جي دي موباسان أديب فرنسي ( 1850 - 1892 ) ينتمي إلى عائلة نورماندية نبيلة ، ولد والجنون في عقله واستمر بجنونه حتىَ وفاته ، إعتاد مهاجمة القرويين من أبناء جلدته بطريقة متجنية .. رصين في إبداعه ككاتب قصة ، له تأثير فاعل ومؤثر في استحداثها ، وقصته هذه تعتبر واحدة من قصصه الشهيرة وتعتبر دراسة شخصية للحياة النورماندية ، تتبطَّن داخلها السخرية فتزيد من متعة القصة
ترجمة ـ زيد الشهيد :
على امتداد الطرق المحيطة بمدينة " كودرفيل " الصغيرة كان بالإمكان مشاهدة القرويين ترافقهم زوجاتهم متخذين الدرب باتجاه سوق المدينة حيث اليوم الأسبوعي المقرر للتسوق .
يخطو الرجال متثاقلين ، ينوؤن تندفع مقدمة أجسادهم إلى أمام مع كل حركة تؤديها سيقانهم الطويلة ، يبدون مشوهين بسبب الأعمال المجهدة ، وجرّاء المهمات الكبيرة التي تُقض الظهر مجسدة بوضوح حياة الشغيلة الزراعية ..
قد يرىَ أحدهم وهو يجرٌّ بقرةً بحبلٍ بينما زوجته تحثهّا علىَ الجري ممسكة بغصن ما زالت أوراقه عالقة به .. ثمة نساء يحملن سلالاً كبيرة تظهر منها روؤس الدجاج أو البط ، يخطين بخطوات قصيرة لكن جريهن أكثر نشاطاً من الرجال ، أصابعهن النحيلة تلف أرديتهن وترفعها قليلاً عن الأرض.
في ساحة " كودرفيل " ثمة ربكة جليةّ لجموع الحيوانات والناس .. الأصوات الحادة تجعل الضوضاء متواصلة ، بين حين وآخر ترتفع قهقهة صاخبة منطلقة من روحٍ مرح.. رائحة الأبقار النافذة ورائحة الحليب الفاغمة تشيعان ، يمكن تحسسهما عند أولئك الذي يعملون في الحقول .. وكان السيد " هاوش كورن " القادم من " برياوت " قد وصل " كوردفيل " توّأ متخذاً طريقه إلى ساحة السوق عندما لمح قطعة وتر مطاطي صغيرة على الأرض والسيد " هاوش كورن " - شأنه شأن جميع النورمانديين المثاليين يحب إدخار المال قدر ما استطاع ، وله رأي يقر بأنّ أي شيء تجده و تلتقطه من الأرض قد يستفاد منه يوماً ما لهذا إنحنى ولو بصعوبة على قطعة الوتر الصغيرة رافعاً إياها من على الأرض .. وفيما هو يستعد لطويها لمح السيد " مالنداين " صانع السروج يتطلع إليه من باب محله.. كان الاثنان اختلفا مرّة علىَ أمر ولم يعودا يلتقيان أو يتحدثان ، ولم يكن يجد أحدهما نفسه مستعداً لأن يتراجع ويغفر للأخير فعلته الخاطئة .. شعر " هاوش كورن " بالخجل لهذا المشهد ، سيما والذي أبصره يرفع قطعة وتر من أرض قذرة ، هو عدو له ، لهذا وبحركة خاطفة أخفىَ قطعة الوتر تحت ملابسه دسها في جيب بنطاله ، وثم تحرك متظاهراً بالبحث عن شيء ضاع منه ، متخذاً طريقه إلى أمام صوب ساحة السوق بإنحاءةٍ - تفشي سر الروماتزم الذي يستقر في عظامه .. وسرعان ما ضاع وسط الضوضاء وحركة أناس منشغلين بفحص الأبقار يتساجلون في مسألة شرائها، مترددين خشية أن يخدعوا ، غير قادرين علىَ اتخاذ قرار ناجز ، يتفحصون البائع في محاولة إدراك طريقة خداعه أو اكتشاف علل الحيوانات المعروضة ..
النسوة أخرجنَ الدجاج وعرضنهُ الأرض مشدودة السيقان وقد نفر الرعب من عيونها المستديرة الصغيرة فيما أصغت بعض النسوة لمزايدة بعض المتعاملين رافضات الأسعار الهابطة بوجوه صارمة وباردة ، لكنها على نحو مفاجئ وبعدما يتداولنَ الأمر مع أنفسهن يقررن القبول بالأسعار المنخفضة التي عرضت عليهن ، نادهات بالمشتري المتسلل بعيداً .. هيَا خذها ، إن أردت .
وشيئاً فشيئا خف الزحام .. وذهب الذين تنأىَ بيوتهم عن المدينة صوب الحانات بينما تناول أرستقراطي الأرض المحروثة وجباتهم عند السيد " جوردن " صاحب إحدىَ الحانات وتاجر الأحصنة الذي جمع ماله عن طريق الخداع والاحتيال ..
قُدمت صحون الوجبات ، ثم أعيدت فارغة .. تحدث الجلاس عن أعمال أدوّها ، عما اشتروا وما باعوا .. دارت بعض الأسئلة حول الحصاد وتطرقوا إلى الجو الرائق للمحاصيل الخضراء والمضر برطوبته للقمح المزروع ..
وعلى نحوٍ مباغت انطلقت ضربات طبل في الساحة العريضة المواجهة للحانة نهض بفعلها الجلاس بإستثناء القلّة ممن يشعرون أن لا شيء يهمهم ، مندفعين إلى الأبواب والشبابيك ، وافواه بعضهم لما تزل ممتلئة بالطعام .
شرع منادي المدينة بعدما أوقف الضربات على الطبل يقرأ إعلاناً تتخلله توقفات بفعل الأخطاء القرائية ، لذا بدا أن كلّ شيء هراء .. " النداء موجه لكل ساكني كوردفيل ، وإلى العامة الذين أمّوا سوق المدينة .. لقد فقدت هذا الصباح ، في طريق بوزفيل بين الساعة التاسعة والعاشرة " حقيبة جلدية تحوي خمسمائة فرنك واوراق عمل فعلى من وجدها إحضارها إلى مبنى المحافظة لأنها تخص السيد " فورتين هولبرك " وهناك جائزة بعشرين فرنك ستقدم لمن وجدها أو يقدم معلومات عنها ".. بعدها تحرك المنادي ، وصارت ضربات الطبل والنداء يسمعان في أماكن أخرى .
طفق الناس يتناقشون ويتحاورون عن الشيء المفقود ، متساءلين في ما إذا كان السيد هولبرك يمتلك حظاً كبيراً لتعاد إليه محفظته .
حين إنتهى الجميع من تناول الغداء وانفضوا من شرب القهوة فوجئوا بعريف شرطة يدخل وينتصب عند الباب متساءلاً هل من بينكم هورش كورن ؟ - اجاب " هورش كورن " الجالس في المكان المتطرف من البار : - نعم ، أنا هنا .
- تقدم إليه العريف :
هل أنت بحالٍ يسمح لك بمصاحبتي إلى مبنى المحافظة . يود المحافظ التحدث معك .
أندهش الرجل القروي وانتابته حالة قلقٍ .. بعجالةٍ ابتلع شرابه ونهض محني الظهر .. الخطوات القليلة التي خطاها بعد إستراحة سببّت له ألماً ، لكنه أستمر ماشياً يتبع العريف ، مردداً : أناهنا .. أنا هنا .
كان المحافظ بانتظاره ، يضمه كرسيه الوثير ذو المسندين .. لقد سبق لهذا الرجل أن كان محامياً ورجلاً مهمّاً ، مولعاً بنطق اللغة المؤثرة الفاعلة ، القادرة علىَ حسن التكلم .
ياسيد هورش .. قال - لقد شوهدت هذا الصباح تلتقط محفظة السيد هولبرك الضائعة في شارع بوزفيل .
اعترت الرجل القروي دهشة وهو يتطلع إلى المحافظ ، محتسباً أن اشتباهاً قد حصل ، ولكن لا يعرف بالضبط كيف ولماذا حصل هذا الاشتباه ..
أنا ؟ - أنا إلتقطت المحفظة ؟ - نعم أنت .
بشرفي لا أعراف عنها شيئاً ..
لكنك شوهدت ..
ومن شاهدني ..
السيد مالندين : سّراج الأحصنة ..
عندها تذكر الرجل العجوز وفهم .. إحتقن وجهه واحمر .. وبصرخة غاضبة تساءل : - هو شاهدني ؟ هذا الشيطان ؟ ما شاهده ياسيدي هذه قطعة الوتر انظر مدّ كفه إلى عمق جيبه مستخرجاً القطعة الصغيرة .. غير أن المحافظ هز رأسه مبدياً عدم التصديق .
لن تستطيع إقناعي .. لا يمكن لرجل موثوق مثل " مالندين " أن يخطئ في تميز قطعة وتر من محفظة نقود .
استشاط الرجل القروي غضباً : - لكنها حقيقة الرب .. أنها كلّ الحقيقة وليس غيرها . - بعد التقاطك للمحفظة واصلت بحثك في الوحل لبعض الوقت متيقناً انك ستجد نقوداً قد سقطت منها .
الغضب والخوف أخرسا الرجل العجوز للحظة ثم .
بعض الناس لا يتوانون يتكلمون أي شيء على رجل شريف ؛ وجميع ما سمعت ياسيدي كذب .
لم يصدقه المحافظ ، لذا استدعىَ السيد " مالندين " ليعيد إتهامه ويشهد عليه بالعين الباصرة .. ولقد تشاتما وتلاعنا أمام المحافظ ، وفتش السيد " هورش كورن " فلم يعثر على المحفظة لديه .. عندها لم يعرف المحافظ كيف يتصرف ، غير أنه صرف العجوز محذراً إياه بأنه سيرفع تقريراً بالأمر إلى المراجع العليا طالباً الإجراءات.
ولقد أنتشر الخبر سريعاً ؛ وحالما غادر الرجل العجوز مبنى المحافظة حتى أحيط بالناس يتساءلون ويستفسرون ، وهو يقص عليهم حكاية الوتر الصغير أينَ شاهده وكيف التقطه .. غير أن لا أحد صدق قصةً كهذه ؛ بل أندفع الجميع يضحكون ويتفكهون .. وصار حين يسير في الطريق يوقفونه مثلما هو يوقف الأصدقاء شارحاً قصته إثباتا للبراءة ، مظهراً بطانة جيوبه للتدليل على خلوّهما بيد أنهم لا يصدقوه ، قائلين : هراء ! .. مخادع ؟ أنت أيها الشيطان العجوز .
تغيّر طبعه وأنقلب مزاجه .. ولم يعد يعرف ما سيفعل سوى استمراره في قصِّ الحكاية .
حلّ الظلام ، واقترب موعد العودة إلى البيت ، توجَّه مع ثلاثةٍ من جيرانهٍ إلى حيث المكان الذي رفع منه الوتر متحدثاً دون توقف طيلة الطريق يلتقيه هناك ، لكن لا أحد حمل كلامه محمل الصدق .. ليلتها لم ينم .. ظلَّ متخبطاً في براثن القلق .
في اليوم التاليٍ ، وفي تمام الساعة الواحدة ظهراً جاء رجل قروي أسمه " ماريوس " وسلمَّ الحافظة بما تحتوي إلى السيد " هولبرك " معلناً أنه وجدها في الدربّ ولم يعرف عائديتها فسلمها إلى مستخدمه الذي تأخر في إعادتها . أنتشر الخبرٌ سريعاً .. وسريعاً سمه " هاوش كورن " فطفق يلف الدروب معيداً قصته ، مضيفاً لها النهاية ، معلناً ومبرهناً براءته .
ما أزعجني ليس الشيء المفقود بل الكذب الذي قيل .. لاشيء يؤلمك بقدر ما تقع في الملامة بسبب شخص ما قال كذباً عليك .
طوال النهار ظل يتحدث عن قصته ؛ يرويها لكل من قابله ؛ لكل الذين جالسهم في الحانة .. لكل الذين خرجوا من الكنيسة .. استوقف حتىَ الغرباء ليحكي لهم شاعراً بارتياح .. غير أن ما بدأ يؤرقه هو إحساسه بأن الناس باتوا يتسلّون بالإصغاء إليه لكنهم لا يظهرون تصديقاً ، كما صار يسمع همساً يدور من وراء ظهره عن كذب ما يقول .
في الثلاثاء التالية قصد سوق " كوردفيل " لا لشيء إلاّ ليروي قصته.
رأىَ "مالندين " منتصباً عند باب دكانه وما أن مرّ من أمامه حتىَ فجر هذا ضحكة سمعها هورش كورن بكلِّ حواسه .. " لماذا يضحك هذا المتجنّي " : تساءل في سرّه مندهشاً .. أوقف مزارعاً من " كريكتوت " فلم يدعه هذا يكمل قصته ، صارخاً به : " هراء ، أيها الشيطان العجوز ،المخادع " .. ذلك ما جعله يعوم في الارتباك ويتخبط في الحيرة .. يزداد قلقا فينفجر متسائلاً لماذا يدعوه كل هؤلاء بالشيطان العجوز المخادع ، وحين جلس لتناول الغداء في حانة " كورن " صرخ به صاحب الحانة ، بائع الأحصنة يوقفه عن محاولة البدء بالقص " هراء أيها الشيطان العجوز ! أنا أعرف كلَّ إلا عيبك الصغيرة ، ومنها لعبة التقاط الوتر " .
لكنّ المحفظة عثر عليها " .. رد هاوش كورن "
فجاءه الرد أشدّ حدة ! -
إخرس ! .. الرجل الذي أعاد الحافظة ليس بالضرورة هو من وجدها . دهش الرجل العجوز .. أدركٍ أخيراً لماذا لا يزال الناس لا يصدقونه ، بل مازالوا يتهمونه بأنه أقنع صديقاً ما ليأخذ المحفظة ويعيدها .. لقد عزم علىَ الاحتجاج ؛ ولكن كيف يحتج والجميع غرقوا في قهقهاتهم الساخرة .. لهذا عاد إلى بيته ساخطاً ، مشحوناً بالغضب .. كان في أقصى حدود الكآبة .. تذكر أنه في الماضي كان بفضل مكره النورماندي يتمكن من إقناع الآخرين بالأشياء التي يفعلها وقد أشتهر بذلك ، أما الآن فأنه يشعر بعجزه التام عن إثبات براءته وهذا الشك الظالم من قبلهم بحقهِ أحدث جرحاً غائراً في روحه ..
ثم أنه راح يعيد حكايته أينما ذهب ، بل ويزيد عليها فيطيلها بمعلومات جديدة ومستحدثة ، ولم يقدر على أبعاد قطعة الوتر من باله ، والأكثر تعقيداً هو أنّ دفاعه عن نفسه بات اكثر تعقيداً ، وأقلَّ تصديقاً .. " تلك هي الطريقة المتبّعة للكذّابين " هكذا طفق الناس يتفوهون من وراء ظهره .. وهذا ما أحس به فأيقن أن محاولاته في إثبات براءته عابثة لذا بدا أكثر ضعفاً وهزالاً .. يلتقيه الناس فيحثونه علىَ رواية القصة كنوع من النكتة تماماً كما يٌطلب من محارب قد يم سردَ رواية معركة شارك فيها يوماً ..
طار عقله ، وساءت أحواله ، و في أواخر ديسمبر نقلوه طريحاً إلى الفراش ، ثم فارقته الحياة أوائل يناير ؛ لكنه في آخر حمىَ اعترته اعلن محتجاً ، معلناً براءته ؛ معيداً ومكرراً بصوت يعلو :
قطعة وتر صغيرة .. ليست إلاَّ قطعة وتر ، ياسيدي أنظر ها هي !!