عجائز إسماعيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان إسماعيل أول موظف
يوقع فى دفتر الحضور
رغم أنه لم يكن سعيدا
بعمله كاتبا فى نيابة مركز قنا
وكثيرا ما كان يعود إلى بيته
وهو يفكر فى استقالته .
لم يكن جسمه النحيل
على استعداد لحمل أكثر من مأساته
حذره الأطباء من العمل بالفلاحة
كيف لم يحذروه أيضا
من النظر إلى أرضه وهى تبور
أعجبته الوظيفة بادئ الأمر
قال : خدمة الناس حلوة
واحترام شيخ الخفراء لى
شئ كبير
أسندوا إليه دفتر الشكاوى الإدارية
تصفحه بحماس مكتوم
وأخذ يترقب أول قادم
عاملها كضيفة
وهو ينظر إلى تجاعيدها بود ومهابة
لماذا تأتين يا جدتى بمفردك ؟
من الشقى الذى ينازعها
رائع أن أبشرها
رائع أن أبصر فرحة المسنّين .
عثر على اسمها فى الدفتر
وأخبرها بحفظ الأوراق
ولأنه كان موظفا جديدا
تطوع زميله وشرح الأمر
لم تصدق أنها خسرت القضية
وأخذت تصرخ فى وجه إسماعيل
تتهمه بالرشوة
وتدعو الله أن لا يأخذ روحها
قبل أن تراه مشلولا
تستَّر إسماعيل بالذهول
وأخذ يحدق فى باب السماء
غابت العجوز فى الزحام
لكنه ظل يسمع صوتها
كلما نام
وكلما استيقظ
صمتَ بقية اليوم
ولم يأت فى اليوم التالى
احتاج لعام كامل
كى ينسى ما حدث
واحتاج لعشرة أعوام أخرى
كى يصبح مشهورا بحكاياته مع العجائز
تدخل إحداهن
تجلس بجور مكتبه
مثل خطيئة
وتفرط ساقيها مثل صيف
يعجز عن إقناعها بالجلوس على الكرسى
تُخرج كيسا مليئا بالأوراق والبقع
تعرضها ورقة ورقة
تتوسل إليه كى يقرأها
حتى يعرف أن الحق معها
يقرأ إسماعيل
وهو يعلم أن لا ورقة تنفع القضية
فى النهاية يعطى الشكوى رقما
ويطلب من العجوز
المرور عليه بعد فترة
هكذا
ترووووح
وتجيء
مثل شبح بائس
وفى كل مرة
تروى قصاصة من حياتها
وتسهب فى مغزى ولائم السرية
يقيمها عدوها
ودائما تنهى كلامها
بأن يشق الله لإسماعيل
فى كلى بحر طريقا
وعندما يأتى قرار حفظ الشكوى
يسقط إسماعيل من حدقتيها
تصرخ فى الموظفين ورواد المحكمة
بينما تدعو على الدلال والشهود والمعاينات
تدعو وتصرخ
إلى أن يتحلل الصمغ الذى يلم أعضاءها
لكنها فى اليوم التالى
تأتى بصمغ جديد
وشكوى جديدة
هكذا
تروح
وتجئ
مثل مارد معلول
ينتبه إسماعيل إلى انقطاع واحدة من عجائزه
وعندما يعرف أنها ماتت
يطرق قليلا
كى يخمن اليوم الذى انقبض فيه صدره
اليوم الذى شيّعوا فيه جنازتها
أكثر ما كان يؤلم إسماعيل
الهدايا التى كنَّ يقدمنها
انتظرته إحداهن ـ مرَّة ـ بصُرَّة تمْر
وذهبت أخرى إلى بيته
وفى طرحتها دجاجة تضطرب
لكنه كان يرد الهدايا
بابتسامة مريرة
وهو يضع يده على جنبه الموجوع
شاردا مع الذين يقبلون مثل هذه الأشياء
دون أن يلتفتوا
للدماء التى تغلفها
لم يكن إسماعيل قادرا على فعل شئ
فهو موظف لا أكثر
يقيد المحاضر والتصرفات
غير أنه كان يشعر بمسؤولية تجاه عجائزه
كثيرا ما كان يعود إلى بيته
باكيا من أجلهن
يفكر فى استقالته
ولا ينساهن فى صلاته
أو عندما يحكى مع أهله
فى الليل
عندما تكتمل وحدته
يقرأ حطامهن الذى لا يلهث
بعد طلوع السلم
يقرأ الألسنة التى بتروا أياديها
وما زالت تلوِّح
يقرأ استمرارهن فى المعارك
بلا سلاح
يقرأ حتى يمتلئ مرة أخرى
بالرغبة فى أن يكون أول موظف
يوقع فى دفتر الحضور .
***
من مجموعة (الخيط في يدي ) 1997