فضاء الإبداع
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فضاء الإبداع

هذا فضاء للجميع فدعونا نحلق معا في أفق الإبداع
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
عصام الزهيري
مشرف قسم القصص والروايات
عصام الزهيري


عدد الرسائل : 460
العمر : 51
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية Empty
مُساهمةموضوع: رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية   رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية I_icon_minitimeالسبت 28 يونيو 2008, 5:38 pm

بعد خمسين عاما في الغرفة 58
رحيل أمير الكسل والسخرية

أحمد ناجي

رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية Xxxx

منذ حوالي السنة نشرنا هنا في أخبار الأدب حوارا مترجما أجرته مجلة لير الفرنسية مع ألبير قصيري، سأله الصحفي كيف تريد أن تموت؟ فقال في الفراش . وهكذا كانت نهاية آخر الكتاب المصريين الفرنكوفيين الكبار، ليحقق ألبير قصيري نجاحا أخر يضاف إلي سلسلة نجاحاته، فمثلما استطاع أن يعيش بالطريقة التي أرادها، مات أيضا بالطريقة التي تمناها.
التقارير تقول أنه قد رحل عن 94 عاما وثماني روايات وعدد قليل من السيناريوهات التي اضطر في فترة لكتابتها لسد حاجته المادية، تقول التقارير أيضا أنه ولد في 1913 في القاهرة، تعلم في مدرسة الجيزويت المسيحية، نشأ في أسرة برجوازية، الأب يعيش علي عائدات أرضه الزراعية ولا يقرأ سوي الجرائد، والأم لا تعرف القراءة أو الكتابة، لكنه عرف طريقه صغيرا إلي الأدب الفرنسي ليتعرف علي بلزاك وموليير وفيكتور هوغو وفولتير، وليقع في حب اللغة الفرنسية التي كتب بها أعماله التي دارت كلها حول قاهرة الثلاثينات والأربعينات كما تخيلها.انضم في الثلاثينات إلي كتيبة الفن والحرية بقيادة جورج حنين، وسار في نفس الطريق المؤدي إلي باريس، والذي سار فيه بقية أعضاء الجماعة، اللذين لم يشعروا بالألفة مع وطنهم الأم خصوصا، بعد مجيء الضباط الأحرار. عاش قصيري منذ عام 1952 وحتي وفاته في الغرفة 58 من فندق La Louisiane وطوال حياته لم يسع إلي أن يمتلك بيتا أو سيارة أو حتي سريرا خاصا، مخلصا فقط للشيء الوحيد الذي يتقنه الكتابة ، ومتغلبا علي احتياجاته الحياتية بدعم أصدقائه المادي والمعنوي، أصدقائه الذين كان معظمهم كتاب كالأمريكي هنري ميلر الذي قدمه إلي القارئ الأمريكي، أو فنانين كجياكوميتي الذين كانوا يهدون لوحاتهم له مجانا، وبخصوص هذا الأمر كان قصيري يقول لو احتفظت بأعمال أصدقائي لكنت الآن مليونيرا لكنه في الغالب كان يبيع اللوحة في ثاني يوم ليأكل ويشرب ويدفع إيجار غرفة الفندق.
لم يعرف عن ألبير قصيري أي انتماءات ايديولوجية أو اهتمامات سياسية، ولم يسبق أن رأي أحدهم اسمه علي أي بيان سياسي، كانت فلسفته ببساطة أن التخلص من طاغية لا يعني بالضرورة القضاء علي الطغيان، اهتمامه الأساسي كان بمظهره وملابسة الأنيقة التي واظب علي ارتدائها، وحتي بعد إصابته بالسرطان وإجراءه لعملية استئصال الأحبال الصوتية، كان يكتفي بربط منديل أنيق علي عنقه لتخبئة أثر الجراحة: أما اهتمامه الثاني فكان النساء وكان منافسه الدائم في ذلك ألبير كامو، ولهذا فقد عاش حياته عازبا ولم يتزوج إلا لفترة قصيري من ممثلة مسرح فرنسية. أما بقية وقته فقد كان يقضيه متأملا الشارع من نافذته أو جالسا علي أحد المقاهي في نفس الشارع، مخلصا لفلسفته التي قامت علي تقديس الكسل والسخرية كسلاح في مواجهة العسكر أو الرأسمالية أو المجتمع الإستهلاكي، أو أي شيء قد يعكر عليه متعة قهوته الصباحية مع السيجارة.
انعكست هذه الفلسفة بوضوح في أعمال قصيري بداية من شحاذون ونبلاء، ومؤامرة المهرجين، منزل الموت الأكيد، كسالي الوادي الخصيب، وألوان النذاله. شخصيات قصيري دائما هم لصوص ظرفاء أو عاهرات أو كسالي، أبطال مهمشين لا يسعون لتغير الواقع أو رفضه بل يبذلون أقصي جهدهم للتمتع بملذات الحياة، لذلك يختار أستاذ علم الاجتماع بطل روايته شحاذون ونبلاء ترك مهنته في السلك الأكاديمي والسكن في مدينة الموتي، والتمتع بملذات حياة الصعلكة والتسكع.
حصل قصيري علي جائزة الأكاديمية الفرنسية للفرانكفونية عام 1990، وجائزة البحر المتوسط عام 0200 وجائزة بوسيتون لجمعية الأدباء عام 2005 عن مجمل أعماله، وترجمت أعماله لأكثر من 15 لغة، لكنه لم يكن راضيا عن الترجمات العربية، ففي رأيه الفقرات التي تم حذفها أحدثت خللا في النصوص لكن روايته الشهيرة شحاذون ونبلاء حولتها المخرجة أسماء بكري إلي فيلم سينمائي في التسعينات، وبعد إعلان وفاته وصفته وزيرة الثقافة الفرنسية كريستين ألبانيل في نعيها بالمبدع الخلاق وأمير من أمراء الأدب الفرنسي، بينما المؤسسة الثقافية المصرية وعلي رأسها مرشح اليونسكو كالعادة لم تهتم.


أخبار الأدب 29/6/2008
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عصام الزهيري
مشرف قسم القصص والروايات
عصام الزهيري


عدد الرسائل : 460
العمر : 51
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية   رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية I_icon_minitimeالأحد 29 يونيو 2008, 12:49 am

بعد أسبوع من غياب ألبير قصيري
نظرة علي صاحب «رجال ينساهم الرب» الذي تذكره الموت أخيراً


سلمى الورداني

رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية K4

شيء ما تغير في حي سان جيرمان دي باري. رجل نحيل صامت هادئ، أنيق، يمشي متجولا بين مباني شارع السين يمازح المارة وأصحاب المقاهي والدكاكين، يطالعهم بابتسامته الساخرة الهادئة. يجلس بقامته التي لم يفقدها الزمن انتصابها علي مقهي فلور الشهير يتناول غذائه. يقيم طقوسه اليومية بنفس الرتابة غير عابئ بالوقت ولا الزمان، كيف وهو صاحب فلسفة الكسل. لابد أن شيئا ما انطفأ يوم اختفي طيف ذلك الرقيق الناحل الرشيق. يوم رحل ألبير قصيري.
قصيري رغم عدم شهرته بين الأوساط الأدبية في مصر والوطن العربي هو واحد من أهم وأكثر كتاب العالم جرأة. ولد في القاهرة في 1913، واحد من أبناء الطبقة البرجوازية المصرية. عاش طفولة رغدة. لم يعمل أحد من أبناء أسرته أبدا، لا أبيه ولا أمه ولا جده. حيث سمحت لهم أصولهم الأرستقراطية المتجذرة بالعيش اليسير من إيرادات أملاكهم. هكذا كان الكسل جزءا من طفولة ألبير. فبحسب قصيري: «حين نملك، في الشرق ما يكفي لنعيش منه، لا نعود نعمل، بخلاف أوروبا، إذ حين نملك الملايين، نستمر في العمل كي نكسب زيادة». تعلم في مدرسة الجيزويت حيث كانت الفرنسية هي لغة البرجوازية القاهرية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. أتقن اللغة الفرنسية في وقت مبكر. وعرف الأدب والفلسفة من كتب إخوته المدرسية، وتعلق بالأدب الفرنسي وسرعان ما تعرف علي كبار الأدباء الفرنسيين مثل بلزاك وموليير وفيكتور وهوجو وفولتير.
في القاهرة انضم القصيري إلي جماعة «الفنّ والحرية» التي أسسها الفنان السوريالي المتمرد جورج حنين. لكنه لم يكتب إلا بالفرنسية، لغته المحببة. كان يصف نفسه بأنه "مصري الروح.. فرنسي الثقافة واللغة".
مجموعته القصصية الأولي "أناس ينساهم الله" كتبها في القاهرة ونشرها في دوريات تصدر باللغة الفرنسية في أربعينيات القرن الماضي. وكانت تلك المجموعة سببا في شهرته في الولايات المتحدة، إذ أعجب بها الكاتب الأمريكي هنري ميللر وساعد في نشرها هناك. كما نشر ديواناً شعرياً بعنوان «لسعات» (1931) في القاهرة.
ترك ألبير مصر إلي باريس بغير عودة عام 1945. هناك تعرف علي كبار الأدباء مثل «جينيه، وغريكو، وجياكوميتي، وفيان، وعلي صديقه الفرنسي الجزائري الأصل ألبير كامو». استقر لأكثر من ستين عاماً في حجرته الفقيرة بفندق لا لويزيان المتواضع بشارع رو دي سين. التي ربما لكسله أيضا لم يفكر أبدا في تغييرها أو حتي في الارتقاء للعيش في مكان أكثر راحة. تلك الغرفة التي لم يحفظ بها سوي ملابسه، إذ لم يملك صاحبنا شيئا غير قطع الملابس التي حرص دائما علي هندمتها وأناقتها.
ومن مدينة النور كتب ألبير أكثر أعماله. كتب عن المهمشين والفقراء والبسطاء. استأثرت ناشرته جويل لوسفيلد بنشر أعماله في فرنسا منها (شحاذون ومعتزون)، و(مؤامرة المهرجين)، و(منزل الموت الأكيد)، و(العنف والوهم)، و(كسالي الوادي الخصب)، وأخيراً (ألوان النذالة) (1999).
تتخذ كتبه دائما من مصر أو من غيرها من البلدان العربية مسرحا لها، تصور التباين الشديد بين الغني والفقر، الأقوياء والضعفاء. وكما كان ينتقد الحياة الاستهلاكية وعبودية الأشياء في حياته كان ينتقدها كتاباته وشخوصه.
كتب عن المهمشين والبسطاء والمومسات الذين عايشهم في القاهرة، مدينته التي ظلت ساحرته وملهمة رواياته. يرصد في أعماله تناقضات المجتمع والصراعات الطبقية، والمشاكل التي أفرزها المجتمع الاستهلاكي الحديث الذي جعل الجميع في لهاث دائم للحصول علي المادة. أهم أعماله «شحاذون ومعتزون» التي ألفها عام 1955 رواية تحكي عن أستاذ جامعي يترك عالمه وناسه بعدما يكتشف أن كل ما قام به في حياته هو هباء، وأن كل ما يقوم بتدريسه هو هراء وبلا جدوي. ترك كل شيء وعاش بعيدا يعاشر اللصوص، والمومسات، والشحاذين. أما «بيت الموت الأكيد» فتصور حالة التناقض، والصراع الطبقي في المجتمع في سكّان عمارة متصدّعة علي وشك الانهيار. وفي «مؤامرة المهرّجين» (1975) ينتقد الأنظمة البوليسية القمعية.
عاش ألبير الحياة التي أرادها لنفسه. هو الصعلوك العاشق للحرية، المتحرر من التملك والمحتقر له. ظل طوال أعوامه بمدينة النور قابعا بفندقه المتواضع بالحي الباريسي، دون أن يفكر في امتلاك منزل خاص، بل دون أن يفكر في امتلاك أي شيء. كان يرتعب من فكرة الامتلاك. تغيرت معالم الشارع والحي والمدينة، ولم يتغير صاحبنا. بقي في غرفته الوضيعة حتي وفاته. لم يغادرها قط لغرفة أو منزلا آخر. عاش نفس التفاصيل، يمارس أنشطته المحدودة، يقرأ الكتب ويكتبها، يتجول في شوارع سان جيرمان دي بريه، يتناول غذائه في مقهاه المفضل.
آمن قصيري بالكسل كفلسفة وجودية شاملة، هو الكسل الذي يعني التأني والتأمل والاستمتاع بالحياة علي مهل. نأي بنفسه عن السباق الذي تفرضه الحضارة الحديثة علي الإنسان الذي أصبح يسعي من أجل حيازة وجمع الأشياء. إنه التأني والبطء بحثا عن الاتقان والجودة. طوال عدة سنوات لم يكتب سوي ثماني روايات. كان يتوقف عن الكتابة أياما بحثا عن كلمة مناسبة أو أكثر دقة، ولم يقبل أبدا أن تكون في نصه كلمة واحدة في غير مكانها. ووفقا لفلسفته الخاصة التي لا تعتبر الكسل رذيلة وإنما هي نوع من التأمل والتأني.
لم يعن الإعلام كثيرا بالنسبة لقصيري، فلم يظهر في التليفزيون أبدا، ولم يقوم بالحوارات الصحفية إلا فيما ندر. ولم يستغل احتفاء العالم بالأدب الفرانكفوري في التسعينيات ليكون هو بطل الإعلام.
وفي عام 1990 حصل قصيري علي جائزة الأكاديمية الفرنسية للفرنكوفونية، وجائزة البحر المتوسط عام 2000 وجائزة بوسيتون لجمعية الأدباء عام 2005


البديل 28/6/2008
[/quote]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عصام الزهيري
مشرف قسم القصص والروايات
عصام الزهيري


عدد الرسائل : 460
العمر : 51
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية   رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية I_icon_minitimeالأحد 29 يونيو 2008, 12:56 am

ألبير قصيري بعد ستين عاما من الحياة في باريس:
لم أغادر القاهرة حتي الآن..مازلت هناك!

حوار : اليت أرميل.
ترجمة : محمد عثمان ، قاص ومترجم من اليمن..

رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية Ab24





في كتبه يمجد البير قصيري الحياة علي النمط الشرقي كما يحياها، هو نفسه، في باريس: حري بنا أن نضحك، وننعم بالوجود، متحررين من كل أشكال التملك، أو الاستلاب. هل ينتمي العالم إلي هؤلاء الذين يستيقظون مبكرا؟ من ناحيته لم ينهض أبدا قبل الظهر...
البير قصيري أديب فريد لم يحدث له أن نشر أكثر من رواية في كل عقد. كل من كتبه بمثابة جوهرة ثمينة تحتفي _في اللغة الفرنسية­ بنمط الحياة الشرقي، تحديدا مصر البؤساء الذين يعملون، في الأرض، متسلحين بالكثير من خفة الدم التي يمكن اعتبارها نوع من الحكمة. الأمر الذي يمارسه، هو نفسه، في باريس سانت جيرما ديه بخي(1). منذ العام 1945 يعيش في فندق لوزيان وطيفه الناحل والرشيق غدا وجها، محبوبا، ويحظي بالتقدير من أهالي الحي. بعمره البالغ اثنين وتسعين عاما يستمر البير قصيري في الخروج، كل يوم، إلي شرفة احد المقاهي حيث يسعه مراقبة مرور العابرين. يبتسم ويمزح، بيديه وعينيه، بما أن الكلام أصبح مستعصيا عليه، عقب عملية أجريت له، وهكذا أصبح من المتوجب أن نقرأ علي شفتيه الكلمات الذي يرفض حلقه أن يتركها تمر. غالبا ترافقه ناشرته وصديقته جويل لوسفيلد.

لقد كان البير كامو هو من نصح ادموند شارلوت بقرأة المجموعة القصصية الرجال الذين نسيهم الرب والتي كانت في أساس مساره الأدبي الفرنسي. عندما عادت جويل لوسفيلد إلي العمل في دار النشر العائلية في العام 1986 قررت أن تعيد نشر هذا العمل الذي اعتبرته احد أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين. اليوم تضع في النور أعماله الكاملة في جزئين دون مراعاة التتابع الزمني، لكن بناء علي حدس نوع من الترابط في الكل. الروايتان الأكثر شهرة وهما شحاتون ومتكبرون والكسالي في السهل البور تدشن كل منهما احد الجزئين بحيث تجذب القاريء إلي اكتشاف النصوص الأقل شهرة مثل منزل الموت الأكيد وهي الرواية الأولي للكاتب، التي ظهرت في مصر في العام 1942، أوألوان النذالة التي انتهي من كتابتها في العام 1999. انه حوار مع مؤلف لم يكف انطلاقا من سانت جيرما دي بخي عن الكتابة عن القاهرة، الإسكندرية ودمياط.
أجريت لك عملية في الحنجرة فلم يعد بوسعك الكلام. كيف تعيش واقع كونك غارقا في الصمت هكذا؟
إذا أجخبرت انه لن يعد بوسعك الكلام بعد الآن فلربما بدا لك ذلك مرعبا وغير قابل للتصور. بالنسبة لي لم يزعجني الأمر البتة. فلم اعد مجبرا علي الرد علي استفسارات الحمقي. الأصل في الأشياء أن نكون علي قيد الحياة: إنها المفخرة الوحيدة التي يعتد بها! بعد العملية التي أجريت لي، وبمجرد أن لاحت علي أولي بوادر النقاهة خرجت، منذ اليوم الأول، إلي الشارع لتناول كأس من القهوة فيما بقي الآخرون في الأسرة مرتدين البيجامات.
أعمالك الكاملة، عبارة عن ست روايات ومجموعة قصصية، ظهرت اليوم في جزئين. انه مصدر أخر للزهو؟
هذا الأمر لايساوي شيئا إلي جانب كونك علي قيد الحياة. مع ذلك فإنني سعيد جدا بذلك. لدي انطباع أنني قلت كل ما كان لدي ليقال. منذ صغري كنت اعرف أن ذلك سيحدث. مبكرا جدا قررت أن أكون كاتبا، مكتشفا هكذا، في الوقت نفسه، مؤلفات موليير، بومارشيه، ستاندال بين الكتب التي كان يمتلكها أخوتي الأكبر سنا. لم اقرأ أبدا أيا من كتب الأطفال. دلفت رأسا إلي المؤلفات الكلاسيكية، وبدأت في الكتابة في سن العاشرة، وفي السابعة عشر نشرت قصصا قصيرة في مجلات قاهرية.
هل تنتمي إلي عائلة مثقفة؟
أبدا ! والدي لم يكن يقرأ شيئا باستثناء الصحف. فيما يتعلق بأمي لم تكن تعرف لا القراءة ولا الكتابة. أنا من كان يقرأ لها ما يذييل الأفلام الصامتة من كتابات حين كنا نذهب إلي السينما. ابواي لم يربياني لهذا السبب أنا ذكي! لم يكن أبي مضطرا إلي العمل. كان يعيش من عائدات أطيانه فيما كانت أمي تمتلك خدما يقومون بالطبخ والأعمال المنزلية. مع ذلك لم يكن لدينا ثروة. ففي الشرق يلزم قدر اقل من النقود مقارنة بالغرب. الثروة الحقيقية هي أن يكون بوسعك العيش بدون عمل: في فرنسا أحس أنني أكثر ثراء بكثير من الآخرين بما أنني احتفظت بهذا النمط الشرقي في تصور الوجود بلا عمل.
مع ذلك أرسلك والداك إلي أفضل مدارس القاهرة.
كان أخوتي الاثنان يتلقيان دروسهما في مدارس الجزويت التي درس فيها عدد كبير من الوزراء. تلقيت دروسي في مدارس دينية مسيحية قبل أن انتقل إلي المدرسة الفرنسية. لقد صرت كاتبا بفضل هذا: لأنني تعلمت الفرنسية. في مصر يعلمون الإنجليزية في المدارس العامة: إنها ليست اللغة التي تولد في المرء الرغبة في الكتابة. منذ وقت طويل وأنا أفضل موليير علي شكسبير.
إذن فأنت تكتب بالفرنسية ولكن، حصريا، حول مصر: في كتبك لم تتحدث أبدا عن فرنسا والفرنسيين.
إنني كاتب مصري يكتب بالفرنسية كما هنالك، بالمثل، كتاب هنود يكتبون بالإنجليزية، علي الرغم من بقاءهم شديدي الارتباط ببلدهم.
هل بقيت مصريا مع انك اخترت العيش في فرنسا؟
لم أغادر القاهرة لكي اهجر مصر. جئت إلي باريس لأن الأدباء المعتبرين كانوا يعيشون فيها. فرنسا بالنسبة لي هي ستاندال، سيلين، مالرو، وأيضا لويس جويو، جان جينييه، جوليان جراك. ليس هنالك أي وجه للمقارنة بين ما كان عليه سانت جيرما دي بخي في عام 1945 وما صار عليه اليوم. في مقهي فلور(2) لم نكن لنري أمهات مع عربات الأطفال! علي مدار خمسة عشر عاما رأيت وصول رسامين وأدباء من العالم اجمع إلي هنا. لقد كان حيا حيث كان بوسعهم أن يتسلوا وان يشربوا ويأكلوا ويدخنوا ويحتفلوا طوال الليل.
ومن سانت جيرما دي بخي استأنفت الكتابة عن مصر؟
نعم فكتبي تتموقع في القاهرة، في الإسكندرية، في دمياط أو داخل إمارة صحراوية. غير أن ما اكتبه يخص كل الناس. فضلا عن ذلك، كلما مررت بشارع السين أجد قراء يحيوني، يتحلقون حولي، يشرحون لي إلي أي درجة يتملكهم الإحساس أنهم معنيين ومتأثرين بكتبي. الناس هم الناس سواء كانوا في مصر أو في سانت جيرما، الاختلاف يكمن في اللغة إضافة إلي الموقف الشرقي الذي ينتمي بعمق إلي شخوصي: أنهم يشاطروني أسلوبي في التفكير. في الشرق كلي يبلور فلسفته الخاصة للحياة، حكمته الخاصة، وذلك لان لديهم الوقت لمشاهدة الناس يمرون.
مفهومك للفقر قريب جدا من مفهوم بعض المؤلفين. ماجد رحمينا علي سبيل المثال. أنت تؤكد إن الناس، في بعض البلدان يستطيعون حتي بدون موارد أن يحفظوا¢ كرامتهم، رفاهية الفقير الوحيدة¢ وان يكونوا أكثر سعادة من عديد أغنياء: هذا مغزي روايتك الأكثر شهرة شحاتون ومتكبرون؟
في الغرب من الممكن أن يموت شخص ما من الجوع والبرد. لكن ليس في الشرق، فهناك كل الناس يقدمون شيئا ما لهؤلاء الذين يبقون في الشارع: فكة صغيرة، شيئا ما للأكل. وحتي الأكثر فقرا يظلون مرحين. بالستة عشر مليون نسمة الذين يقطنونها تظل القاهرة مدينة، رائعة، وذلك لان الناس يمزحون. كل يوم يبتكر شخص ما حكاية ظريفة حول الحكومة، حول مشكلات الحياة. عندما يكتشفون الخدعة التي يحيا فيها بعض الناس فان الثورة الوحيدة الممكنة هي السخرية. ليس بوسعهم الاستماع إلي وزير دون ضحك... ولا شيء مما يقال هناك لا يثير اهتمامي.
الم نعهدك غير مهتم بالسياسة؟
في فرنسا السياسة لا تعنيني ثم إنني لن أمارس السياسة في مصر فيما أحيا في فرنسا! في كل الأحوال، الناس، إجمالا، ينبذون ، أكثر فأكثر، الكيفية التي يحكم بها الساسة العالم: لم يعودوا يصوتون!
لديك علم مسبق غير عادي بالأحداث السياسية. طموح في الصحراء التي كتبتها في العام 1984 تجري أحداثها في إمارة مهددة بالثورة. لقد فضحت فيها ¢ غطرسة التجار ¢ في الممالك النفطية الذين لا يعدون كونهم ¢ لعب في أيدي الهيمنة الإمبريالية رسولة كل المخازي¢ وتنبأت فيها بحرب الخليج؟
من المؤسف أنهم لم يلاحظوا ذلك، فيها، في لحظة الحرب!
في روايتك الأولي التي ظهرت في العام 1942 منزل الموت الأكيد قمت بوصف الانتظار والضيق اللذين ينتابان سكان عمارة، موبؤة، يعيشون حبيسي مسكنهم ¢ المنذور للشيطان¢ وذلك لأنهم كانوا أفقر من أن يذهبوا إلي أي مكان آخر. في روايتك الأخيرة ألوان النذالة، مقاول بناء، فاسد، مسئول عن خمسين نفس قضت في انهيار عمارة يتجرأ فيدافع عن فكرة انه ¢ ينبغي إتمام البناء خلال مدة محددة وإلا سيحل الانهيار ولن يكون هنالك مجمع سكني¢ في هذا الكتاب المنشور في العام 1999 توجد حتي بضعة سطور تعطي الانطباع انك حدست أحداث 11 سبتمبر أو تداعيات إعصار كاترينا: ¢ دائما مذبحة تتبعها، آجلا أو عاجلا، مذبحة أخري أكثر درامية¢ هكذا كتبت.
انه واقع العالم! إنني لا ابتكر شيئا. كل ما يوجد في كتبي هو الحقيقة، الحقيقة التي نقرأها كل يوم في الصحيفة!
وهل أنت مستمر في الكتابة؟
بعد ألوان النذالة كنت قد شرعت في كتاب جديد. لكنني لم اعد اكتب الآن، أواجه مشكلات في البقاء جالسا وفي الإمساك بالقلم، وذلك بسبب داء اعتلال المفاصل. كنت، من قبل، اكتب في حجرتي وفي يدي قلم ماركة بيك، باذلا كل ما في وسعي لكي لا يواجه، فيما بعد، من سيطبعون كتبي علي الجهاز أية مشكلات في قراءتها. تقريبا لم أكن أقوم بشطب أي كلمة. لكي اكتب كنت انتظر إلي أن أجد الكلمة المناسبة. كان بوسعي أن أفتش عنها لبضعة أيام. لا توجد عبارات فائضة عن الحاجة في كتبي. لهذا السبب اكتب ببطء شديد.
إيقاعك ليس إيقاع الناس المستعجلين؟
صحيح. طوال حياتي لم اذهب إلي الفراش قبل الثانية أو الثالثة صباحا وانهض عند الظهيرة.
فلسفتك تتواشج مع رؤية ابيقورية للوجود: تقضي القسط الأعظم من وقتك في المقهي، وحيدا، في قراءة الصحف، أو مع أصدقاء، أو بصحبة النساء الجميلات. من هذه الزاوية أنت شديد القرب من شخوص مؤامرة المهرجين، فهم ينعمون بكل ملذات الحياة، لكن مبالاتهم الظاهرة تثير انتقام السلطات...
لقد استمتعت كثيرا في حياتي ويتملكني الرعب من التملك. عندما كان أصدقائي الرسامون والنحاتون ينفحوني بعض أعمالهم كانوا يعرفون أنني أبيعها منذ اليوم التالي، وذلك لكي أسدد تكاليف المكوث في الفندق أو شراء سجائري. وأحب النساء، لم أتمكن أبدا من الاستغناء عن صحبتهن. يأتين ويذهبن، لم اشعر أبدا بالملل معهن.
أيضا، أنت تعزو أهمية كبيرة للنوم. في الكسالي في السهل البور تصف عائلة، حبيسة منزلها، يمضي أفرادها كل وقتهم في النوم. انك تبذل الكثير من الجهد في تشذيب الكسل؟
متموضعين خارج العالم، يسمح لنا النوم بالتفكير علي نحو آخر. أن لا نعمل شيئا هو عمل باطني. العطالة ضرورية للتأمل. ثم إنني اخرج من حجرتي دائما: بالنسبة لي أمر جوهري أن أتمكن من النهوض والذهاب إلي الشارع ومراقبة مشهد الناس.
سلوكك فيه، شيء ما، من الأرستقراطية. فضلا عن ذلك، وظفت هذه الكلمة تحديدا لوصف فيلسوف ألوان النذالة الذي يحيا في مدينة الموتي:¢ كان كرم الله ينتمي إلي هذه الفئة من الأرستقراطيين، الحقيقيين، الذين نبذوا، مثل ملابس مهلهلة، كل القيم والدوجمات التي، علي مدار قرون، رسختها هذه الشخصيات الدنيئة بهدف تأبيد هيمنتها¢
لم أكن، في أي يوم، عبدا لشيء ولا لأحد. الملكية هي التي تجعل منك عبدا. لهذا المبرر عشت، دائما، في الفندق، حيث حتي الأثاث لا يعود إلي. استبقيت نفسي علي مبعدة من هؤلاء الذين لديهم شيء ما ليضيع، الميسورين وهؤلاء الذين يضعون أنفسهم رهن خدمتهم. عندما كنت شابا لم نكن، أنا وأخوتي، نسعي أبدا إلي¢ كسب بعض النقود¢ علي العكس كنا نسعي لنعثر علي بعض منها ، هناك، حيث توجد، مقترضين من أبي وأمي. بعد ذلك كان أصدقائي الفنانون هم من يعطوني ما يلزم للعيش. عشت أيضا من عائدات كتبي،إنني مترجم في كل أوروبا، في انجلترا وأمريكا وكتبت عدد لا بأس به من السينياريهات للسينما. غير أنني لم استجدي شيئا أبدا: كان الآخرون يأتون للبحث عني. كيف يمكن التصرف بشكل آخر إذا كنت تنهض عند الظهيرة؟ لم استخدم الوقت أبدا لأتلفن للناس طالبا منهم أي شيء كان!
عدد كبير من شخوصك لصوص، لكن ليسوا لصوصا ¢ شرعيين¢ وهي الفئة التي تنضد داخلها الوزراء، رجال المصارف ورجال الأعمال. وإنما رجال بلا مداخيل، لذا، وبهدف العيش، يلجأون إلي استرجاع قسط من النقود التي يكدسها اللصوص¢ الشرعيون¢ أنهم يعملون خارج القوانين، مع ذلك تحكم بأنهم اقل جناية من رجال السلطة الفاسدين.
إنها الحقيقة حتي وان صعب فهمها أحيانا. إنني مراقب متواضع. في بلدي، وعندما تأكد لهم من السلطة، القارضة، التي تمتلكها مجموعتي القصصية الرجال الذين نسيهم الرب تعرضت للرقابة.
ما مكانتك في مصر الآن؟
امرأة تدعي أسماء البكري عملت فيلما من روايتي شحاتين ونبلاء وقد حقق الفيلم نجاحا كبيرا.
هل أنت سعيد لتحقيق نجاح؟
أكداس من الناس يلتقطون لي صورا أينما اتجهت، لكنني لا أعبأ. بل أطنش. لست منشغلا بذلك. إنني لا أعاشر إلا الناس الذين يشبهونني والذين لديهم مفهوم أصيل عن الحياة والذين لا يتركون أنفسهم أسري لما ترويه الصحف، سعداء، مثلي، بلا بطاقة بنكية، ولا دفتر شيكات، منفصلين عما يصنع سعادة الحمقي. لكن الغالبية العظمي من أصدقائي صاروا موتي الآن. لا يشيخ الناس بلا عاقبة! في مصر لم يعد هنالك احد من أفراد عائلتي. منذ موت أخر أخوتي لم أعد أذهب إلي هناك. في فرنسا، حتي ميشيل ميتراني الذي كان أصغر مني سنا اختفي. مع ذلك بقي حولي بضعة أشخاص: ناشرتي جويل لوسفيلد، وصوفي ليس التي غادرت إلي مصر لالتقاط صور للأمكنة التي تستدعيها كتبي والمصور لوجو الذي غادر ليعيش في القاهرة عقب قرأته كتبي. كان قد عمل، لبضع سنوات، رساما في صحيفة مصرية ولقد عمل من شحاذين ونبلاء قصة مصورة.
هل أنت مستمر في قراءة مؤلفين معاصرين؟
بالطبع لا! أنهم يكتبون بصرف النظر عماذا! الغالبية العظمي من كتاب النصف الأول من القرن العشرين يعدون عباقرة مقارنة بالمؤلفين الذين ينشرون اليوم! لا، لم أعد أقرأ إلا الصحيفة وفي كل حال، الجوهري... أن تكون علي قيد الحياة!







أخبار الأدب ، العدد 704
نشرت المقابلة في مجلة لو ماجازين ليترير الفرنسية

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عصام الزهيري
مشرف قسم القصص والروايات
عصام الزهيري


عدد الرسائل : 460
العمر : 51
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية   رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية I_icon_minitimeالأحد 29 يونيو 2008, 1:16 am

ألبير قصيري
بقلم هنري ميلر

باريس 1945

ألبير قصيري شابٌ مصريّ، أبصر النور في القاهرة وعاش في باريس لسنوات عدّة، في جعبته عدد من الكتب التي دوّنها باللغة الفرنسية. بدأ اسم ألبير ينتشر بسرعة لا في العالم الناطق بالفرنسية فحسب، بل في إنكلترا أيضاً؛ ولسوف يلمع نجمه قريباً في أميركا، حيث يجري حالياً إصدار روايته "رجالٌ نسيهم الله" باللغة الانكليزية. جديرٌ بالذكر أنّ ألبير قصيري قد فرغ للتوّ من كتابة مؤلَّفه الثالث، بعنوان "كسالى الوادي الخصيب"، ومن المقرّر أن يصدر هذا الكتاب نهاية السنة الجارية [1945]. في الواقع، لقد تُرجمت كتبه كلّها إلى اللغة العربية، وهي تُحدث هرجاً ومرجاً في منطقتي الشرق الأدنى والأوسط. لكن لا بدّ، في رأيي، من نقلها إلى لغاتٍ متعدّدة أخرى، لا سيما أنّها قادرةٌ على أسر القرّاء من كلّ حدب وصوب من العالم. فلا يخفى على أحد أنّه يكرّس كتاباته كلّها للطبقات العاملة التي ضاقت عليها المسالك، وقرع ساحتها الأسى الموجع والفقر المدقع؛ إنّه يحمل همّ الرجال البسطاء، أولئك الذين رماهم الله طيّ النسيان، وحريّ بي القول الرجال والنساء والأطفال على السواء.
الحقّ يقال، ما عرفت كاتباً معاصراً غيره، قادراً على وصف حياة هذه الفئة الشقية الواسعة من البشريّة، بمثل هذه الريشة التي تتّقد حنقاً وتدوس موطن الجرح مباشرةً. فهو يذهب عميقاً في طرق أبواب من اليأس، والانحطاط، والخنوع، ما ولجها غوركي أو دوستويوفسكي قبله قط. يتناول قصيري، في طبيعة الحال، واقع شعبه الذي بدأت حكايته مع البؤس والتعاسة قبل أن يولد مجرّد حلم بإنشاء الحضارة الغربية. ورغم العبث والكآبة المريرة التي تطبع تحرّكات شخصيّاته على ما يبدو، إلا أنّ الكاتب لا ينفكّ يعبّر، في كل أعماله، عن إيمان ثابت بقدرة الشعب على قهر الظلم والعبودية. وقد جرت العادة أن يرجّع قصيري صدى هذا الأمل على لسان إحدى شخصياته التي طلّقت، في الظاهر، كلّ أمل لها بالحياة. غير أنّ هذا الأمر لا يأتي من طريق صيحة أو ما شابه، بل من خلال توكيد هادئ وحافل بالعزم، كبرعم يزهر فجأةً في أحلك ساعات الليل.
يقدّم إلينا قصيري، في رواية "رجال نسيهم الله"، خمس صور موجزة إلى حدّ ما، تعطي القارئ فكرة عن لمسته اللاذعة وروحه المتّقدة. فشكّل الكتاب مفاجأة كبيرة وسارّة بالنسبة إليّ، لا بل اعتبرته الأوّل من نوعه مذ وقعت عيني على أعمال كبار الكتّاب الروس في الماضي. ولو كان لسان الرجال أكثر سطوة من السلاح، لجزمت بأنّ هذا الكتاب قادر على استباق الثورات، لا بل على إشعال فتيلها والتمهيد لها كذلك.
بالفعل، في كتابه هذا، يمنح قصيري صوتاً لمن لا صوت له. صحيحٌ أنّ بطله لا يتكلّم كداعية محترف أو مهيّج للجماهير ملمّ بتعاليم الماركسية، وصحيح أنّ لغته تبقى طفولية وبسيطة إلى حدّ الحماقة، إلا أنّها حافلة بمعانٍ قد تجعل أصحاب السلطة أنفسهم يرتعدون خوفاً في حال تمكّنوا من القبض على فحواها.
في معظم الأحيان، تعبّر شخصياته عن نفسها بلغة حالمة، تنضح خيالاً، ولا تتطلّب في حالتها هذه أيّ تفسير يمتّ إلى التحليل النفسي بصلة. كيف لا وهي واضحة وضوح الكتابة على الجدران. في الواقع، هذا هو ما يفعله قصيري بالتحديد: يقوم بكتابة مرسلته على الجدران! كلّ الفرق أنّه لا يتكلّم بالنيابة عن نفسه، بل لأجل الجماهير ككلّ. تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّه لا يجد متعة بالغة بسرد أهوال البؤس الإنساني، كما يمكن أن يتصوّر المرء لو ألقى على عمله نظرةً خاطفة ليس إلا؛ بل إنّه ينذر بمجيء عصر جديد، عصر استثنائيّ ضخم بالنسبة الى مناطق الشرق الأدنى، والأوسط، والأقصى.
حافلةٌ إذاً كتبه، حتى الثمالة، بحسّ دعابة، لاذع وهمجيّ، يدفع القارئ إلى الإمعان في الضحك والاسترسال في البكاء في الوقت عينه. وعبثاً يبحث، لكنّه لن يجد أبداً ذاك الحدّ الفاصل بين الكاتب والشخصيات الحقيرة الجديرة بالشفقة التي ينحتها في كتبه.
في الواقع، لم ينذر قصيري نفسه لهذه الشخصيات فحسب، بل إنّه منها وفيها أيضاً. حسبك أن تصغي إلى كلماته وهو يعبّر عن أوهامهم وتقلّباتهم، لتشعر أنّه يتعلّم، بدوره، كيف يستخدم صوته، ويعبّر عن رأيه بطريقة جديدة، طريقة لن يطويها النسيان على الإطلاق. لكنّ هذا النوع من الأشخاص قد يبدو، بالنسبة الى الغرب بشكل عام والأميركيين على وجه التحديد، همجياً وتافهاً، لا بل يكاد يفد من عالم المعصوم من التصديق. فنحن بشرٌ محا النسيان من ذاكرتنا كم في مقدور الإنسان أن يحقّر نفسه، وبات هذا المستوى السحيق من الوجود أشبه بعالم لا ندري عنه شيئاً، ولا حتى في أعمق أعماق سرائرنا. غير أنّ من يعلم كلّ ذلك علم اليقين قد سارع إلى طمأنتي بأنّ مخلوقات قصيري أو حالها المتردّية لا تتّسم بأدنى ذرّة من الخيال أو الوهم. نعم، لقد صوّر لنا قصيري الواقع بحذافيره، بأبشع صوره، حتى يكاد المرء يجزم أنّ هذه المخلوقات صورة من صور عصر "التنوير" ليس إلا.
أمّا كتابه الثاني، بعنوان "منزل الموت الأكيد"، فيمكن اعتباره عملاً رمزياً تماماً. ففي نهاية المطاف، جميعنا يعيش في ذاك المنزل، سواء أأدركنا ذلك أم لا. وهذا الصدع العظيم في الجدران المتزعزعة جليّ أمام كلّ ناظر، باستثناء صاحب المنزل نفسه. يبقى السؤال: إلى أين المآل وكيف؟ بالنسبة الى الغالبية الساحقة من السكان، أولئك الذين بالكاد يؤمّنون مورد رزقهم، كلّ منزل ملعونٌ لا محالة. أمّا الحل، كما تراه إحدى شخصيات الكتاب، فهو الامتناع عن دفع الإيجار منذ ذلك الوقت فصاعداً. بالفعل، لقد بذل السكان كل ما في وسعهم لاستقطاب أنظار المسؤولين إلى مصيبتهم المشؤومة، دون جدوى؛ لا بل وصل بهم الأمر الى حد كتابة رسالة إلى الحكومة، يشرحون فيها المشكلة الخطيرة التي يعانونها. لكن، هل تجيد الحكومة القراءة حقاً؟ بغضّ النظر عن ذلك، لا يمكن أن ننكر أنّ هذه الرسالة هي، في الواقع، أثرٌ فنيّ عظيم؛ تولى كتابتها بالنيابة عن المستأجرين أجمعين أحمد صفا، سائق الترام السابق، الذي يعمل اليوم في بيع القطط المسروقة ويواظب على تدخين الحشيشة. وفيها، عبّر أحمد صفا عن أمله البسيط باستقبال المسؤولين الحكوميين في عقر منزله، كي يلقوا نظرة على المشكلة بأنفسهم. فإن لم يفعلوا، سوف يقدم السكان، كما يضيف صفا، على نقل المنزل إليهم، والأمر سيّان.
لكنّ مستأجراً واحداً بدا غير مبالٍ إن كان المنزل سيتقوّض فوق رأسه أم لا؛ نعني به بيومي، الرجل الذي يربّي قروداً مدجّنة. فنسمعه يخبر أحد المستأجرين الآخرين: "ولِمَ لا نعيش في الشوارع؟ فالشوارع تفتح ذراعيها للجميع. ولن يطلب منك أيّ كان أن تسدّد ثمن الإيجار".
أمّا عبد العال، فقصّة أخرى. إنه الشخص عينه الذي أخذ يحضّ الآخرين على الامتناع عن تسديد قيمة الإيجار. وهو الذي زرع أخيراً مزيجاً من الخوف والرهبة في نفس صاحب الملك المتحجّر القلب، سي خليل. ذات يوم، وفي نهاية الرواية تقريباً، يلتقي الاثنان في متنزه. فيزعم سي خليل أنّ تفاهمهما واتفاقهما بشكل من الأشكال أمرٌ لا بدّ منه.
لكنّ عبد العال يبادره بالإجابة: "لن نتوصّل إلى تفاهم أبداً، أنا وأنت. فما من صفة مشتركة تجمعنا".
غير أنّ سي خليل يصرّ على رأيه، وكلّه خشية من الآتي في حال تمثّل المستأجرون الحمقى، في أملاكه المتصدّعة كلّها، برأي عبد العال. عندئذٍ، يهتف هذا الأخير: "أنت لا توجس في نفسك خيفةً مني، بل من جماهير الرجال الغفيرة المحتشدة خلفي. ألا تراهم؟".
هنا، يحاول سي خليل أن يخبره أنّ الندم قد لامس شغاف قلبه أخيراً، فيقول: "في شوارع الحياة، ينتاب المرء ما لا يعدّ ولا يحصى من مشاعر الأسف".
فيردّ عبد العال بنبرة حاسمة: "في شوارع الحياة، يصطدم المرء أحياناً بالانتقام".
لا يملك سي خليل إلا أن يلاحظ نبرة الشكّ والاحتقار في صوته، لكنّه يواظب على القول: "كلامك غير منطقيّ". فيعاجله عبد العال بالقول: "ستغيّر رأيك ذات يوم".
هنا، يجيب سي خليل: "ستمسي جثة هامدة قبل حلول ذاك اليوم".
غير أنّ عبد العال لا يلبث أن يقول: "سوف ينهار المنزل فوق رؤوسنا كلنا. لكنّ عددنا لا يُحتسب بالأرقام. لن ينجح في القضاء علينا كلنا. سوف يبقى الناس على قيد الحياة، وسيعلمون علم اليقين كيف ينتقمون لأنفسهم".
عند هذا الحدّ، يفترق الرجلان. نحن الآن في انتظار انهيار المنزل. (عن النهار 27 حزيران 2008).

ترجمة نور الأسعد




هذه المقالة كتبها هنري ميلر في رواية ألبير قصيري "رجال نسيهم الله"، وأرسلها الكاتب المصري إلى مجلة "بانيبال" عام 1997، ونُشرت في العدد الأوّل من المجلة. أمّا الناشر الأصليّ، فيبقى مجهولاً.

عن موقع كيكا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
دكتور : محمد ربيع هاشم
Admin
دكتور : محمد ربيع هاشم


عدد الرسائل : 1663
العمر : 54
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية   رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية I_icon_minitimeالأربعاء 02 يوليو 2008, 7:35 pm

رائع الموضوع يا أستاذ عصام ، ولعل أروع ما فيه عدم معرفة الكثير من الأدباء شيئا عن ألبير قصيري وعالمه الإبداعي ، الجميل أيضا التواصل في نشر المزيد والمزيد عنه بمجموعة المقالات التي اتبعتها عنه وكذلك الصور
شكرا لك على النقل والموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://poems.mam9.com
عصام الزهيري
مشرف قسم القصص والروايات
عصام الزهيري


عدد الرسائل : 460
العمر : 51
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية   رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية I_icon_minitimeالخميس 03 يوليو 2008, 12:56 am

الصديق الغالي د.محمد ربيع
منذ سنوات كانت هناك رواية من تأليف ألبير قصيري مترجمة بعنوان "شحاذون ومعتزون" من ترجمة محمود قاسم نشرت في سلسلة صادرة عن هيئة الكتاب لم يكتب لها الاستمرار اسمها "الرواية العالمية"، قيل وقتها أن سبب توقفها هو اكتساح دور النشر اللبنانية لسوق الرواية المترجمة، وهو أمر غريب وغير مفهوم ويؤسف له، في الوقت الذي نشكو فيه ونردد النسب المذهلة للفارق بين المترجم إلى العربية في مقابل المترجم إلى اللغات الأخرى. المهم توقفت السلسلة وظلت "شحاذون ومعتزون هي الرواية الوحيدة المتداولة لألبير قصيري على نطاق القارئ العادي في مصر، بعدها وبمناسبة إخراج أسماء البكري لفيلم "شحاذون ونبلاء" المأخوذ عن الرواية قام محمود قاسم بترجمة رواية أخرى لقصيري هي "الضحك والسخرية" ونشرها في سلسلة روايات الهلال.
أديب مصري يكتب عن مصر (وهو من أصول شامية بالمناسبة) يوصف في فرنسا بأنه من كبار أدباء فرنسا في القرن العشرين ولا نعرف عنه في مصر الكثير أمر خطير كما قلت، وليس الخطأ هو خطأ قصيري الذي قضى عمره كله زاهدا في الأضواء والولائم والبيزنس الثقافي لأن ذلك لم يمنع عنه الشهرة في الغرب، لكنه خطأ واقع الثقافة المصري الآن. خطأ يجب أن يعمل الجميع على تداركه والحد من آثاره الضارة على العقل والوعي والإبداعية المصرية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رحيل "ألبير قصيري" أمير الكسل والسخرية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
فضاء الإبداع :: المنتدى العام-
انتقل الى: