دكتور : محمد ربيع هاشم Admin
عدد الرسائل : 1663 العمر : 54 الجنسية : مصر تاريخ التسجيل : 12/05/2008
| موضوع: في بؤس الإنتاج الفقهي للحداثة للدكتور علي مبروك الخميس 10 يوليو 2008, 11:40 pm | |
| لم تنبثق تجربة النهضة أو الحداثة، في السياق العربي الإسلامي، في قلب مغامرة يفعل فيها الإنسان مُجرباً ومكتشفاً وعارفاً ومهيمناً ومكتسباً، ومحيلاً للعالم إلي موضوع لوعيه وعمله، ومراكماً للخبرة والرأسمال بمعناه الرمزي والمادي( وبما يعنيه ذلك من أنها كانت عملية تاريخية تتبلور ضمن شروط غير مفروضة عليها من الخارج)، بل كانت نتاجاً للاصطدام بين وعيين، أولهما (وهو العربي الإسلامي) كان قد دخل إلي دائرة الخمول والسكون علي مدي يتجاوز القرون الثلاثة منذ آخر مجابهة له مع الآخر الأوروبي، وهي القرون التي تبدو أدني ما تكون إلي الزمان الميت الذي قضاه العقل العربي- تحت السيطرة العثمانية- في نوبة تكرار عقيم لا تزال تداعياتها قائمة حتي الآن. وأما ثانيهما (وهو الوعي الأوروبي) فإنه كان يعيش ذروة مآثره الكبري علماً وتصنيعاً وكشوفاً معرفيةً وجغرافيةً تحول معها العالم بأسره، أو كاد، إلي ساحة للتمدد الأوروبي الواسع. وإذا كان الاصطدام بين لحظتين تنتميان (تاريخياً ومعرفياً) إلي أزمنة متعارضة ومختلفة، هو الأصل في تبلور سؤال الحداثة العربي (وبما يعنيه ذلك من تبلور السؤال ضمن شروط مفروضة) فإن ذلك السياق التصادمي قد حدد، وكان ذلك لازماً، نوع وطبيعة آلية اشتغال العقل، والتي لم تكن إلا آلية المقايسة. ولعل ذلك يرتبط بما استقر في العقل من أنه لم يكن ليدرك حقيقة فوات واقعه وتخلفه إلا "قياسا" علي تقدم الآخر، وبما لابد أن تؤول إليه هذه الممارسة للقياس من اندفاع ذلك العقل إلي أن يجرّد،علي طريقة أسلافه الفقهاء،العلة المنتجة لتقدم الآخر (الذي هو الأصل المُقاس عليه) في مقابل العلة المؤسسة لما يعانيه واقعه الخاص (الذي سيصبح مجرد فرع يقاس علي الأصل) من التخلف والفوات. وهكذا راح الوعي بنظامه الفقهي في التفكير- الذي لم يعرف غيره آنذاك، والذي يبدو لسوء الحظ أنه لم يتحرر منه للآن- يحيل الحداثة إلي نموذج أو أصل، ساعياً إلي تجريد العلة المُنتجة لما يقوم في هذا الأصل من واقع التقدم والهيمنة، ليتسني له بعد هذا التجريد، وعلي طريقة الأسلاف الفقهاء بالطبع, أن يستوفي تلك العلة في واقعه الخاص (الذي كان عليه أن يتنزَّل في مواجهة النموذج-الأصل إلي مجرد فرع كما سبقت الإشارة)، فيكسبه، من خلال هذا الاستيفاء للعلة فيه، حداثة الأصل (الذي هو الغرب في هذه المقايسة). وبالطبع فإن ذلك يمثل ذروة الإنتاج الفقهي للحداثة. ولسوء الحظ، فإن ما راح يجرده، ذلك الوعي الفقهي كعلة مؤسِسة ومنتجة للحداثة، لم يكن أبداً إلا محض جوانبها الإجرائية والشكلية التي لا ترتقي أبداً إلي مقام العلة المأسِسة والمنتجة، بقدر ما تصلح أن تكون مجرد أعراضٍ ومعلولات للحداثة. إن المفارقة هنا تتأتي من أن معلولات الحداثة، بل وحتي أعراضُها البرانية, قد جري اعتبارها علة لها. ولأنه كان مطلوباً- فيما يبدو- من هذا المعلول الذي هو مجرد منتج للحداثة أن يتكفل- وللمفارقة- بإنتاجها، فإنه ليس من الغريب أبداً أن يكون الإخفاق هو مآل مشروع الحداثة العربي، وذلك مع لزوم التنويه بأن الإخفاق هنا لايتعلق بفشل الحداثة في ذاتها، بقدر ما يتعلق بالخلل الكامن في كيفية اشتغال الوعي عليها ومقاربته لها. ولعل مثالاً واقعياً علي النظر إلي معلول الحداثة بإعتباره علة لها يأتي، صريحاً، من التجربة الكمالية في تركيا ما بعد الخلافة العثمانية. فقد مضي الكماليون يقرأون علة الحداثة الأوروبية فيما عرفته تلك التجربة من الفصل الحاسم بين الدين والدولة، وراحوا يرتبون علي ذلك استحالة أي تقدم أو حداثة، ما لم تتوفر، أولاً، تلك العلة المنتجة لهما، ويعنون بها هذا الفصل بين الدين والدولة. وهكذا راحوا يرسخون فصلاً متعسفاً بين الدين والدولة، وأما أنه فصل متعسف فإن ذلك ما تشهد به التطورات الأخيرة في تركيا، والتي تكاد تنطق بأن هذا الفصل قد فرضته الدولة فرضاً إكراهياً علي المجتمع الذي ظل، علي مدي عقود، يتململ ساعياً إلي الانفلات من سلطة العسكر الذين يقومون علي حراسة هذا الفصل. والحق أن مبدأ الفصل بين الدين والدولة قد تبلور، في السياق الأوروبي، ليس فقط كخطوة أخيرة في مسار تطور، هادئ وطويل، للأفكار والنظم المجتمعية والسياسية والاقتصادية التي انتظمها مسار الحداثة، بل وباعتباره مطلباً لكلٍ من الدولة والمجتمع في آن معاً. وهكذا فإن مبدأ الفصل بين الدين والدولة لم يكن سبباً للحداثة- في السياق الأوروبي- إذن, بل كان نتيجة لتبلورها ومطلباً من مطالبها، وهو الأهم. والحق أن اعتبار هذا المبدأ سبباً للحداثة، في التجربة التركية الكمالية تحديداً، لا ينفصل عن حقيقة أن نخبة العسكر التي دشنت هذه التجربة، بزعامة أتاتورك، لم تكن- وقد قبضت علي مقاليد الأمر في الدولة- لتقدر علي أن تفكر (في الحداثة) إلا بحسب منطقٍ إجرائي عملي، وأعني من حيث هو المنطق الذي يناسب فكر السياسي ورجل الدولة الذي لا يعنيه إلا مجرد "قطف الثمرة"، وليس بحسب ذلك الضرب من المنطق التأسيسي، الذي يناسب رجل الفكر المنشغل، في المقابل، بفحص الجذور وتقليب الفكرة. ولعل هيمنة هذا المنطق الإجرائي السياسي، الذي غلب، ليس فقط علي تجربة التحديث الكمالية التركية، بل وعلي تجربة النهضة العربية بأسرها منذ ابتداء تبلورها حتي الآن، هو ما أدي إلي القراءة شبه الدائمة لمعلولات الحداثة بإعتبارها عللاً وأسباباً لها جريدة البديل عدد 10/07/2008 | |
|