قصـة قصـيرة
حسين عبدالغنى ابراهيم
ألهبتها كثيرا دموع أمها كلما أرادت أن تغسل جسدها الصغير .. لتلبسها ملابس نظيفة .. كبرت بعض الشئ .. تغتسل دون مساعدة .. تدخر حياءها .. وتدخر أمها دموعها .. ارتدت ملابسها .. صففت شعرها .. جمعته خلف رأسها بدبوس جميل .. جذبت بعضه على كتفها الأيمن ..
دبوس آخر ثبت كمها الأيسر فى جيب الفستان .. تأكدت من جمال مرآتها الصغيرة .. مازالت تعلو ابتسامتها براءة الطفولة .. بدأت تغزو خديها ورود الصبا ..
خرجت لتمازج أنفاسها نسمات شجرة الليمون التى تنتظرها دائما أمام البيت .. جذبتها زغاريد وطبول الفرح فى الحارة المجاورة .. عيون كثيرة ترقبها .. حياؤها يطأطئ رأسها فى عزة .. ويلعثم خطوها فى زهو .. ذابت وسط النساء والأطفال .. ترقب العروس .. فستانها الرائع ممتلئ كله ولكن فى رشاقة وإبهار .. أياد كثيرة تتلقف طبلة الفرح .. مفاتن لا تحصى أبدتها شقشقات أنامل النساء .. تحاول هى أن تشارك .. صارت بلورة ملحية فى نهر عذب .. كفت عن الذوبان .. تجمعت .. ترسبت .. خرجت مسرعة .. دارت شجرة الليمون وجهها خلف ظلمة الليل .. أهدتها قطعة من أحد أغصانها .. بطول نصف ذراع وضعتها بين سريرها والحائط .
فى كلية الفنون الجميلة تعجب الكثيرون من فنها .. أتقنت الرسم على جميع الأسطح .. عشقت تلميذاتها حصة الرسم .. و عالمها الجميل .. مياه صافية .. سمكات كبيرة تحنو على صغارها .. قطط بريئة تطعم صغار الفئران التى ذهبت عنها أمها .. فى نهاية السبورة تصير الصدقة فى يد الفقير خبزا و ملابس يفرح بها أطفاله .. عند نهاية الحصة يتساقط عالمها الجميل ذرات جيرية هشة .. تخترقها أصابع حامل السبورة الخشبى .. تطؤها أقدامه .. تجف المياه .. تفر السمكات الصغيرة .. ترتعد الفئران .. يتلاشى الخبز .. تتمزق الملابس .. يبكى الصغار ..
خطبت زميلاتها .. تزوجت .. أنجبت .. ثقل حزنها أنهكها ذلك الميلاد المبتور .. جعل اسمها كشمس الشتاء .. متوارية خلف آلاف السحب .. أكملت رعايتها لغصن الليمونة .. صار نصف ذراع .. فى نهايته كف مضمومة .. أضافته إلى نصف ذراعها .. ذهب ذبول كمها الأيسر .. دخلت فصولها .. أيقظت كائناتها .. دبت الحياة فى عالمها .. صفقت التلميذات تصفيقا طويلا ..
عند العودة .. سقط غصن الليمونة وسط الزحام .. بكت الشجرة .. صار مكان الغصن جرحا غائرا .. ينزف عند الصباح .. و تطويه الشجرة تحت جناحها عند المساء .