فذلكة:
أزعمُ، في هذه المقالة، أنّ كاتباً عربياً استطاع، أخيراً، أن يكتب الرواية الجغرافية الكاملة لأوّل مرّة في الأدب العالمي. فقد أفلح الروائي المصري خيري شلبي في إنجاز رواية جغرافية بديعة في كتابه " بطن البقرة "، بعد أن أخفق في تحقيق ذلك الحلمِ الأديبُ الجغرافيُّ الفرنسيُّ الشهير جول فيرن في القرن التاسع عشر، وبعد أن اقترب من ذلك النوع الأدبي، أو كاد، الروائي الشاعر الأمريكي فردريك بروكوش في القرن العشرين.
جنس الرواية وأنواعها:
قبل كل شيء، ما المقصود بالروية الجغرافية؟ تستلزم الإجابةُ على هذا السؤال تعريف ( الرواية ) أولاً. وهذا أمر على جانب كبير من الصعوبة؛ لأنّ الرواية الحديثة قد تطورت بصورة مذهلة منذ أوّل ظهرها في أوربا خلال القرون الوسطى، حتّى غدت اليوم عنقاء خرافية هائلة تلتهم جميع الأجناس الأدبيّة والفنيّة الأخرى كالسيرة، والشعر، والمذكّرات، والمسرحية، والفنون التشكيلية. وبسطت هذه العنقاء الضخمة جناحيها على جميع المجالات المَعرفيّة كالتاريخ والفلسفة والسيرة وعلم النفس وعلم الإجرام وعلم الاجتماع، إلخ. ولهذا تعدّدت أنواعها بشكل يعجز عنه الحصر، فهناك الرواية التاريخية، والفلسفية، والنفسية، والبوليسية، والسياسية، والسيرذاتية، إلخ. وقد اطلعتُ مؤخراً في الشابكة (الإنترنت) على دراسات فرنسية جامعية وأكاديميّة، متعددة ومسهبة، حول (الرواية المِثليّة) ونوعيها الرئيسَين: (الرواية اللوطية) و (الرواية السحاقية) والسمات المميزة لكل منهما والفروق القائمة بينهما.
بصورة تقريبيّة عامّة ، يمكن تعريف الرواية على أنّها جنس أدبي نثري (على الرغم من وجود روايات شعرية قليلة) يُعنى بسرد حكاية خيالية ذات أحداث كثيرة يقوم ببطولتها شخص أو شخصيات متعدّدة وتجري في فضاء معروف خلال فترة زمنية معلومة. وقد استخدم الروائيون خطابات متباينة بحسب المقام كالخطاب الشعري والتقني والقضائي وغيرها، كما استثمروا في كتابة الرواية أساليب أدبية متنوعة وتقنيات سردية مختلفة، فأنتجوا الرواية الواقعية، والطبيعية، والرمزية، والملحمية، والسوريالية، والعجائبية، وغيرها. فالرواية جنس حرٌّ مفتوح قابل للتجريب في الأشكال والأساليب والمضامين.
وتستجيب الرواية للظروف الاجتماعية والاقتصادية والتطورات العلمية والتقنية في كلّ حقبة تاريخية؛ فتظهر أنواع روائية جديدة تلاءم العصر في أشكالها ومضامينها. ففي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلاديين، مثلاً، أدّى تصاعد الشعور القوميّ في أوربا إلى الاهتمام بالتاريخ، فظهرت الرواية التاريخية التي تستلهم تاريخ الأُمّة وتغذي الاعتزاز بأمجادها لدى القراء، وذلك بتركيزها على أبطال تاريخيين أو على أشخاص خياليين يتحركون في ماضٍِ تاريخي كما يفهمه المؤلّف ويتقبّله معاصروه. وتتطلّب كتابة الرواية التاريخية بحثاً معمّقاً في التاريخ. وقد اشتهر في كتابة الرواية التاريخية السير والتر سكوت (1771 ـ 1832)، خاصة في رواياته: وفرلي (1814)، روب روي (1818)، إيفانهو (1820) التي جدّدت الاهتمام بتاريخ اسكتلندا خلال القرون الوسطى(1). وإبّان النهضة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي، أفاد من هذا النوع جورجي زيدان (1861 ـ1914)، أحد روّاد النهضة العربية وصاحب كتاب " تاريخ التمدّن الإسلامي"، فألّف سلسلة من الروايات التاريخية المشهورة لتغذية الشعور القومي لدى العرب وتنمية الاعتزاز بتاريخهم المجيد ليستعيدوا استقلالهم ووحدتهم.
ومن ناحية أخرى، أدّى تطوّر أجهزة الشرطة في أوربا واستخدامها تقنيات علمية وتقنية أفرزتها الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر في الكشف عن الجرائم وفاعليها، إلى ظهور نوع جديد من الرواية هو (الرواية البوليسية)؛ فاشتهر في بريطانيا، مثلاً، السير آرثر كونان دويل (1859ـ1930) الذي أبدع شخصية المخبر (شارلوك هولمز). (2)
ويثار السؤال هنا، إذن، لماذا لم تؤدِ الاكتشافات الجغرافية التي سبقت حركة الاستعمار الأوربي خلال القرن التاسع عشر، مصحوبة بالتطور الهائل في وسائط النقل كالباخرة والمنطاد والقطار، إلى ميلاد الرواية الجغرافية، في القرن التاسع عشر كذلك، خاصّة أن هذا القرن يُعرف بالعصر الذهبي للرواية؟
جول فرن يطمح إلى كتابة الرواية الجغرافية: كان من المفترض أن تظهر الرواية الجغرافية على يد المؤلّف الفرنسي ذي المواهب المتعدّدة والقلم السيّال جول فيرن ( 1828 ـ 1905)، فقد كان هذا الرجل مغرماً بالجغرافية شغوفاً بأخبار الرحّالة والمكتشفين مولعاً بالإبحار بالقوارب الشراعية. وعلى الرغم من أنه تخرّج في كلية الحقوق بباريس، فإنه لم يزاول المحاماة وإنما تفرّغ للبحث الجغرافي والكتابة الأدبية والمسرحية. وكان يطمح إلى أن يكون جغرافياً بارزاً حتّى أنه انخرط في الجمعية الجغرافية بباريس سنة 1865، وألّف كتابين في الجغرافية: " اكتشاف الأرض: التاريخ العام للرحلات العظمى وللرحالة العظام" في ثلاثة مجلدات (1864 ـ 1880). و" الجغرافية المصورة لفرنسا" (1868). وكان فيرن مولعاً بالقوارب الشراعية وامتلك ثلاثة قوارب بالتعاقب، وعبر المحيط الأطلسي، عام 1867، على باخرة بريطانية من ليفربول إلى نيويورك، ثم قام برحلة إلى شلالات نياغارا.
كان جول فيرن يطمح إلى كتابة نوع جديد من الرواية سمّاه بـ (الرواية الجغرافية). وانتهى إلى كتابة رواية عنوانها " خمسة أسابيع في بالون " نُشرت عام 1863، ظنّ أنها رواية جغرافية، فقد استثمر في كتابتها المعلومات المتوفرة في زمانه عن القارة الأفريقية وتقارير الرحلات الاستكشافية. بيّد أن النقّاد المهتمين بتجنيس الأنواع الأدبية عدّوا هذه الرواية في عداد (رواية الرحلات)؛ فهي تصف رحلة في بالون تقطع قارة أفريقيا من الشرق إلى الغرب، إذ تبدأ في جزيرة زنجبار وتنتهي بشواطئ المحيط الأطلسي.
ثم قاده ولعه بالرحلات البحرية والفلك وإبحاره كثيراً مع أخيه في قارب شراعي إلى كتابة رواية بعنوان " ثلاثة إنجليز وثلاثة روس" (1863) ثم كتابة روايته الشهيرة " حول العالم في ثمانين يوماً" (1865). ولكن هاتين الروايتين تنتميان إلى نوع المغامرات والرحلات، وليستا من الروايات الجغرافية (3).
وخلاصة القول إن جول فيرن على الرغم من أنه كان يطمح إلى كتابة الرواية الجغرافية، وعلى الرغم من أن ميشيل مارغو ، رئيس جمعية جول فيرن في أمريكا الشمالية، زعم بأن " الإبداع الحقيقي لجول فيرن يتمثّل في اختراعه للرواية الجغرافية"(4)، فإن جول فيرن، في حقيقة الأمر، لم يتمكّن من كتابتها، وإنما كتب روايات ذات محتوى جغرافي يقع فيها الإنسان والأرض في مركز اهتمامه ، ولكنه كان يتعامل مع جغرافيتين إحداهما حقيقية والأخرى غامضة، وكان الانتقال من إحداهما إلى الأخرى يثير الخيالي والعجائبي في الرواية، على حين أن قوام الرواية الجغرافية واقعي موضوعي، كما سنرى.
فردريك بروكوش يقترب من الرواية الجغرافية: أما الروائي الشاعر الأمريكي الشهير فردريك بروكوش (1908 ـ1989)، فقد كان قاب قوسين أو أدنى من كتابة الرواية الجغرافية، حتّى أنّ الروائي الفرنسي العبقري البير كامي صاحب روايتي " الغريب" و "الطاعون" الشهيرتين والحائز على جائزة نوبل للآداب، قال، بعد أن اطلع على رواية " الآسيويون" لبروكوش:
" إن بروكوش اخترع ما يمكن تسميته بالرواية الجغرافية." (5)
فقد استطاع بروكوش أن يجعل من الأمكنة في بعض رواياته بمثابة أشخاص الرواية. ومع ذلك، فإن أركان الرواية الجغرافية لم تتوافر في روايتي بروكش الشهيرتين " الآسيويون" و"السبعة الذين فرّوا" اللتين جرت أحداثهما في آسيا، وغلب عليهما الوصف الدقيق للأماكن والأبنية، وذلك لأن بروكوش لم يرَ تلك الأماكن ولم يصل إلى القارة الأسيوية، على الرغم من كثرة أسفاره وتنقلاته، فقد درس في اثنتين من أشهر جامعات العالم في زمانه هما جامعة ييل في الولايات المتحدة الأمريكية وجامعة كيمبردج البريطانية، كما عمل خلال الحرب العالمية الثانية ملحقاً ثقافياً للولايات المتحدة الأمريكية في البرتغال والسويد، ثم عاش حياة مترفة في أوربا والتقى بكثير من مشاهير الأدب العالمي في عصره وتحدّث عنهم في مذكراته. ومع كثرة أسفاره ورحلاته تلك، فإن لم يصل القارة الآسيوية ورواياته عامة و" الآسيويون" خاصّة، لم تستند إلى أماكن واقعية وإنما كانت قد فرّخت في خياله بفضل ثقافته الواسعة وقدراته الإبداعية الفائقة.
ولهذا كلّه، يمكن القول إنّ بروكوش اقترب من كتابة الرواية الجغرافية في روايته " الآسيويون"، ولكنها افتقدت شرطاً هاماً من شروط الرواية الجغرافية، ذلكم هو شرط الموضوعية والواقعية في وصف الأماكن الجغرافية.
أركان الرواية الجغرافية: الرواية الجغرافية نوع هجين ينتج من زواج يُعقد بين الأدب (الرواية) والجغرافية (الخطط). ولكي ينجح هذا الزواج وينجب الزوجان مولوداً سليماً رائعاً، لا بُدّ من وفاق وتواؤم في الحياة الزوجية بحيث يتنازلّ كل طرف من طرفي العلاقة الزوجية عن بعض طباعه ليلاءم الطرف ا لآخر.
في الرواية الجغرافية، تتنازل الجغرافية عن أسلوبها العلمي ومصطلحاتها التقنية وتعبيراتها المجرّدة من العواطف الذاتية، لصالح الأسلوب الأدبي الشاعري الفني المزيّن بالمجاز والصور الاستعارية والمضمَّخ بمشاعر الأديب وأحاسيسه الجامحة. ويتنازل الأدب، من جهته، عن الخيال من أجل أن يفسح المجال للموضوعية الجغرافية.
فالجغرافية علم موضوعي تزداد قيمتها كلما كانت لصيقة بالحقيقة المادية، فهي تختلف عن الأدب الذي تزداد قيمته كلما ابتعد عن الواقع وأغرق في الإبداع والخيال. بل تختلف الجغرافية، من حيث موضوعيتها، حتى عن التاريخ الذي قد يتسرّب إليه كثير من الخيال والتحزّب والتزوير، على الرغم من حرص المؤرِّخين على إتّباع منهجيات موضوعية في تمحيص الأخبار وتوثيقها. وهذا ما علّله المؤرخ عمر فروخ بقوله:
" التاريخ رواية: يرويه راوٍ متأخّر عن راوٍ متقدّم. وفي مسيرة أحداث التاريخ من راوٍ إلى آخر، تتعرّض تلك الأحداث للتبديل أو للزيادة والنقصان." (6)
وهو ما عبّر عنه الشاعر عبد الوهّاب البياتي بقوله:
كاذبة كتب التاريخ
ما كان الإسكندر تلميذاً لأرسطو
ما كان سوى جلاد
يغزو من أجل الغزو
ليشفي غلّته
بدماء جنود الفقراء(7).
ويكمن سرّ موضوعية الجغرافية في أنها لا تتناول الإنسان وقيمه وسلوكه ومشاعره ومواقفه والأفعال التي ينجزها، بل تتناول الأرض وتضاريسها وأنوائها أو الأماكن ومعالمها وما يطرأ عليها من تغيرات وتحوّلات عبر القرون والسنين. وهذه العناصر التي تتناولها الجغرافية عناصر ماديّة قابلة للدرس الموضوعي التجريبي. ومثلها في ذلك مثل العناصر التي يدور حولها علم الفيزياء أو الكيمياء.
وتختلف الرواية الجغرافية، عن بقية أنواع الرواية في أن الشخصية الروائية فيها هي المكان. فإذا كانت الأنواع الروائية الأخرى تسرد سيرة شخصية مركزية أو شخصيات متعددة، وما الفضاء فيها إلا مجرد عنصر ثانوي وجِد ليتحرك ويتفاعل فيه شخصيات الرواية، فإن الرواية الجغرافية تسرد سيرة مكان واقعي( بلاد، مدينة، حارة، شارع، إلخ. أو جميع ذلك) والتحوّلات التي طرأت عليه عبر الزمان، وما الشخصيات التي يرد ذكرها إلا مجرد عناصر ثانوية ذُكرت عرضاً بفضل ارتباطها بذلك المكان. ولهذا فإن كتابة الرواية الجغرافية تتطلّب من المؤلِّف، إحساساً عميقاً بالمكان، بل تعلّقاً وتولّهاً وافتتانا به، وحرصاً على سلامته وصيانته وازدهاره ودوامه. وكما تتفاعل شخصيات الرواية فيما بينها ويؤثّر بعضها في بعض ويتأثّر به، فإن الأمكنة في الرواية الجغرافية يتأثّر بعضها ببعض على جميع المستويات، التاريخية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
قد يُكثر الروائي من وصف الأماكن ومعالمها في روايته مع إحساس عميق بتلك الأماكن وخصوصياتها، كما فعل الإنجليزي توماس هاردي في " وسيكس"، وكما فعل نجيب محفوظ في ثلاثيته القاهرية، وكما فعل محمد أنقار في روايته " المصري" التي أوقفها على مدينته تطوان. ولكن ذلك لا يكفي لجعل الرواية رواية جغرافية. لا بد من أن يكون المكان هو الشخصية الروائية. وبعبارة أخرى تؤدي الأمكنة دور الشخصيات الروائية في الرواية الجغرافية. وفي هذا يقول خيري شلبي في روايته " بطن البقرة":
" العصر كالمشاعل، والرجال هم زيتها الباعث الضوء فيها؛ وهم أيضاً نتاج الأمكنة بقدر ما يؤثِّرون في الأمكنة. والأمكنة كالبشر تخضع للميلاد والموت كما تخضع لعوامل التألق وعوامل الاضمحلال حسبما ينطوي عليه باطنها من مواهب وإمكانات." (
( يا سلام على الفكر السامق المتبختر ببردة أسلوبية ملوكية!)
إن الذين حاولوا كتابة الرواية الجغرافية، إنما صدروا عن اعتقاد راسخ بأن الجغرافية هي حجر الأساس لجميع المجالات الإنسانية والمعرفية الأخرى؛ فلا تاريخ بلا جغرافية، ولا اقتصاد بلا جغرافية، ولا سياسة بلا جغرافية. فالجغرافية منطلق كلّ شيء ومنتهى كلّ شيء. ولهذا تتطلب كتابة رواية جغرافية جيدة ثقافة موسوعية شاملة توافرت لدى كاتب مبدع متعدد الاهتمامات.
وإذا كانت غاية الرواية التاريخية، مثلاً، إثارة الوعي والاعتزاز بماضي الأمة وتاريخها المجيد، فإن غاية الرواية الجغرافية هي إثارة الوعي بالمكان وأمجاده وضرورة الاهتمام والاحتفاء والعناية به، من خلال تبيان جمال معالمه، وضخامة الأحداث التاريخية التي كان مهداً لها، وروعة الحضارة التي أنجبها.
وخلاصة القول، إن (الرواية الجغرافية) هي نوع من جنس الرواية يكون فيه المكان الواقعي بمثابة الشخصية المركزية، فتُوصَف معالم ذلك المكان وتسرد سيرته عبر فترة زمنية محددة.
وينبغي التنبيه هنا إلى أن (الرواية الجغرافية) هي غير (جغرافية الرواية)، وهو مصطلح استعمله الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس وجعله عنواناً لكتاب له يضم بعض مقالاته ومحاضراته التي تتناول معالم الرواية المكتوبة بالإسبانية وتضاريسها، ومواقع الروائيين عليها (9)
خيري شلبي والرواية الجغرافية في " بطن البقرة": قبل كل شيء، ينبغي أن نعلم أن خيري شلبي تعمّد كتابة رواية جغرافية عن كامل وعي وإدراك وسبق إصرار، وأنه كان على معرفة تامة بشروط الرواية الجغرافية ومقوماتها وغاياتها وتقنياتها، بل لا شك في أنه كان يشعر أنه مُقدم على تأسيس نوع جديد من الرواية يكون هو رائده. ويتضح لنا ذلك من (عتبات النص). وتعني عتبات النص، في المدارس النقدية الحديثة، ما يسبق النص من عنوان وعنوان فرعي وصورة غلاف وإهداء ومقدمة وكل ما يراه ويقرأه المتلقّي قبل دخول عالم النصّ الأدبي مما يلقي ضوءاً على النصّ ويوجّه عملية التلقيّ وجهة معينة، أو يثير توقّعات معينة لدى القارئ، أو يزيد من توهّج القراءة ومتعتها.
وتتجسد (عتبات النص) في " بطن البقرة " في ثلاث هي: العنوان الفرعي، والإهداء، والمقدمة؛ وإليك بيانها:
أولاً، العنوان الفرعي : بطن البقرة: جغرواية
من أول صفحة من الكتاب، بل من العنوان، يعلن المؤلِّف بأن هذا الكتاب هو رواية جغرافية. وهذا الإعلان يشكّل جزءاً أساسياً من ( ميثاق القراءة )، كما يسميه النقد الحديث. وكان الناقد الفرنسي المعاصر جيرار جينيت أول من تحدّث بالتفصيل عن ذلك في كتابه " عتبات"(10). فالمؤلِّف يتعهّد في هذا الميثاق من خلال العنوان الفرعي بأنّه سيقدّم للقارئ مسرحية هزلية، مثلاً، والقارئ يقتني الكتاب ويشرع في قراءته على هذا الأساس. فإذا تبين للقارئ بعد بضعة سطور أو صفحات أن الكتاب هو في الكيمياء، مثلاً، نقول إن الكاتب أخلّ بالتزاماته وخرق (ميثاق القراءة). ويكون مَثَلُ الكاتب في ذلك مَثَلَ صاحب المطعم الذي يكتب في اللافتة التي تحمل اسم مطعمه عبارة " متخصص في الأسماك"، وعندما تدخل المطعم وتستقر في منضدتك، يأتيك النادل ليقول لك: لدينا أرانب مشوية فقط.