الفارابي.. آراء أهل المدينة الفاضلة
، بقلم أنور أبو بندورة
تمهيد
لا بد أننا نتساءل كثيراً في الآونة الأخيرة، في ظل الهجمة الغربية علينا كعرب، حول الدوافع التي تجعلنا فريسة أبدية للغرب.
في هذه المقالة سوف أحاول أن أبسطَ أمام القارئ العربي بعض ما أعرفه عن الغرب. لن أناقش أية فكرة عن العرب ولكن سأحدثكم أكثر عن الغرب، وعلينا نحن أن نصل إلى النتائج المترتبة على هذه المقارنة بيننا وبين الغرب.
أول وجوه الغرب وأهمه هو وجهه الحضاري. وإذا أردنا أن نفهم حضارة الغرب يجب علينا أن نتعرف على جوهرها. وليس لحضارة الغرب جوهر واحد، بل عدة جواهر، وهذه الجواهر تمثّلت في الحضارة الغربية في عصور متتالية، ولم تكن هذه الجواهر تتبدل الواحد بالآخر كلما زال عصرٌ وأتى عصرُ جديد. وإنما تتراكم على بعضها البعض. فإذا أردنا أن نتعرف على جوهر الحضارة الغربية في الوقت الحاضر وجب علينا أن نتساءل عن جوهر تلك الحضارة في أزمانها الغابرة.
البداية
منذ بداية التاريخ المسيحي إلى نهاية الألف الأولى من ذلك التاريخ، كانت المسيحية الغربية هي المتحكمة في الغرب. طبعاً في الشرق هنا لم تكن المسيحية الغربية متحكمة بل كان هنالك عدة مسيحيات؛ مسيحية يهودية، مسيحية شرقية، مسيحية مصرية غنوصية وجميع هذه المسيحيات كانت دخلت في صراع كبير وعنيف مع مسيحية روما. وتمثّل هذا الصراع في مؤتمر أنطاكية سنة ٣٢٥ وسنة ٤٥٠، وفي عدة مؤتمرات أخرى، إلى أن جاء الانقسام الكبير بين الأرثوذوكس وبين الكاثوليك في القرن الحادي عشر.
على كل الأحوال، في الألف الأولى من حياة الغرب كانت المسيحية الغربية هي السائدة. وبعد الألف الأولى طرق الإسلام باب أوروبا وجاء بعقلانيته وبطبيعته. والطبيعة هنا تعني تقبّل الطبيعة لا كشيء شرير، كمسرح للشيطان، بل كشيء ليس مقدّساً، وإنما مادياً خلقه الله وسخّره للإنسان. والعقلانية هي المبدأ القائل أن الدِين يمكن أن يُدَرَّس ويُعْمَل به وأن يُبَلوَر بالطريقة العقلية تمامً كما الطبيعة.
وسادت هذه النظرية طيلة قرون ثمانية حتى القرن الثامن عشر. وعلى إثر حركة التنوير في القرن الثامن عشر التي كانت أوج ذلك التقدم العقلاني.
عصر التنوير والبداية الجديدة
مع عصر التنوير، تقدّمت العلوم الطبيعية تقدّماً بالغاً جداً بسبب انتصار هذه العقلانية انتصاراً حاسماً على سلطة الكنيسة الغربية.
لكن ما إن انتصرت هذه العقلانية على سلطة الكنيسة، وما إن بلغت أوجها ألا وقد قامت في الغرب حركة أخرى تنافس العقلانية وهي الحركة المعروفة باسم الرومانسية Romanticism، وعمّت هذه النزعة نواحي الحياة ونواحي الفكر كله، وسادت هذه الحركة حتى نهاية الحرب الغربية الرأسمالية الأولى. فكانت لها مثالية وكانت لها وجهة دفعت بالآداب والفنون والعلوم دفعاً، وسنرى فيما بعد كيف تم هذا، وكيف كانت لها نظرة خاصة، وكان لهذه النظرة تفاؤل ومثالية قضت عليها الحرب الغربية الرأسمالية الأولى. وهذه المثالية تمثلت في الحركة المنسوبة إلى الفيلسوف الألماني "هيچل"، Hegelianism or Hegelian Idealism.
وطبعاً، الحرب الغربية الرأسمالية الأولى قضت على هذه المثالية وفتحت الأبواب على مصارعها لحركة مضادة وإن كانت نابعة من نفس الأصل الرومانسي، وهي حركة التساؤل أو حركة الوجودية.
وفي هذه الأثناء، أي بعد الحرب الغربية الرأسمالية الأولى، انحسر دور الكنيسة المسيحية انحساراً تاماً وانتشرت بعد الحرب الغربية الرأسمالية الأولى حركة عدمية، أيضا على بقايا الرومانسية التي سادت من قبل.
المشترك والجامع
ولو سألنا أنفسنا اليوم، ونحن في القرن الواحد والعشرين، ما هو جوهر الحضارة الغربية؟ – المسيحية، والعقلانية، والطبيعية، والرومانسية، والوجودية، والعدمية، كل هذه كانت جوهر الحضارة الغربية في مراحلها خلال الألفين سنة الأخيرة من حياتها – أما إذا نظرنا إلى الحضارة الغربية اليوم، فلا شك أن هذا الجوهر يظهر لنا على الشكل الآتي:
أولا – فحوى هذا الجوهر هو التشكّك، والتشكك معناه أنه لا شيء يعرف الحقيقة سوى الظواهر الطبيعية، الأشياء المادية، الظواهر الطبيعية المحسوسة التي يتفنن العلم الطبيعي بدراستها، وبقياسها، وبتحليلها. هذا النوع من التبصّر العلمي يُنتج لنا حقائق، وهو علم وهو الذي يتصف بالعلمية، أما عدا ذلك أي الدراسات الاجتماعية والإنسانية فهي ليست علمية بل هي من قبيل الآراء التي فيها أكثر من قول.
وإن كانت العلوم الاجتماعية من قبل استطاعت أن تتبرأ من هذه التهمة وأعلنت عن نفسها تقبلها للمنهج العلمي، وهو المنهج السائد في العلوم الطبيعية، بقيت تلك النواحي من حياة الإنسان التي نسميها بالإنسانيات Humanities أصبحت مسرحاً للقيل والقال، أصبحت مسرحاً لآراء لا يمكن الوصول فيها إلى يقين. فالظواهر الأخلاقية لا تعرف حقيقة فيها، ولا يمكن أن يتكلم الباحث عن خير حقّ ولا عن شرٍّ حقّْ ولا يمكن أن يدعي بأن أي سلوك خير من أي سلوك آخر إلا إذا أدى ذلك السلوك لإشباع رغبة في ذلك الإنسان، أو في تلك الجماعة، كما جاء في التعريف الشهير الذي جاء به جون ستيوارت مل [1] ، وهو أن الدليل الوحيد لكي تعرف أي شيء ما مرغوب فيه Desirable ومرغوب فيه معناه أن يرغب بعض الناس فيه، وهنا التحول من مستوى "يجب أن يكون" إلى مستوى "ينبغي أن يكون" وهو مستوى الواقع. فالشيء يُصبح حقيقة واقعة، ظاهرة واقعة، يمكن أن تُقاس وأن تُفحَص والتي يمكن أن تُحسَبْ Quantified، هذه هي رغبة الإنسان وهذا في رأيي هو المبدأ الذي يتألف منه جوهر هذه الحضارة والتي أطلقوا عليها الأوروبيون غربية (وليس نحن).
نضيف أيضاً، أن المسيحية الغربية كانت خلال الألفين سنة الماضية تقول وتؤكد وما زالت طبعاً تؤكد أن "الدنيا شيء ساقط لا خير فيه". ومن هنا فالخلفية التي نشأ فيها هذا المبدأ التشككي كانت خلفية جعلت المسيحية الغربية منها شيئاً ساقطاً لا خير فيه وطبعاً هذا العالم لا أمل يُرجى منه حسب قول القديس أوجستين" الحياة كلها كتلة من الخطيئة".
ثانياً – دعم هذا التشكك النظرية الطبيعية. والطبيعية كأسلوب حياة، أتت إلى الغرب من خلال أجدادنا، إلا أنها غلت في الغرب ونمت وأصبحت تقول بأن الإنسان هو الحقيقة الأولى والأخيرة وإنه هو مقياس كل شيء "Man is the measure of all things"
ولم يأتِ العرب والمسلمون بهذا المبدأ، ولكن أتوا باحترام الإنسان واحترام الطبيعة، أتوا ببراءة الإنسان وبراءة الطبيعة، وسرعان ما تقبّل المسيحيون المتنورون الغربيون هذا المبدأ مما حفزهم إلى العودة إلى الأصول الإغريقية والرومانية ومن هناك أخذوا مبدأ أن الإنسان مقياس كل شيء وهو الكل في الكل. وهذا شعار عصر النهضة Renaissance.
كل هذا يصل بنا إلى القول أن الغربي اليوم يعتقد أن هذا الإنسان هو آلة، والرغبات الإنسانية التي تدور في خاطره وتحركه هي المعايير الأخلاقية. ولكن إذا كانت رغبات الإنسان هي المعايير التي بموجبها يمكن للإنسان أن يحل مشاكل الحياة، فلا بد لهذه الرغبات أن تتعارض مع بعضها البعض، وإذا تعارضت فكيف لها أن تكون المعيار الذي يُحَلُّ به هذا التعارض. لا يمكن إذا أردنا للتعارض حلّاً فلا بد للحل أن يأتي من مصدر فوق الطبيعة وفوق الرغبات.
لكن الغربي اليوم وبالأمس طبعاً، وبموجب الخلفية التي ورثها عن الإغريق لا يجد مانعاً في أن تتعارض الرغبات، وإذا تعارضت الرغبات فذلك لأن الشرّ مستفعلٌ ولا بد من الشر في الدنيا، لأن الدنيا مجبولةٌ بالشرّ. أي أن يُقال أن في نهاية الشر تكون المأساة، والمأساة أو النظرة المأساوية للحياة هي النظرة العظمى، هي أوج التصور لحياة الإنسان. فعلى سبيل المثال، نجد أن الميثولوجيا الألمانية متأثرة جداّ بهذا الصراع ونهاياته المأساوية، ومن الطبيعي أن الآلهة تتعارك مع بعضها البعض ومن الطبيعي أن تجر نفسها إلى الهلاك المحقق.
ثالثاً – دعم هذا التشكك النظرية العقلانية. قد ذكرنا أن العقلانية دخلت أيضا على الغرب بدخول الإسلام إليها ولكنها عند دخولها الغرب انحصرت في العلوم الطبيعية وطبعا بعد قتال وصراع مرير، وكلنا نذكر برونو وجاليليو وغيرهم ممن أُحرِقوا أو كادوا يُحرقون من قبل الكنيسة. إلا أن عقلانية المشارقة لم يتقبلها الغرب في حقل الدين، فكنيسة روما رفضت ونبذت عقلانية توماس الإكويني لمشاركته في العقلانية، في شيء من العقلانية الرشدية ولم تعطه لقب القدّيس إلا بعد وفاته، بعد أن تفشت العقلانية حتى في أواسط الكنيسة نفسها. ولكن هذه العقلانية، التي استمرت في عصر النهضة قد وصلت أوجها ونموها في عصر التنوير دون أن تكون قوية بما فيه الكفاية. فكانط لم يؤمن بالعقلانية وحدها بل آمن أيضا بالمسيحية وهذا يُرينا أن العقلانية والدوجماتيزم المسيحي لم يفترقا.
هذا المبدأ التشككي، مع الخلفيات الفلسفية المختلفة التي دعمته وجعلته يربو ويترعرع حتى أصبح جوهر الحضارة الغربية اليوم، أدى إلى ما نسميه اليوم الفوضوية.
إن الفوضى هي فوضى سلوكية تنعكس في الحياة وفي المعيشة اليومية. لهذه الفوضى خلفيات باركتها وساندتها. فالدين الذي كان سائداً في عالم السلوك طيلة قرون أبى في جميع مراحله أن يُشرّع للسلوك الدنيوي أو الفر داني أو الجماعي.
فالسلوك الفرداني هو مرآة لرغبات الأفراد مت الرجال والنساء. والسلوك الفرداني كما كانت تقول الكنيسة المسيحية الغربية عليه أن يكون رهينة، بينما القيصر، كمثال للإنسان، يمكن أن يفعل ما يشاء حسب ضميره. وطبعاً لم يترك القياصرة الأمور تتحول إلى فوضى، بل تحكموا فيها دون وازع أخلاقي أو ديني. فغياب الوازع الديني أو الأخلاقي في السلوك ساعد على إبعاد هذه الفوضى، ومكيافيللي مكانته معروفة في هذا المجال لا في تاريخ الفكر فقط بل في تاريخ البشر الذين نسميهم بالغرب.
مع أن المسيحية الغربية انحسرت وأصبحت اليوم رهينة في الغرب، فإن الوجودية المسيحية التي قام بها منظرها كيرجارد [2] تعيد الكرة من جديد وتقول أن الحياة كلها شرّ ولا أمل يُرجى مها وأنها لا بد منتهية بالعدم. فللخروج من هذا المأزق لا بد من الدين والتعبد.
والفوضوية كنظام للحياة بدون شريعة أدى إلى نشأة الحركة المسماة بالليبرالية، وهذه لها جذور قديمة في الفلسفة الوضعية التي جاء بها جون لوك وجون ستيوارت وتوماس هوبز، وهي أن الليبرالية تقول تماما كما يقول المذهب التشككي، أنه لا حقيقة في الأخلاق تُعرَف، لا حقيقة يقينية، لا حقيقة ما ورائية تُعرَف، إنما الأخلاق ليست إلا حساب اللذة Calculus of Pleasures وإن طبيعة الإنسان هي متمثلة في حرب الجميع على الجميع ولا يمكن أن يكون تأثير للإنسان على الإنسان الآخر إلا بالقهر، إلا بسفك الدماء. وإن كان هناك إقناع فالإقناع معناه أن المقنع يفرض رأيه على المقتنع وإن هذا الرأي ليس إلا رغبة في شخصية المقنع. فأخلاقياً يعني هذا أن أفرض رغبتي على الشخص الذي أخاطبه. لذلك نشأ عن هذا ما يُسمّى "الجماعة" أو Society التي هي ليست إلا اتفاق عدد من البشر على الحد من الصراع القائم بين الفرد والجماعة. والصراع طبعاً يؤدي إلى القتل فالجريمة الكبرى هي العنف، أما فيما عدا العنف فكل شيء جائز حتى وإن كان غشاً، فالغش والحيلة والاحتيال، حرية مقدسة في ذهنية "الغربي" في وعيه وفي لا وعيه.
وهذا هو سبب وجود الدستور وحقوق الإنسان. لا يمكن الفصل مبدئيا بين دول الغرب فيما يخص الحقوق الإنسانية Human Rights منذ الثورة الفرنسية وهي كلها هدفها تقييد تسلط الحاكم على المحكوم وتقييد تسلط الفرد على الفرد الآخر.
أما فيما يتعلق بالجماعة، فالجماعة هي تماماً كالأفراد، لها رغبات متكاملة ومضافة إلى بعضها البعض بطريقة حسابية. ومصالح الجماعة هي أولية، هي "يابسة" Hard Data كرغبات الفرد، وإن تضاربت مع مصالح الجماعة الأخرى فلا بد إذن من الحرب! ونحن نعرف أن القانون الدولي لم تخطر فكرته على ضمير الغرب إلا في القرن التاسع عشر على يد "جروشر" الذي دافع عن الفكرة التي تقول أن الحرب هي أمر طبيعي ولا بد منها غالباً حتى تستمر الحياة [3] . هذا المنطق القانوني يوضح لنا أن طبيعية الحروب بين الأفراد والجماعات تحتاج إلى توازن قوى حتى تُمنَع هذه الحروب، وإذا لم يكن هناك توازن قوى فالفرائس تكون سهلة.
هذه المبادئ الأخلاقية والمعرفية تبلورت في العصر الحديث فأصبحت أنظمة عرفت بأسماء شائعة اليوم هي الديمقراطية الدستورية والاشتراكية القومية. أهمها هي الديمقراطيات الدستورية وهي أنظمة جعلت القول الفصل في إشباع الرغبات لأكثرية السكان بواسطة الاقتراع والتصويت، وحرية الفرد في التنافس فيها لا تهتك، حيث تقول للغربي.." تنافس مع حيلة بقدر الإمكان، مع غشٍّ بقدر الإمكان..."
أما الاشتراكية القومية تهمها أساساً رغبات الجماعة، ونتج منها نظاماً جعل القول الفصل في إشباع الرغبات الجماعية لفئة دون أخرى، للفئة المسيطرة على الحكم، أو للحزب. كلتا الحركتين قائمتين على شعور، هي حركة رومانسية وفحواها تفضيل رغبات قوم على رغبات القوم الآخر. (يُحبّّذ أن يكون غير غربي). وهذا التفضيل لا يقوم على الأخلاق بطبيعة الحال ولا ينطوي على معاملة أخلاقية للقوم الآخرين، فالحرب ضرورة، وإذا التزم الغرب التقيد بميثاق الأمم المتحدة، يكون التقيد هنا ضرورة.