فضاء الإبداع
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فضاء الإبداع

هذا فضاء للجميع فدعونا نحلق معا في أفق الإبداع
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الناس مع الغالب لا المغلوب..أمير الصعاليك في مواجهة السلطة..زكريا الحجاوي/أنور السادات

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عصام الزهيري
مشرف قسم القصص والروايات
عصام الزهيري


عدد الرسائل : 460
العمر : 51
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

الناس مع الغالب لا المغلوب..أمير الصعاليك في مواجهة السلطة..زكريا الحجاوي/أنور السادات Empty
مُساهمةموضوع: الناس مع الغالب لا المغلوب..أمير الصعاليك في مواجهة السلطة..زكريا الحجاوي/أنور السادات   الناس مع الغالب لا المغلوب..أمير الصعاليك في مواجهة السلطة..زكريا الحجاوي/أنور السادات I_icon_minitimeالأربعاء 23 يوليو 2008, 1:26 am

فنان الشعب زكريا الحجاوي: أمير الصعاليك


رجاء النقاش


في صيف عام 1953، قرر مجلس قيادة الثورة في مصر إصدار أول صحيفة تنطق باسمه، وصدر ترخيص هذه الصحيفة وهى صحيفة «الجمهورية»، وكان صاحب الامتياز الصحفي، أي مالك الجريدة وهو جمال عبدالناصر حسين، ولا يزال هذا الترخيص ـ فيما أعلم ـ موجودا إلى الآن في هيئة الاستعلامات باسم جمال عبدالناصر، قرر مجلس قيادة الثورة أن يكون المسئول عن إصدار الجريدة هو أنور السادات الذي كان في المنصب المعروف الآن باسم رئيس مجلس الإدارة، أما رئيس تحرير الجريدة فقد وقع اختيار الثورة على الصحفي الراحل الأستاذ حسين فهمي ليشغل هذا المنصب، وكان حسين فهمي رئيسا لتحرير جريدة «الزمان» المسائية التي كان يملكها إدجار جلاد باشا أحد الرجال المقربين إلى الملك فاروق، ولا أعرف الأسباب التي جعلت مجلس قيادة الثورة يختار حسين فهمي بالتحديد لرئاسة التحرير، فلم يكن حسين فهمي من المعروفين بأن لهم صلة سابقة برجال الثورة، مثلما كان معروفا عن أحمد أبو الفتح وإحسان عبدالقدوس وحلمي سلام، ثم ذلك النجم الذي بدأ يلمع بقوة وسرعة في تلك الأيام وهو محمد حسنين هيكل.

وكل ما سمعته عن سبب اختيار حسين فهمي لرئاسة تحرير «الجمهورية» هو أنه كان قريبا لأحد الضباط الأحرار المهمين وهو لطفي واكد، وكان لطفي واكد في ذلك الوقت مديرا لمكتب عبدالناصر ومن أقرب الضباط إليه. على أن الرجل الأول في مشروع جريدة «الجمهورية» كان هو أنور السادات وكان هو صاحب القرار في كل شيء، ولعل عبدالناصر قد اختار أنور السادات لمشروع جريدة «الجمهورية»، لأن السادات كان يعمل بالصحافة في فترة من حياته قبل الثورة، فقد عمل في مجلة «المصور»، وعمل في «روزاليوسف»، وكان بصورة عامة معروفا في الأوساط الصحفية في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات قبل الثورة.

وقد شعر رجال الثورة بعد أن تولوا السلطة أنه من الضروري أن تكون لهم جريدة تعبر عنهم وتنقل وجهة نظرهم إلى الناس، ولم تكن فكرة تأميم الصحف قد تبلورت في أذهانهم بعد، حيث إن هذا التأميم أو التنظيم كما سمي في وقتها لم يتحقق ـ فيما أذكر ـ إلا في مايو 1960.

أما الصحف اليومية الكبرى القائمة في ذلك الحين في مصر فكانت هي «المصري» و«الأهرام» و«الأخبار»، ولم يكن رجال الثورة يشعرون بالاطمئنان إلى هذه الصحف، وكانت «المصري» بالتحديد تمثل أكبر تهديد وأخطر مصدر من مصادر القلق بالنسبة لهم، فهي جريدة قوية واسعة الانتشار والتأثير، وهى من ناحية أخرى جريدة «حزب الوفد» الشعبي الضخم الذي كان يمثل أكبر قوة سياسية في البلاد في ذلك الحين.

وكان رئيس تحرير «المصري» والشخصية الرئيسية المؤثرة فيها هو أحمد أبو الفتح، وكان كاتبا شعبيا معروفا بالوطنية والجرأة والشجاعة، وكان أحمد أبو الفتح يعرف جمال عبدالناصر وعددا آخر من رفاقه منذ وقت مبكر قبل قيام الثورة، وكان عبدالناصر نفسه ـ فيما يقال ـ يتردد على «المصري» بين الحين والحين، وكان يلتقي «أحمد أبو الفتح» ويحاول أن يسرب بعض أفكاره وأفكار زملائه من الضباط الأحرار عن طريق «المصري» بل إن كثيرين من المؤرخين للثورة يقولون إن أحمد أبو الفتح قد أسهم في تحديد موعد قيام الثورة، فقد كان مقررا، أن تتم حركة الثورة في الجيش بعد موعدها المعروف وهو 32 يوليو بعدة أشهر أخرى، ولكن أحمد أبو الفتح أبلغ الضباط الأحرار عن طريق واحد من كبار هؤلاء الضباط وهو ثروت عكاشة أن الملك فاروق عرف بقضية هؤلاء الضباط الأحرار وأنه قرر تصفيتهم عن طريق ضابط كبير هو حسين سرى عامر الموالى للقصر، ومن المعروف أن أحمد أبو الفتح هو زوج شقيقة الدكتور ثروت عكاشة، وبناء على المعلومات التي قدمها أحمد أبو الفتح إلى الضباط الأحرار، قرر عبدالناصر تقديم موعد قيام الثورة، وكان الموعد الجديد هو موعدها المعروف الآن أي ليلة 23 يوليو سنة 1952.

كان أحمد أبو الفتح يعرف رجال الثورة وعلى رأسهم عبدالناصر، ولم يكن يحس أن هؤلاء الرجال موضع خوف أو غموض بالنسبة له، فقد كان يعتبرهم أصدقاءه ومن الذين تأثروا بجريدة «المصري» واستفادوا منها في الإعداد لحركتهم الثورية، وهكذا كانت «المصري» أقوى صحيفة، وكان أحمد أبو الفتح أقوى صحفي في الساحة الإعلامية في الأشهر الأولى للثورة، ومع ذلك فقد كان مقدرا أن يحدث صدام عنيف بين «الثورة» و«المصري» بعد تسلم الضباط الأحرار للسلطة، فقد كانت الثورة تشعر أنها قوة سياسية جديدة، وأنها لن تتمكن من أن تلعب دورها وتنفذ برنامجها الكامل إذا بقيت القوى السياسية القديمة على حالها، فقد كان على هذه القوى القديمة أن تحمل عصاها وترحل في نظر الثورة، وكان عليها أن تترك المسرح الوطني لقوة الثورة الجديدة، ولكن عالم السياسة لا يعرف أبدا قوة تركت مكانها بإرادتها واختيارها.

ولذلك كان لابد من «الصدام» بين الثورة والقوى السياسية القديمة.. وهو الصدام الذي وقع بالفعل سنة 1954 وانتهى بإغلاق جريدة «المصري» وحل الأحزاب جميعا بما فيها حزب الوفد. وكان للوفد و«المصري» جريدته الأولى، قوة شعبية واسعة التأثير عميقة النفوذ شديدة التغلغل في نفوس الناس وعقولهم.. وإن كان من الثابت أن هذا الحزب الكبير لم يكن قائما على التنظيم «الدقيق»، وكان أشبه بتيار وطني عام يجتمع الناس حوله ويؤيدونه.

ويبدو أن أحمد أبو الفتح كان يتصور أن الثورة قد أدت دورها بوضع نهاية للنظام الملكي وإعلان الجمهورية، وأن على رجال الثورة أن يسلموا القيادة لحزب الوفد، مادام الوفد هو حزب الأغلبية، وبالطبع كانت هذه الفكرة تتناقض تماما مع خطة الثورة وبرنامجها.. ولم يستطع أحمد أبو الفتح أن يتفهم الوضع الجديد فعارض الثورة بعنف ولا يزال يعارضها ويلقى عليها وعلى زعيمها عبدالناصر بالاتهامات حتى اليوم.

وليس المجال هنا هو مجال الحديث عن الصدام الذي وقع بين الثورة وبين القوى السياسية القديمة، أو الصراع بين عبدالناصر وأحمد أبو الفتح.. فذلك موضوع آخر يخرج عن نطاق هذه الذكريات.. والمهم هو أن الثورة قررت إصدار جريدة جديدة تعبر عنها وتدافع عن مواقفها وفلسفتها واختارت أنور السادات لإنشائها والإشراف عليها. وكان من أقرب أصدقاء السادات إليه منذ الفترة التي خرج فيها من الجيش في الأربعينيات قبل أن يعود إليه قبل الثورة بسنوات قليلة صحفي مشهور هو الكاتب الفنان زكريا الحجاوي الذي كان يشغل في ذلك الحين سكرتير تحرير جريدة «المصري»، وكان السادات ـ كما هو معروف ـ قد تم طرده من الجيش في أواخر الأربعينيات، وتعرض لظروف شخصية بالغة القسوة، وجاع وتشرد واضطر للاختفاء عن العيون.

وفى هذه المحنة التي تعرض لها السادات التي استمرت لعدة سنوات، وقف زكريا الحجاوي جانبه بكل قوة ونبل، ولم يكن الحجاوي يعرف في ذلك الحين أن السادات يمكن أن يعود إلى الجيش أو أن يكون له شأن في حكم مصر ذات يوم، ولذلك كانت مساندة الحجاوي لـ «السادات» في محنته خالصة لوجه الله والوطن والصداقة.

كان زكريا الحجاوي فنانا متعدد المواهب، وكان إنسانا جذابا ساحر الشخصية بالغ الصدق والأمانة، وكان فيه «رجولة شعبية» أصيلة وهى الصفة التي تجعلنا نطلق عليها صفات مثل «ابن البلد» و«الجدعنة»، بالإضافة إلى ما كان يتمتع به من خفة ظل غير محدودة، ومن الثابت أن الحجاوي لم يبخل بشيء من أجل حماية السادات والبحث عن عمل له ومساعدته في الاختفاء كلما طاردته السلطة، وكان الحجاوي حريصا على أسرة السادات حرصه على أسرته الخاصة.. فكان يرعى هذه الأسرة ويقدم لها كل أنواع العون والمساعدة.

كان هذا هو موقف الحجاوي من السادات، عندما كان السادات يمر بمحنة طويلة قاسية، ولذلك كان المعروف عند الجميع أن علاقة السادات بـ «الحجاوي» هي علاقة صداقة قوية جدا، كما أنها علاقة قديمة تسبق قيام الثورة، وعندما تقرر إنشاء جريدة «الجمهورية» سنة 1953، كما سبقت الإشارة، كان الحجاوي يحتل مركزا صحفيا حساسا في الصحيفة التي كانت تعارض الثورة وتتحداها وهى «المصري»، ولذلك فعندما أراد السادات أن ينشئ جريدة «الجمهورية» كان من الطبيعي أن يختار زكريا الحجاوي مساعدا له، بسبب ما بينهما من صداقة قديمة حميمة، وبسبب خبرة الحجاوي الصحفية الواسعة، وبسبب موقعه من جريدة «المصري» كسكرتير لتحرير هذه الصحيفة القوية الكبيرة التي كانت الثورة تضعها على رأس القوى الكبيرة المعارضة لها.

أما من جانب الحجاوي فقد كان شديد الإيمان بأن مصر بحاجة إلى قيادة شابة جديدة، وكان يرى في الثورة ورجالها ما يمثل هذه القوة الجديدة التي يمكن أن تنهض بـ «مصر» وتواجه مشكلاتها الصعبة، أي أن الحجاوي قد تقبل العمل مع السادات عن اقتناع وإرادة وطنية قوية، وليس لمجرد الصداقة القديمة بينهما، كما أن الحجاوي كان بعيدا كل البعد عن منطق الخيانة لأصدقائه القدماء من أصحاب «المصري» وعلى رأسهم أحمد أبو الفتح.

وذهب الحجاوي ليعمل مع السادات في تأسيس جريدة «الجمهورية» وأعطى الحجاوي للعمل الجديد كل شيء وقته وإخلاصه وخبرته وتعب أيامه وسهر لياليه، وقام الحجاوي بدور غير عادى لإقناع كل الخبرات الصحفية العالية في جريدة «المصري» وغيرها بالانضمام إلى «الجمهورية»، في الوقت الذي كانت فيه الجريدة الجديدة لا تزال مشروعا على الورق، ولم يكن مشروعا مضمون النجاح، بل لقد كانت الثورة نفسها لا تزال في خطواتها الأولى تواجه رياحا عاتية من كل الاتجاهات وحتى من داخلها هي نفسها، ولم تكن المراهنة على الثورة وجريدتها بالأمر السهل أو المأمون الجانب.. ولكن الحجاوي راهن على الثورة والجريدة، لأنه كان مفكرا وأديبا وفنانا شعبيا بكل معنى الكلمة، وكان يعرف بذكائه وقلبه وتجاربه الشخصية الخاصة أن شعب مصر يعانى معاناة كبيرة، وأنه بحاجة إلى قوة جديدة لإنقاذه.

وقد رأى في الثورة هذه القوة الجديدة. وبفضل جهود الحجاوي انضم إلى مشروع «الجمهورية» عدد من أكفأ الصحفيين أصحاب الخبرة الفنية العالية، أذكر منهم الفنان الكبير عبدالسلام الشريف والأستاذ إبراهيم موسى الذي كان رئيسا للقسم الخارجي في «المصري» والأستاذ إبراهيم عامر الذي كان من الكُتاب السياسيين المعروفين في «المصري» وغيرهم.

كان عبدالرحمن الخميسي قد عرفني بـ «زكريا الحجاوي» منذ الأيام الأولى لانتقالي من قريتي إلى القاهرة في أواخر عام 1951، وذلك قبل قيام الثورة بأقل من عام واحد وقد وجدت في الحجاوي منذ الأيام الأولى لمعرفتي به أبا وأستاذا وأخا وصديقا لا مثيل له في خدمة الآخرين، دون أن يشكو من العناء والتعب ودون أن يتردد في تقديم عون هو قادر عليه، وكان الحجاوي خلال صلتي به يعرف كل شيء عنى، ويعرف الظروف الاقتصادية الصعبة التي كنت أمر بها وكانت تهددني بالحرمان من الاستمرار في تعليمي الجامعي، حيث إن أبى ـ رحمه الله ـ وكان مدرسا إلزاميا ـ لم يكن يستطيع من خلال راتبه الضئيل أن يواصل الإنفاق على حياتي وتعليمي، وكان الوالد مسئولا وحده عن أسرة تضم أكثر من عشرة أفراد.

وذات صباح وفى فترة الإعداد لإصدار «الجمهورية»، فوجئت بـ «الحجاوي» يطرق باب شقتي المتواضعة التي كنت أسكن فيها مع الأسرة في «حارة مهدي» بحي شبرا، وكانت زيارة الحجاوي مصدرا لدهشتي الكبيرة إلى أبعد حد، فـ «الحجاوي» لم يكن يعرف عنوان بيتي، ولم يكن قد زارني أبدا في هذا البيت، وسألته عن الطريقة التي وصل بها إلى عنواني فقال إنه عرف منى بالمصادفة اسم الحارة التي أسكن فيها، فجاء إلى هذه الحارة وطرق كل الأبواب وسأل السكان في جميع الشقق حتى اهتدى إلى مسكني.
[/u]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عصام الزهيري
مشرف قسم القصص والروايات
عصام الزهيري


عدد الرسائل : 460
العمر : 51
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

الناس مع الغالب لا المغلوب..أمير الصعاليك في مواجهة السلطة..زكريا الحجاوي/أنور السادات Empty
مُساهمةموضوع: 2   الناس مع الغالب لا المغلوب..أمير الصعاليك في مواجهة السلطة..زكريا الحجاوي/أنور السادات I_icon_minitimeالأربعاء 23 يوليو 2008, 1:33 am

بهذه الطريقة.. وبهذا الجهد، وهذا الإصرار النبيل، استطاع الحجاوي أن يصل إلى ليقول في بساطة: إنه عينني في «الجمهورية» مقابل عشرة جنيهات في الشهر تعينني على الاستمرار في دراستي الجامعية، وكان ذلك بالنسبة لي طوق نجاة لا شك فيه. وبدأت أتردد على جريدة «الجمهورية».. أذهب إليها كل يوم بعد انتهاء دروسي في كلية الآداب في الثانية بعد الظهر، وأبقى في الجريدة حتى منتصف الليل.

وكنت أبقى جالسا فوق مكتبي لا أغادره أبدا، ولم أكن أحب أن اختلط بالآخرين، أو أفرض نفسي على أحد، وكنت أصطحب معي بعض الكتب للقراءة كلما وجدت فراغا لذلك. وأخذت حركة الإعداد والتحضير لإصدار الجريدة تنشط وكان النجم الأساسي وسط هذه الحركة الدائبة المتجددة هو زكريا الحجاوي.

كان لا يمل من العمل، وكان متفائلا مستبشرا، وكان يملأ أجواء الجريدة بحيويته المتدفقة وخفة ظله وإنسانيته، وكثيرا ما كان يردد أن «الجمهورية» سوف تكون بداية لعصر صحفي جديد في مصر، وأنها سوف تكون مثالا حيا للصحافة الوطنية المتحررة من الضغوط الاقتصادية والسياسية، وأنها سوف تكون منبرا لأصحاب المواهب الحقيقية من أبناء البلاد الذين لن يفرضهم على العمل سوى قدراتهم وليس أية عوامل أخرى خارجية.

وتمر الأيام، والحجاوي ممتلئ بالنشوة والسعادة والآمال الكبيرة، وكان كما يقول المثل الشعبي أشبه «بأم العروسة.. فاضية ومشغولة»، وكان يحس أن مشروع الجريدة الجديد كبير وجميل، وأن الولادة الرائعة أصبحت قريبة. وفجأة، وقبل صدور العدد الأول من «الجمهورية» بحوالي أسبوع، ودون مقدمات، وجدنا قرارا موقعا باسم أنور السادات معلقا على لوحة الاستعلامات في مدخل الجريدة، وكان مضمون هذا القرار هو «إيقاف زكريا الحجاوي عن العمل ومنعه من دخول الجريدة».

كان القرار مثيرا للذهول عند الجميع، فقد كان الحجاوي محورا للحركة والنشاط والأمل داخل الجريدة، وكان خالي الذهن تماما مما يتم تدبيره له في الظلام، ولم يتوقع، ولا توقع أحد، صدور مثل هذا القرار مع صداقته الطويلة والشهيرة لـ «السادات»، ومع ما له من فضل عليه أيام محنته، وما بذله من جهد غير عادى في إنشاء الجريدة وتوفير عناصر الحياة لها.. لم يكن الحجاوي ينتظر أبدا مثل هذه النتيجة المؤلمة، التي جاءت بغير مقدمات تفسرها أو تبررها.

وذهبت إلى الحجاوي حيث كنت أتوقع وجوده، وذلك في قهوة «عبدالله» الشعبية الصغيرة بميدان الجيزة، وهى «القهوة» التي تعود عدد كبير من أدباء مصر المعروفين في الخمسينيات أن يلتقوا فيها، وكان الحجاوي من ألمع نجوم هذا المقهى الصغير الذي لا يبعد أكثر من بضع خطوات عن بيته.

ووجدت الحجاوي كما توقعت، وكان مهموما بدرجة كبيرة، وكان وجهه غارقا في الحزن والألم والتعاسة. وأحسست أن عمره قد تقدم به سنوات كثيرة في أيام قليلة، وانعكس هذا التقدم في العمر على كل شيء فيه.. من كلماته إلى حركاته إلى ملابسه إلى نظرات عينيه الحزينتين المرهقتين.

وبعد أيام صدرت جريدة «الجمهورية» بكل العاملين فيها إلا صاحب «العُرس» الأصلي: زكريا الحجاوي، وحرصت في هذه الفترة على أن أذهب إلى الحجاوي كل يوم بصورة منتظمة لألتقيه في «قهوة عبدالله»، رغم ما كان في ذلك من عناء شديد لي، بل حرصت على أن أقدم إليه جزءا من راتبي التافه الصغير، وذلك لأنني لاحظت أنه وقع في أزمة مالية واضحة، ولم تكن قروشي القليلة ذات نفع من أي نوع له. ولكنها كانت كل ما كنت أملكه للتعبير عن مشاعري نحوه في هذه المحنة العجيبة.

وتغيرت الدنيا حول زكريا الحجاوي، وكنت ألاحظ هذه التغييرات في ألم وحسرة، فقد كنت شابا صغيرا لم أصل إلى العشرين بعد، وكان إحساسي بالحياة أكثر براءة من أن يتحمل ما رأيته أمام عيني من مشاهد وأحداث. أصبح الحجاوي وحيدا، لا تجد حوله أحدا ممن كانوا يحيطونه في كل لحظة وفى كل مكان.. في بيته ومكتبه وفى الشارع والمقهى.. لقد أصبح الزحام الشديد حوله فراغا وبرودة.

وقد علمتني الحياة بتجاربها العديدة أن هذه ظاهرة طبيعية في مجتمعنا، بل لعلها تكون ظاهرة طبيعية في حياة الناس جميعا، فالناس مع الغالب لا مع المغلوب، ولكنني في ذلك الوقت ـ سنة 1953 ـ لم أكن أستطيع أن أستوعب مثل هذه الظاهرة المريرة، ولم أكن أجد لها تفسيرا أو مبررا، فكيف تخلى الناس بهذه السرعة عن رجل كانوا يملؤون حياته بالضجيج، ويظهرون له من العواطف ألوانا كثيرة وبراقة؟!

لقد ترسب في نفسي من إثر هذه الصدمة الأولى والكبرى في حياتي الثقافية شعورا بأن الأديب في مجتمعنا ضعيف مهما كانت قوة موهبته وأصالة نبوغه، بل ترسب في نفسي أكثر من ذلك شعور بأن الإنسان في هذا المجتمع كائن هش يمكن أن تعصف به المصادفة في أية لحظة، ولم أكن أتصور أن يتعرض أديب وفنان موهوب مثل زكريا الحجاوي لما يمكن أن نسميه الآن بـ «الإعدام المدني» لمجرد غضب شخصي عليه، مهما كانت قوة هذا الشخص ومهما كان سلطانه ولم أكن أتصور أن يصبح الحجاوي أو أي إنسان آخر متهما ومحكوما عليه دون أن يعرف حقيقة تهمته ودون السماح له بكلمة واحدة ينطقها في الدفاع عن نفسه.

لقد تحولت حياة زكريا الحجاوي بعد هذه الصدمة تحولا أساسيا، فلم يعد إلى الصحافة أبدا بصورة جدية، وظل كذلك حتى وفاته حوالي سنة 1975 فيما أذكر، أي خلال أكثر من عشرين سنة قضاها في الحياة الثقافية بعد الصدمة التي تعرض لها على يد السادات، وقضى الحجاوي هذه السنوات الطويلة يكتب للإذاعة والمسرح، وقطع أرض مصر بمدنها وقراها من الإسكندرية إلى أسوان بحثا عن الفن الشعبي في ألحانه وأغانيه وأصوات مطربيه.

وأنجز الحجاوي في هذا المجال إنجازات رائعة، وأتاحت له أجواء الثورة بعد استقرارها فرصا للتألق والنجاح في المجالات الجديدة التي اقتحمها وفتح له في الثقافة والفن أبوابا كانت مغلقة. وقد كان ما تعرض له الحجاوي هو ـ كما أشرت ـ أول صدمة ثقافية كبيرة في حياتي. وقد حاولت في ذلك الحين أن أعرف الأسباب التي كانت وراء قرار السادات المفاجئ بطرد زكريا الحجاوي على هذه الصورة المؤلمة التي تخلو من أي معنى من معاني الوفاء.. وكنت راغبا إلى أقصى حد في فهم الأمر على حقيقته.. كما أنني كنت أحب الحجاوي أعمق الحب، وكنت على يقين بأنه لم يرتكب خطأ يستحق هذا العقاب.. وكنت فوق ذلك كله أريد أن أفهم كيف يدور العالم حولي، وكيف تدور فيه الأحداث وتحدد المصائر الإنسانية.

وكانت الفرصة أمامي متاحة لمحاولة الفهم، فقد كنت وقتها «مصححا» في «الجمهورية».. ولم يلتفت أحد إلى وجودي المتواضع المحدود في الجريدة.. فكنت أذهب إلى الجريدة كل يوم وأسمع بعض ما يتردد فيها حول هذا الموضوع. خرجت من بحثي عن الحقيقة.. بمجموعة من الأسباب تردد في حينها وتناولت هذه القضية.. فقد قيل إن السادات تلقى معلومات تؤكد له أن الحجاوي كان يتصل بـ «جمال عبدالناصر» ويحرضه على السادات ويحاول أن يقنعه بأن السادات خطر على الجريدة ولابد من تغييره، بل لقد قيل إن السادات يملك تحت يديه تقارير منسوبة إلى الحجاوي ومرفوعة منه إلى جمال عبدالناصر تدور كلها حول هذا المعنى، وقيل إن الحجاوي كان يعامل السادات أمام المحررين كصديق قديم له.. وبل وكصاحب فضل عليه، فكان يناديه باسمه المجرد أي «.. يا أنور»، وكان هذا الأسلوب في التعامل مزعجا لـ «السادات» ومرفوضا من جانبه.

كان السادات قد تغير وضعه، وأصبح في أعلى درجات السلطة، ولكن الحجاوي كان يعامله كصديق قديم له، وكان يخاطبه بنوع من الألفة، وأحيانا كان يخاطبه بلهجة تعليمية، استنادا إلى ما كان بين الاثنين من علاقة قديمة، ويبدو أن هذا الأمر عند السادات كان خطيئة لا تغتفر. وقيل أيضا إن الحجاوي كان ينسب لنفسه الفضل الأكبر في تأسيس «الجمهورية»، مما كان يسيء إلى السادات وإلى موقعه كمسئول أول عن الجريدة. ولم أكن في حاجة إلى أن أبذل جهدا كبيرا لكي اكتشف أن الاتهام الرئيسي الموجه إلى الحجاوي كان اتهاما مزورا.. فـ «الحجاوي» لم يكتب تقارير سرية ضد السادات أو غيره.. ذلك أمر تم تلفيقه بالتأكيد، لأن طبيعة الحجاوي ونفسيته وأخلاقه كانت جميعا لا تسمح له باللجوء إلى مثل هذا الأسلوب.. وكان لابد من تلفيق تهمة بهذا الحجم لـ «الحجاوي» وإشاعتها بين الناس دون تقديم أي دليل مادي واضح عليها لتبرير إصدار قرار ضده بطرده من عمله.

أما ما كان ينسب إلى الحجاوي بعد ذلك من طريقة معاملته لـ «السادات» فهو صحيح من حيث المظهر، ولكن الحجاوي كان يفعل ذلك بمحبة وحُسن نية وأدب جميل في التعامل، فقد كان الحجاوي أستاذا في حُسن التعامل مع الجميع.. وما كان يفعله مع السادات كان قائما على الاعتقاد بأن أساس العلاقة بينه والسادات هو أساس إنساني يقوم على الثقة المتبادلة منذ أن تعرض السادات لمحنته القديمة، وكان الحجاوي هو أقوى الذين وقفوا إلى جانبه وعاونوه معاونة جدية. لقد كان الحجاوي على شدة ذكائه طيب القلب شديد الثقة بالناس غير عابئ بالزوايا المظلمة التي تعمل عملها العنيف في بعض النفوس، وقد كان على الحجاوي أن يدفع ثمن هذا كله.

ومنذ هذه التجربة التي تعرض لها الحجاوي تخلى السادات نهائيا عن صديقه القديم، وعندما كان السادات رئيسا للجمهورية تعرض الحجاوي لظروف عديدة، منها فصله من وزارة الثقافة «الثقافة الجماهيرية» وانهيار المنزل الذي كانت تقع فيه شقته في الجيزة، لم يجد مخرجا من هذه الظروف العسيرة إلا أن يترك مصر ويسافر إلى قطر للعمل هناك، وفى قطر لقي رعاية رائعة واستثنائية من الكاتب الكبير «الطيب صالح» الذي كان مديرا للإعلام في قطر في ذلك الوقت.. وقضى الحجاوي في قطر ثلاث سنوات حيث مات هناك بعد أن أتعبته التجارب والصدمات ورحلة الحياة الخالية من الأمان.

وعندما عاد الحجاوي ميتا ليدفن في مصر، تذكره السادات، وأمر بإقامة حفلة لتكريمه بعد رحيله في مسرح السامر، وحضر السادات بنفسه هذا الحفل، ثم أمر بتغيير اسم مسرح «السامر» إلى مسرح «زكريا الحجاوي» ولم تمض فترة طويلة على ذلك حتى اختفى اسم زكريا الحجاوي بعد رحيله، خاصة ابنه الأكبر أسامة الحجاوي.. ولا أدرى مدى صحة هذا الكلام، وليس من المستبعد أن يكون هذا هو ما حدث بعد موت الحجاوي.

على أن هذه الصدمة التي تعرض لها الحجاوي سنة 1953، وتعرضت لها معه في بداية حياتي الثقافية، ظلت حية في أعماقي بآثارها العنيفة، وكانت هذه الآثار توجهني على الدوام في فهمي لـ «أنور السادات» وتحليلي لشخصيته خاصة بعد أن تولى السلطة الكاملة في مصر من سنة 1970 إلى 1981، فالأسلوب الذي تخلص به السادات من الحجاوي هو نفس الأسلوب الذي لجأ إليه مرارا في التخلص من أقرب الناس إليه في قمة السلطة، فقد كان دائما يلجأ إلى المفاجأة، بعد أن يتظاهر بالمودة والصداقة الكاملة لمن ينوى أن يعصف بهم ويقضى عليهم.

وكنت واثقا من أن السادات سوف يضرب ضربته المعروفة باسم 15 مايو، ليعصف بكل من ساعدوه على الوصول إلى السلطة، وبنفس الطريقة المفاجئة، وتلفيق الوثائق والمستندات والأسباب.. وقد ظلت في نفسي «علامة استفهام» كبيرة حول شخصية السادات الإنسانية منذ تلك الصدمة الأولى الكبيرة. وعلامة الاستفهام هذه لم تزل قائمة في نفسي، ولم أستطع أن أتخلص منها أبدا وهى تصاحبني دائما كلما فكرت في السادات أو حاولت أن أفسر بعض مواقفه العديدة بعد أن أصبح شخصية أساسية في تاريخنا المعاصر، وانعكست آراؤه وقراراته على الشعب كله. دائما.. في عقلي ونفسي يبدو السادات لي ـ من الناحية الإنسانية على وجه خاص ـ مصحوبا بعلامة استفهام كبيرة.


العربي (الناصرية) العدد (1101)، في 30/3/2008م
[/size]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الناس مع الغالب لا المغلوب..أمير الصعاليك في مواجهة السلطة..زكريا الحجاوي/أنور السادات
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
فضاء الإبداع :: الرواد-
انتقل الى: