص الأوّلين على الاقتراب من الروح؟و ما السرّ في دفن اللاحقين لها و حملهم لواء النفس؟ و ما السرّ كذلك في " إعطاء" النفس لغير العاقل؟ لأنّه كما هو معلوم أصبح من المسلّم به في الغرب وجود النفس عند الحيوان...
وأصبحت نفسية الحيوانات تدرس و فتحت العيادات لذلك..بطبيعة الحال العقل الذي لا ضوابط له لا يعرف حدودا...فأصبح اليوم الحديث عن نفس النبات، فهذا يتحدّث على نفسية الأزهار و الآخر على نفسية الأشجار الخ...
إذن سأتابع هذه الرحلة التي بدأت مع الأديان و مرّت بالفلسفة وانتهى بها المطاف مع علم النفس المخبري و التحليلي.
1. الروح في المعتقدات الفرعونية
الاهتمام بالروح سواء عند الفراعنة أو عند الهندوس كان متعدّد الأبعاد. لكنّ الفكر البشري ببعديه الوجداني و العقلي، في انبلاجه الأوّل ركّز على الروح، فتعرّض لها، محاولا معرفة طبيعتها و كذلك كيفية نزولها من الأعلى إلى الأسفل و أعطى أهميّة خاصة تقريبا لمعراجها....من الأسفل إلى الأعلى أي مفارقتها للجسد الذي تسكنه و صعودها إلى الأعلى...
و هذا الجانب الذي سأركّز عليه أكثر من الجوانب الأخرى في بحثي هذا.
إنّ تركيز الفكر البشري على الروح ككل و على صعودها، لا بدّ أن تكون له دلالة و هذا ما نستشفه مثلا من اعتناء الحضارات الفرعونية بتحنيط الأموات...فتحنيطهم للجثث يحمل في طيا ته عدّة اعتبارات في اعتقادي؛ لأنّه لا يعقل أن لا يقصد بهذه التهيئة إلا الاحتفاظ بالجثث إلى غاية "عودة الروح" لها فقط؛ ولا أظنّ أنّ رجل الدين الفرعوني لا يعطي أيّ اعتبار لصعودها و لا يهمّه إلاّ عودتها، و إلاّ أين ينزّل الحساب الذي تتعرّض له الروح، روح الميّت؟ فالروح حال مغادرتها للجسم تمرّ بمحطّتين على الأقلّ: محطّة قريبة، الأعلى القريب نجد فيه بجانب الإله فرعون آلهة المقاطعات المصرية، و من هنا تهيئة الأموات لا يمكن أن لا تحمل في طيّاتها قرب الجثّة من روحها أثناء محاسبتها؛ و على ضوء هذا الامتحان الذي يوضع فيه الفرد أمام ميزانه يتقرّر مصيره في المحطّة الثانية: الأعلى البعيد, ففي المعتقدات الفرعونية عندما تفارق الروح Ba الجسد المادي، تلبس جسدا جديدا؛ و هذا أساسي بالنسبة للعقل الفرعوني و العقل البشري عامة الذي لم يرم بعد فكرة التجريد، مثلما سيكون الحال فيما بعد مع الهلينيين. تكتسي الروح في معراجها إذن، ثوبا جديدا أرقى من الجسد المادي الذي ستفارقه: جسد لا يقبل الفناء وهو ما يعرف بالKa و الذي يقابلKhat وهو الجسد المادي (عن الدكتور رؤوف عبيد. الإنسان روح لا جسد ص57.دار الفكر العربي).ويذكّرنا هذا الجسدKa بالجسد الأثيري عند المسيحيين؛ ولكن عند الفراعنة و رغم التباين بين الجسدين فهم لا يعتبرونه مثلما هو الحال عند الهندوس سجنا للروّح، فهو كساء لها، والكساء يمكن أن يكون رقيقا ناعما مريحا فترتاح فيه الروح ولا يمكن أن يكون سرّ سعادة أو شقاء الروح التي يحملها. إذن، إذا لم يكن الجسم البدني سجنا للروح، وليس سرّ سعادتها فما دوره يا ترى؟ دوره كما تقول الديانة المصرية القديمة:"يساعد المتوفى على التحدّث إلى الإله الأكبر: رع...(مهدي فضل الله. بداية النقل بمصر.ص86 دار الطباعة بيروت).
الديانة المصرية القديمة ميّزت بين الأدوار، أدوار البشر و أدوار الآلهة. المصري دوره الاعتناء بالجانب الميّت من الحياة: الجثّة. أمّا الإله الذي هو أصل الحياة فهو يهتمّ بالحياة الحيّة)أي الحياة نفسها(: الروح. فالميّت في حياته يعينه جسمه المادي على التواصل مع أبناء جنسه أصحاب الأجساد الميّتة. أمّا الرّوح»فتكتسي« ثوبها الجديد"ثوب الآلهة التي ستتعامل معهم. هكذا يتعامل المصري مع الرّوح، يفسّر بها ما يصعب عليه فهمه فكما يقول Sully Prud’homme في تعريفه لله:" (اللّه)هو ما ينقصني لفهم ما لا أستطيع فهمه"منقول عن دنيس هويسمان وفارجاس في فلسفةج 2 ص446 .مربو.)
إذن المصري الذي يعيش خوفه الدنيوي من الموت وجد الوسيلة لتجاوز خوفه و خاصة قلقه. لأنّ خوفه العصابي، ليس من الموت في حدّ ذاته بل من تفكّك جسده في المغارة المظلمة التي هي القبر هذا ما لا يتحمّل الحيّ التفكير فيه و بتالي تصوّره. وجد المصريّون الطريقة لتجاوز هذا الخوف وذلك بضمانهم عدم تحلّل الجسم في التراب. فالمحنّط يبقى كما هو...وبذلك تحوّل الخوف من الموت إلى الخوف من الحساب. فالحساب عندهم طريقة للتأكّد بأنّ الحياة تتواصل؛ حيث أنّ الحساب لا يكون إلآ للحيّ؛ و كذلك للجسد بالتحنيط، فكأنّي بلسان رجل الدين المصري يقول:” ممّ تخافون يا ترى؟ “ و هنا لا يخصّ الجواب الأموات فقط بل الأحياء منهم كذلك. " الخوف من فرعون سواء أكنت حيّا أو ميّتا "...و بهذا يكون المصري في حاجة إلى فرعون في حياته و مماته، بمعنى في الأرض و في السماء. و هنا يلتقي رجال الدين المصريين مع معتقد الهندوس الذي يقول بأنّ الكون هو تسبيح من كيان الّله...إذ يتواصل عندهم اللّه و الفرد في هذا التسبيح.