إنتحار الشعراء وبعض المشكلات الفكرية لشعر السودان المعاصر
د.أحمد عكاشة أحمد فضل الله
(باحت في الفكر والثقافة السودانية)
لاهاي – هولندا
الإهداء: إلى روح عبد الرحيم أحمد أبوذكرى
(شاعر سوداني راحل 1944-1990م)
مقدمة:
في نهاية عام 2006م استعاد بعض الكتاب في الصحافة الإلكترونية ذكرى وأشعار عبد الرحيم أبو ذكرى . هو شاعر وباحث في الآداب العالمية رحل عن عالمنا في بداية التسعينيات من القرن ال20. وقد فارق الشاعر الدنيا في أوان من إختياره وعلى نحو إرتضاه. وقبل متابعة النقاش لا بد من الإقرار بحقيقة أن الشاعر الراحل كان ذا موهبة شعرية خلاقة واتصف كشخص بالكثير من الود والرقة والوداعة والإحساس المرهف. وكان إمرئ خيراً حقاً.
هذه المقالة لا تهدف إلى غير معالجة المشكلات الفكرية التي طرحها إبداعه وانتحاره. وهي المسائل التي شعرت بأنها لم تلق معالجة أرحب حينما ستعاد ذكرى وأشعار أبي ذكرى في صفحات المطبوعات السودانية. وغالباً ما يعمد الأشخاص الذين عرفوا عن قرب عبد الرحيم أبو ذكرى إلى تذكر حياة وإبداع هذا الشاعر الذي آثر العزلة والإنزواء.ومثلي مثلهم كانت لدي بعض المعرفة الوثيقة بالشاعر الراحل, وتعود الصلة بيننا إلى سنوات الشباب والدراسة, فقد جمعتنا عضوية الجمعية الأدبية في خور طقت الثانوية وحينذاك أصبحت شاهداً على نبوغ شعري مبكر ولمست الحياء والرقة اللذين كانا يميزان خلق وطباع الشاعر وكذلك جمعتنا دراسة الأدب الروسي أبان الدراسة الإعدادية للتحصيل الجامعي. وفي تلك الفترة تلمست بعض الجوانب الفكرية لشعره وشغفه بقضايا الأدب الروسي وعبرها بقضايا الإبداع الإنساني قاطبة ومن ثم فرقت بيننا الإيام, غير أن معرفتي به على قصرها فرضت على أن أحي ذكرى مبدع طرح نتاجه الشعري وانتحاره بعض ضرورة مناقشة المشكلات الفكرية للإبداع السوداني.
إنتحار النفس الشاعرة:
قبل عبد الرحيم أبو ذكرى فجع الأدب السوداني على نحو مماثل في أحمد الطيب عبد الحفيظ (شاعر ومربي وعالم) وكذلك في محمد عبد الرحمن شيبون (شاعر ومربي ومناضل وطني). وهي فواجع متباعدة زمنياً وكذلك لم يصبح انتحار الشعراء نوعاً من الظواهر المميزة للحياة الأدبية في السودان. ما يجمع بينهم حقيقة أنهم شعراء وأن رحيلهم من الدنيا قد جاء على نحو وفي أوقات من إختيارهم, وكذلك في حالات إنتحار- النفس الشاعرة يجد المرء نفسه في ميالاً للبحث وسط الغموض والحيرة- عن دوافع قيام هذا الشاعر أو ذاك بإزهاق روحه بيديه. ويهدف مثل هذا البحث إلى العثور على تصريح أو بيان صدر عن قصد أو بدون قصد اريد بالإنتحار النطق بهما, أية رسالة قصد البوح أو الايحاء بها بواسطة إزهاق الروح.
فإذا ما أراد أحد الشعراء أن يخلف وراءه أسطورة حول ذاته فإن الإنتحار يشكل آخر فصل من فصول تلك الأسطورة.إذ يمكن للإنتحار تأكيد الإتجاه العام لحياة وإبداع الشاعر, إذ أنه قد يكون دلالة على صدق نوايا الشاعر أو أنه قد يلقي بظلال من الشك العميق على قيم وفكر وإبداع الشاعر. وكان كل من محمد عبد الرحمن شيبون وعبد الرحيم أبو ذكرى مثالاً للإنتحار الذي جرى تفسيره على وجهين نقيضين. لقد فسر انتحار كل شاعر على أنه مغادرة لحياة سئمها فقرر إنهاءها بدون وجل أو أسى وأن كل شاعر لقي الموت بدون رهبة أو جبن. وكذلك فسر البعض انتحار كل شاعر على أنه هروب الجبناء من المشكلات والآلآم التي تعمر بها الحياة.
وقليل من الشعراء المعاصرين أثاروا الإهتمام مثل ذلك الذي لقيه عبد الرحيم أبو ذكرى: إذ في بداية شبابه لقي نشيده (من طقت الكبرى أصدح بهذا النشيد...) لقي ذيوعاً شديداً. آن ذاك اتجهت إليه الأنظار كشاعر يتناول بشفافية شاعرية التجربة الإنسانية في السودان حديث العهد بالإستقلال والتحرر, وكانت أشعاره معنية بمشكلات التقدم والتحرر الإنساني والجماليات المعاصرة. وأظن أنه إلى حين رحيله المؤسف كانت حياة الشاعر أبو ذكرى عامرة بمعالجة هذه المشكلات الفكرية وقضايا الشعر والإبداع.
هنالك إضافة هامة أخرى, هنالك الكثيرون من معارف الشاعر الذين أشاروا إلى أنهم فجعوا بإنتحاره ولعل بعضهم إعتقد بأنه لا يزال ذاك الشخص عميق الإهتمام والتفكير الذي اعتادوه. ولعل البعض الآخر منهم لاحظ انحطاط معنوياته واكتئآبه وتوتره. ولا يمكن للخوض في الخصوصيات أن يجدي إلا أن الأسئلة التي طرحها إنتحار الشاعر يمكن العثور على إجابات أجدى وانفع لها إذا ما إستقصيت حياته الفكرية وابداعه الشعري أكثر من التركيز على حياته الشخصية.
وفي واقع الحال أن كل وجود أنساني هو تجربة وبحكم طبيعته هذه يوفر أجوبة حول مإذا فعل فرد ماء بحياته؟ وأظن أن حياة أبي ذكرى إذا ما درست توفر إجابات شيقة من حيت تعدد إمكانياته الإبداعية وأبحاثه في مجال الآدآب العالمية وكذلك تعددت وتنوعت الحركات التاريخية التي أثرت تجربته الشعرية: الفكر الذي أفرزه الإستقلال الوطني, الدراسة في الإتحاد السوفيتي التي مكنته من التعرف على شعراء وأشعار بروليتاريين وكذلك عرفته بمشكلات الآدآب العالمية.
حينما انخرط عبد الرحيم ابوزكرى فى دراسة الادب الروسى ، كان شاعرا معروفا . وعلى الرغم من ذيوع صيته آثر دراسة الادب الروسى والادب العالمى عامة . واضحى كلاهما هما اديبا وبحثيا لابى ذكرى حتى مفارقته الحياة .
كانت موسكو ايام الستينات من القرن الماضى اكثر الاماكن امتاعا لفرد ذى طبيعة ابداعية وشاعرية فذة . كانت موسكو مركزا هاما (عاصمة لقوة عظمى – اتحاد السوفيات ومركزا للفكر اللينينى الثورى والبناء الاشتراكى كما كان يعتقد )
وكذلك كانت مدينة المسرح ، السموفونيات والاوبرا والبالية . وكانت تعيش فيها الانتلجنسيا العمالية . وآنذاك بدا ابوذكرى مهتما بالحياة الثقافية في روسيا اذ كان يعتقد بأنها جيدة أو لعله وجدها أحسن من الاجواء الثقافية والفكرية السابقة لقدومه الى موسكو .
غير ان للحياة الثقافية فى روسيا السوفيتية اوجه مغايرة عدة منها :
- لايمكن لاى مبدع روسيا كان او اجنبيا الجمع بين الابداع والنهج البوهيمى فى العيش او السلوك الفردى
- كانت هنالك الارثوذوكسية الماركسية وهي سلطة سياسية ورقابة على الفكر والادب والثقافة ، والى جانبها وجدت ثقافة وابداع الاحتجاج وكذلك كان هنالك الابداع المحرم – الجزء الذى يلقى فى الغالب رضا الاجيال الناشئة والمبدعين الذين يتسع افقهم الفكرى والثقافى فى حين تعتبره السلطة هداما او مغايرا .