ارتدت ثيابًا تكللها الهيبة، رفعت شعرها ولملمته ليجردها قليلا من كونها أنثى، وضعت نظارتها الطبية لتخفي لون الأرق الذي صاحبها منذ قرأت ملف تلك القضية، أمسكت بحقيبتها، تأكدت من وجود ذلك الملف بها، وضعت الحقيبة جانباً، لجأت إلى أقرب مقعد ثم أسندت رأسها وأغمضت عينيها في محاولة لتأجيل تلك المواجهة.
اعتلت منصة القضاء بعد أن رمت بقلبها خارج القاعة، جلست في كبرياء، وزعت نظرات السخط على جميع الحاضرين بالعدل عندما سمعت همهماتهم، تحاشت النظر إلى القفص حيث تجلس المتهمة فلا تفصل بينها وبين الحرية سوى تلك القضبان وكلمة تنطقها شفتا امرأة مثلها .
كانت تتمنى أن تصبح قاضية كوالدها، تحلم بالعدل لكل البشر، تجسد بأسمى المعاني صورة المرأة التي تقف من خلفها حاملة ميزان العدل الذي لا يميل، أرادت أن تحمي كل النساء من مجتمع سيطرت على عقله هرمونات الذكورة فاستحال إلى غابة .
وقف المحامون يتلاعبون بالكلمات، يسردون وقائع تحفظها عن ظهر قلب، يثبت أحدهما الحدث بالأدلة والبراهين ويثبت الآخر العكس بأدلة أخرى وفي النهاية تبقى حقيقة وحيدة، أب قتيل، امرأة شابة متهمة بالقتل، طفلة أودعت إحدى دور الرعاية الاجتماعية وجنين تضمه جوانح امرأة تنتظر حكم بالموت.
أجبرت عينيها على النظر إلى المتهمة وسألتها بكبرياء أن تحكي لها الحدث قبل النطق بالحكم .
أخذت تسرد الوقائع بصوت مرتجف وعينين استوطنهما الهلع بينما سرحت القاضية في المشهد، امرأة شكك زوجها في نسب طفليها وذهبت لتسترضيه فوجدته ينهل من آبار اللذة مفضلاً عليها إحدى جاراتها، وكعادة كل امرأة لم تجد سوى الصراخ متنفساً لصدمتها، هربت الجارة ومارس هو هوايته في التعامل معها كحشرة تنتهي المشكلة دائما بدعسها بالحذاء، لكن هذه المرة رفعت يدها لتدافع عن كرامتها، تدافع عن جسدها الذي تحول إلى مقبرة للمشاعر، وتدافع عن جنين كل ذنبه أنه استوطن أحشاء فتاة مستضعفة.
دماء متناثرة، زجاجة خمر نصف فارغة، جسد مسجى، صرخات طفلة، ويدا أم تلطخت بالدماء، وهمسات عن عشيق خفي ــ لا أحد يعلم من هو أو متى اتخذ تلك الصفةــ هو كل ما تبقى من أنفاس تلك الليله.
كانت تدرك براءتها بحدس الأنثى، ولكن الحدس الأنثوي ليس مصدراً للتشريع لذا لا يعترف به القانون، شعرت بالقهر فكل الدلائل تدينها بقتل الزوج لتنتقم منه.
تصورت نفسها تنطق بالحكم :"حكمت المحكمة حضوريا على المتهمة منى عبد الرحمن بتحويل أوراقها لفضيلة المفتي".
لون ثياب الإعدام الحمراء أثار الذعر في قلبها، طفلها الفطيم يشير إليها ويبكي، تمتمت بضعف "لا يمكن أن يكون ذلك القانون أنثى إنه ككل شيء من حولنا ذكر"
في نهاية الجلسة قرأت الحكم بصوت واثق،تحاشت النظر إلى وجه المتهمة الذي اصطبغ بلون الموت، تجاهلت كل من بالقاعة وهي تمنحها الحرية، وتمنح طفلها الصغير فرصة للحياة بحضن والدته .
بعد أن أفرغت شحنة المشاعر بداخلها، وشعرت بذلك الخدر الذي يعقب الألم الشديد، حانت منها التفاته فالتقطت عيناها قبلة على الهواء أرسلها شخص ما للمتهمة التي غمزت له بعينها ورسمت له أناملها علامة الظفر.