بهذه الطريقة.. وبهذا الجهد، وهذا الإصرار النبيل، استطاع الحجاوي أن يصل إلى ليقول في بساطة: إنه عينني في «الجمهورية» مقابل عشرة جنيهات في الشهر تعينني على الاستمرار في دراستي الجامعية، وكان ذلك بالنسبة لي طوق نجاة لا شك فيه. وبدأت أتردد على جريدة «الجمهورية».. أذهب إليها كل يوم بعد انتهاء دروسي في كلية الآداب في الثانية بعد الظهر، وأبقى في الجريدة حتى منتصف الليل.
وكنت أبقى جالسا فوق مكتبي لا أغادره أبدا، ولم أكن أحب أن اختلط بالآخرين، أو أفرض نفسي على أحد، وكنت أصطحب معي بعض الكتب للقراءة كلما وجدت فراغا لذلك. وأخذت حركة الإعداد والتحضير لإصدار الجريدة تنشط وكان النجم الأساسي وسط هذه الحركة الدائبة المتجددة هو زكريا الحجاوي.
كان لا يمل من العمل، وكان متفائلا مستبشرا، وكان يملأ أجواء الجريدة بحيويته المتدفقة وخفة ظله وإنسانيته، وكثيرا ما كان يردد أن «الجمهورية» سوف تكون بداية لعصر صحفي جديد في مصر، وأنها سوف تكون مثالا حيا للصحافة الوطنية المتحررة من الضغوط الاقتصادية والسياسية، وأنها سوف تكون منبرا لأصحاب المواهب الحقيقية من أبناء البلاد الذين لن يفرضهم على العمل سوى قدراتهم وليس أية عوامل أخرى خارجية.
وتمر الأيام، والحجاوي ممتلئ بالنشوة والسعادة والآمال الكبيرة، وكان كما يقول المثل الشعبي أشبه «بأم العروسة.. فاضية ومشغولة»، وكان يحس أن مشروع الجريدة الجديد كبير وجميل، وأن الولادة الرائعة أصبحت قريبة. وفجأة، وقبل صدور العدد الأول من «الجمهورية» بحوالي أسبوع، ودون مقدمات، وجدنا قرارا موقعا باسم أنور السادات معلقا على لوحة الاستعلامات في مدخل الجريدة، وكان مضمون هذا القرار هو «إيقاف زكريا الحجاوي عن العمل ومنعه من دخول الجريدة».
كان القرار مثيرا للذهول عند الجميع، فقد كان الحجاوي محورا للحركة والنشاط والأمل داخل الجريدة، وكان خالي الذهن تماما مما يتم تدبيره له في الظلام، ولم يتوقع، ولا توقع أحد، صدور مثل هذا القرار مع صداقته الطويلة والشهيرة لـ «السادات»، ومع ما له من فضل عليه أيام محنته، وما بذله من جهد غير عادى في إنشاء الجريدة وتوفير عناصر الحياة لها.. لم يكن الحجاوي ينتظر أبدا مثل هذه النتيجة المؤلمة، التي جاءت بغير مقدمات تفسرها أو تبررها.
وذهبت إلى الحجاوي حيث كنت أتوقع وجوده، وذلك في قهوة «عبدالله» الشعبية الصغيرة بميدان الجيزة، وهى «القهوة» التي تعود عدد كبير من أدباء مصر المعروفين في الخمسينيات أن يلتقوا فيها، وكان الحجاوي من ألمع نجوم هذا المقهى الصغير الذي لا يبعد أكثر من بضع خطوات عن بيته.
ووجدت الحجاوي كما توقعت، وكان مهموما بدرجة كبيرة، وكان وجهه غارقا في الحزن والألم والتعاسة. وأحسست أن عمره قد تقدم به سنوات كثيرة في أيام قليلة، وانعكس هذا التقدم في العمر على كل شيء فيه.. من كلماته إلى حركاته إلى ملابسه إلى نظرات عينيه الحزينتين المرهقتين.
وبعد أيام صدرت جريدة «الجمهورية» بكل العاملين فيها إلا صاحب «العُرس» الأصلي: زكريا الحجاوي، وحرصت في هذه الفترة على أن أذهب إلى الحجاوي كل يوم بصورة منتظمة لألتقيه في «قهوة عبدالله»، رغم ما كان في ذلك من عناء شديد لي، بل حرصت على أن أقدم إليه جزءا من راتبي التافه الصغير، وذلك لأنني لاحظت أنه وقع في أزمة مالية واضحة، ولم تكن قروشي القليلة ذات نفع من أي نوع له. ولكنها كانت كل ما كنت أملكه للتعبير عن مشاعري نحوه في هذه المحنة العجيبة.
وتغيرت الدنيا حول زكريا الحجاوي، وكنت ألاحظ هذه التغييرات في ألم وحسرة، فقد كنت شابا صغيرا لم أصل إلى العشرين بعد، وكان إحساسي بالحياة أكثر براءة من أن يتحمل ما رأيته أمام عيني من مشاهد وأحداث. أصبح الحجاوي وحيدا، لا تجد حوله أحدا ممن كانوا يحيطونه في كل لحظة وفى كل مكان.. في بيته ومكتبه وفى الشارع والمقهى.. لقد أصبح الزحام الشديد حوله فراغا وبرودة.
وقد علمتني الحياة بتجاربها العديدة أن هذه ظاهرة طبيعية في مجتمعنا، بل لعلها تكون ظاهرة طبيعية في حياة الناس جميعا، فالناس مع الغالب لا مع المغلوب، ولكنني في ذلك الوقت ـ سنة 1953 ـ لم أكن أستطيع أن أستوعب مثل هذه الظاهرة المريرة، ولم أكن أجد لها تفسيرا أو مبررا، فكيف تخلى الناس بهذه السرعة عن رجل كانوا يملؤون حياته بالضجيج، ويظهرون له من العواطف ألوانا كثيرة وبراقة؟!
لقد ترسب في نفسي من إثر هذه الصدمة الأولى والكبرى في حياتي الثقافية شعورا بأن الأديب في مجتمعنا ضعيف مهما كانت قوة موهبته وأصالة نبوغه، بل ترسب في نفسي أكثر من ذلك شعور بأن الإنسان في هذا المجتمع كائن هش يمكن أن تعصف به المصادفة في أية لحظة، ولم أكن أتصور أن يتعرض أديب وفنان موهوب مثل زكريا الحجاوي لما يمكن أن نسميه الآن بـ «الإعدام المدني» لمجرد غضب شخصي عليه، مهما كانت قوة هذا الشخص ومهما كان سلطانه ولم أكن أتصور أن يصبح الحجاوي أو أي إنسان آخر متهما ومحكوما عليه دون أن يعرف حقيقة تهمته ودون السماح له بكلمة واحدة ينطقها في الدفاع عن نفسه.
لقد تحولت حياة زكريا الحجاوي بعد هذه الصدمة تحولا أساسيا، فلم يعد إلى الصحافة أبدا بصورة جدية، وظل كذلك حتى وفاته حوالي سنة 1975 فيما أذكر، أي خلال أكثر من عشرين سنة قضاها في الحياة الثقافية بعد الصدمة التي تعرض لها على يد السادات، وقضى الحجاوي هذه السنوات الطويلة يكتب للإذاعة والمسرح، وقطع أرض مصر بمدنها وقراها من الإسكندرية إلى أسوان بحثا عن الفن الشعبي في ألحانه وأغانيه وأصوات مطربيه.
وأنجز الحجاوي في هذا المجال إنجازات رائعة، وأتاحت له أجواء الثورة بعد استقرارها فرصا للتألق والنجاح في المجالات الجديدة التي اقتحمها وفتح له في الثقافة والفن أبوابا كانت مغلقة. وقد كان ما تعرض له الحجاوي هو ـ كما أشرت ـ أول صدمة ثقافية كبيرة في حياتي. وقد حاولت في ذلك الحين أن أعرف الأسباب التي كانت وراء قرار السادات المفاجئ بطرد زكريا الحجاوي على هذه الصورة المؤلمة التي تخلو من أي معنى من معاني الوفاء.. وكنت راغبا إلى أقصى حد في فهم الأمر على حقيقته.. كما أنني كنت أحب الحجاوي أعمق الحب، وكنت على يقين بأنه لم يرتكب خطأ يستحق هذا العقاب.. وكنت فوق ذلك كله أريد أن أفهم كيف يدور العالم حولي، وكيف تدور فيه الأحداث وتحدد المصائر الإنسانية.
وكانت الفرصة أمامي متاحة لمحاولة الفهم، فقد كنت وقتها «مصححا» في «الجمهورية».. ولم يلتفت أحد إلى وجودي المتواضع المحدود في الجريدة.. فكنت أذهب إلى الجريدة كل يوم وأسمع بعض ما يتردد فيها حول هذا الموضوع. خرجت من بحثي عن الحقيقة.. بمجموعة من الأسباب تردد في حينها وتناولت هذه القضية.. فقد قيل إن السادات تلقى معلومات تؤكد له أن الحجاوي كان يتصل بـ «جمال عبدالناصر» ويحرضه على السادات ويحاول أن يقنعه بأن السادات خطر على الجريدة ولابد من تغييره، بل لقد قيل إن السادات يملك تحت يديه تقارير منسوبة إلى الحجاوي ومرفوعة منه إلى جمال عبدالناصر تدور كلها حول هذا المعنى، وقيل إن الحجاوي كان يعامل السادات أمام المحررين كصديق قديم له.. وبل وكصاحب فضل عليه، فكان يناديه باسمه المجرد أي «.. يا أنور»، وكان هذا الأسلوب في التعامل مزعجا لـ «السادات» ومرفوضا من جانبه.
كان السادات قد تغير وضعه، وأصبح في أعلى درجات السلطة، ولكن الحجاوي كان يعامله كصديق قديم له، وكان يخاطبه بنوع من الألفة، وأحيانا كان يخاطبه بلهجة تعليمية، استنادا إلى ما كان بين الاثنين من علاقة قديمة، ويبدو أن هذا الأمر عند السادات كان خطيئة لا تغتفر. وقيل أيضا إن الحجاوي كان ينسب لنفسه الفضل الأكبر في تأسيس «الجمهورية»، مما كان يسيء إلى السادات وإلى موقعه كمسئول أول عن الجريدة. ولم أكن في حاجة إلى أن أبذل جهدا كبيرا لكي اكتشف أن الاتهام الرئيسي الموجه إلى الحجاوي كان اتهاما مزورا.. فـ «الحجاوي» لم يكتب تقارير سرية ضد السادات أو غيره.. ذلك أمر تم تلفيقه بالتأكيد، لأن طبيعة الحجاوي ونفسيته وأخلاقه كانت جميعا لا تسمح له باللجوء إلى مثل هذا الأسلوب.. وكان لابد من تلفيق تهمة بهذا الحجم لـ «الحجاوي» وإشاعتها بين الناس دون تقديم أي دليل مادي واضح عليها لتبرير إصدار قرار ضده بطرده من عمله.
أما ما كان ينسب إلى الحجاوي بعد ذلك من طريقة معاملته لـ «السادات» فهو صحيح من حيث المظهر، ولكن الحجاوي كان يفعل ذلك بمحبة وحُسن نية وأدب جميل في التعامل، فقد كان الحجاوي أستاذا في حُسن التعامل مع الجميع.. وما كان يفعله مع السادات كان قائما على الاعتقاد بأن أساس العلاقة بينه والسادات هو أساس إنساني يقوم على الثقة المتبادلة منذ أن تعرض السادات لمحنته القديمة، وكان الحجاوي هو أقوى الذين وقفوا إلى جانبه وعاونوه معاونة جدية. لقد كان الحجاوي على شدة ذكائه طيب القلب شديد الثقة بالناس غير عابئ بالزوايا المظلمة التي تعمل عملها العنيف في بعض النفوس، وقد كان على الحجاوي أن يدفع ثمن هذا كله.
ومنذ هذه التجربة التي تعرض لها الحجاوي تخلى السادات نهائيا عن صديقه القديم، وعندما كان السادات رئيسا للجمهورية تعرض الحجاوي لظروف عديدة، منها فصله من وزارة الثقافة «الثقافة الجماهيرية» وانهيار المنزل الذي كانت تقع فيه شقته في الجيزة، لم يجد مخرجا من هذه الظروف العسيرة إلا أن يترك مصر ويسافر إلى قطر للعمل هناك، وفى قطر لقي رعاية رائعة واستثنائية من الكاتب الكبير «الطيب صالح» الذي كان مديرا للإعلام في قطر في ذلك الوقت.. وقضى الحجاوي في قطر ثلاث سنوات حيث مات هناك بعد أن أتعبته التجارب والصدمات ورحلة الحياة الخالية من الأمان.
وعندما عاد الحجاوي ميتا ليدفن في مصر، تذكره السادات، وأمر بإقامة حفلة لتكريمه بعد رحيله في مسرح السامر، وحضر السادات بنفسه هذا الحفل، ثم أمر بتغيير اسم مسرح «السامر» إلى مسرح «زكريا الحجاوي» ولم تمض فترة طويلة على ذلك حتى اختفى اسم زكريا الحجاوي بعد رحيله، خاصة ابنه الأكبر أسامة الحجاوي.. ولا أدرى مدى صحة هذا الكلام، وليس من المستبعد أن يكون هذا هو ما حدث بعد موت الحجاوي.
على أن هذه الصدمة التي تعرض لها الحجاوي سنة 1953، وتعرضت لها معه في بداية حياتي الثقافية، ظلت حية في أعماقي بآثارها العنيفة، وكانت هذه الآثار توجهني على الدوام في فهمي لـ «أنور السادات» وتحليلي لشخصيته خاصة بعد أن تولى السلطة الكاملة في مصر من سنة 1970 إلى 1981، فالأسلوب الذي تخلص به السادات من الحجاوي هو نفس الأسلوب الذي لجأ إليه مرارا في التخلص من أقرب الناس إليه في قمة السلطة، فقد كان دائما يلجأ إلى المفاجأة، بعد أن يتظاهر بالمودة والصداقة الكاملة لمن ينوى أن يعصف بهم ويقضى عليهم.
وكنت واثقا من أن السادات سوف يضرب ضربته المعروفة باسم 15 مايو، ليعصف بكل من ساعدوه على الوصول إلى السلطة، وبنفس الطريقة المفاجئة، وتلفيق الوثائق والمستندات والأسباب.. وقد ظلت في نفسي «علامة استفهام» كبيرة حول شخصية السادات الإنسانية منذ تلك الصدمة الأولى الكبيرة. وعلامة الاستفهام هذه لم تزل قائمة في نفسي، ولم أستطع أن أتخلص منها أبدا وهى تصاحبني دائما كلما فكرت في السادات أو حاولت أن أفسر بعض مواقفه العديدة بعد أن أصبح شخصية أساسية في تاريخنا المعاصر، وانعكست آراؤه وقراراته على الشعب كله. دائما.. في عقلي ونفسي يبدو السادات لي ـ من الناحية الإنسانية على وجه خاص ـ مصحوبا بعلامة استفهام كبيرة.
العربي (الناصرية) العدد (1101)، في 30/3/2008م[/size]