قصــة قصــيرة
حسين عبد الغنى إبراهيم
و انطلق الصوت المحشو برصاصات الحيرة يسأل : هل تحبنى ؟
كان صوتها يحمل بين ثناياه كل أنوثتها : ترقبها لإجابة كتب السؤال بعض حروفها .. تأهب و استعداد لعطاء لا نهائى .. رجاء يتمنى أن يتخلص من غلالته الهلامية ليخرج إلى النور أزهاره بلا خجل .. حياء يتفانى ليوارى نبضا لا غنى عنه للحياة .
كانت فى فترة ماضية تخترق حجب الأحلام حتى انكسرت إحدى قوائم سريرى ليحيل مسيرة القوائم الثلاثة الأخرى كوابيسا و فزعات .
أوشك النهار أن يسلم مرايا أحلامها إلى الليل ليمسى سؤالها زهرات فى صلابة الفولاذ .. حنانا يتأهب للهجر .. فرحة تستعصى على التحقق .. خضرة يلفها الليل بظلمته .. أو هكذا تفاعل السؤال بداخلى ليبعث فى القلب دفئا يتبدد طى هالة جليدية تعيده إلى ذلك الشتاء المرعد .
كان الليل رغم قسوته يخلصنى من بعض علاقات يائسة .. لأبثه بعض شجون النفس و أمانٍ يمحوها استسلام الجسد فوق مرتبة سئمت رقدتها .. تحملها صناديق كنت أودعها أشياء لا تصلح للأحلام .. لكنها رغم ما تحويه ..أخرجت ذلك السرير الأعرج إلى هامش الوجود .
لم يطرأ بذهنى أن يجمعنا ذلك المكان على شاطئ البحر الذى يقع فى الأغلب عند أطراف النهار .. لأعدو أمام جوادها بحثا عن إجابة .. بعد أن امتطت هى صهوة السؤال .. تقوى أحيانا و تضعف أحيانا أسباب عدم توقعى له .. خاصة أن جمالها لم يكن ذلك الجمال الهادئ الذى أتمناه .. إضافة إلى سبب آخر هى وحدها صاحبة الحق فى الحديث عنه . فلماذا أثار السؤال بداخلى كل هذه الأشياء ؟!
لم تتلاقى شفتاها بعد أن رمت إلى صدرى بهذا السؤال من خلف ستار البراءة الشفاف .. لتبدو كأنها تلك الموجة الأسطورية العالقة بين القاع و بين السطح .. و التى من أجلها تثور أو تهدأ كل موجة من أمواج البحر ...
لم يكن لقاؤنا بناء على موعد مسبق لكن ما حدث يومها هو أننى – وبعد أن انقضى معظم النهار – خرجت لشراء شئ ما .. أودعته قصاصة من الورق كى لا أنساه .. فإذا بى تستوقفنى ضجة فى الطريق .. حشد من الناس .. رجال ونساء .. شباب و فتيات .. مسنين وعجائز .. يحيطون بشئ ما .. يتسابقون فى الوصول إليه .. يدفعنى الفضول إلى اختراق هذا الحشد .. يعلو الوجوه حياء شديد لم أره إلا عند الخروج من بينهم .. فى بؤرة أنظارهم رجل كأنه فى مكانه منذ الأزل .. جلسته متمكنة رغم حنوه على المحيطين به .. قوة عاتية تنبع من داخله رغم الوهن الذى خلفته السنين .. حكمة طاغية تقطر من أطراف أصابعه .. تحيط يداه بصندوق ذى ألوان متعددة .. كأنه مجمع ألوان الكون .. ما يكاد يواجهه أحدهم حتى ينظر فى عينيه .. تطول النظرة أو تقصر .. ثم تمتد إليه يده بخاتم ذى فص دائرى أو مثلث أو مربع .. أو متعدد الأركان . . صور كثيرة لم يطل انتظارى و لم أتمكن أن أحصيها ...
ويجئ دورى لأرى فى عينيه عمقا لا نهائيا تتضاءل على حافته كل تجاربى الماضية .. كأنها اللاشئ .. و هو يمد يده بذلك الخاتم .. مشيرا به إلى أحد أصابعى الذى تلبسه و احتواه على الفور .. كما فعل مع كل من سبقونى إليه ...
كانت لحظات خروجى من وسط الحشد دهورا .. تدفعنى الدهشة و الرغبة فى تأمل ذلك الخاتم ...
أخيرا هاهو .. لم أشأ أن أنزعه .. قلبت يدى لأراه جيدا .. كان له فص مربع ذائب الأركان .. أقرب ما يكون إلى الدائرة .. اكتشفت عند مسحه أنه غطاء فوق صندوق فارغ صغير ...
لم أدر لماذا فكرت أن أضع شيئا ما بداخله .. كانت تلك القصاصة التى طبقتها مرتان .. و لففتها مرتان .. ثم وضعتها داخل الصندوق الصغير وتركت الغطاء لينجذب إلى حافته بقوة غير عادية ...
تملكت تفكيرى هيئة ذلك الخاتم .. غطاؤه .. صندوقه.. الناس حول الرجل .. ماذا سيضعون داخل خواتمهم .. وهل لها أجواف كهذا الذى فى إصبعى .. شغلنى الرجل .. ماذا يرى فى أعين الناس .. كيف يحدد شكل الفص .. دائرة الخاتم المناسبة لإصبع الرجل أو السيدة أو الفتاة أوالشاب..و لماذا هم مقبلون عليه لهذه الدرجة ...
أسئلة كثيرة كنت على أثرها أسير فى طرقات غير مألوفة .. لأسأل نفسى عن سبب وجودى هناك .. أمسكت بيدى فى حيرة .. الخاتم ..الورقة .. كان خاليا تماما ...
تذكرت أو حاولت أن أتذكر ..نزعت قصاصة من هامش الجريدة لأكتب عليها ذات الشئ مرة أخرى أو كأنه هو .. شئ ذو أهمية معينة .. ربما مفرحة أو محزنة .. ربما موعد لصديق .. أو شئ ما يجب أن أشتريه ...
مرة أخرى وجدتنى فى مكان لم أعنيه .. كان هذه المرة شاطئ البحر .. بقرب فتاة .. أعرفها .. إنها هى ...
أثناء تجاذب أطراف الحديث .. كان سؤالها .. و كانت حيرتى تبث لأصابعى بحركات عشوائية .. لتعبث بغطاء الصندوق الذى كان فإرغا !!!.............................................................................
انطلقت منها ضحكة عالية .. التفتت إليها جميع الأسماك و الحيتان و طيور البحر حتى شمندورات البحر رأيتها فى تلك الساعة تتراقص ...
كانت هى تشبه طفلة غارقة فى حيائها و هى تخفى وجهها و بقايا ضحكتها خلف كفيها .. عندما أذهلتنى تلك الصورة الأخرى من الخاتم فى إصبعها .. و قبل أن أسألها عنه كانت تقول :
إن كنت حقا تحبنى فإنه لك عندى أغلى ما تتمنى .. ثم انتزعت قصاصتين من هامش الجريدة لتكتب على إحداها كلمات .. و لتعطينى الأخرى قائلة :
أكتب نفس الكلمات التى كانت " كل آلام الماضى " ...
وعلى الفور كانت القصاصتان داخل الصندوقين .. لنلقى بهما بعيدا .. عند أعلى أمواج البحر .