دراماالحرب والفن والجنوب
صفوت البططي : أغنية لخصوبة المكان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتحي عبد السميع
صفوت البططي واحد من عشاق المسرح الحقيقيين , لم تمنعه الإقامة في أقصي الجنوب من تعلقه بالمسرح وعالمه , ومتابعته لقضاياه وعروضه ورموزه , و كيف لعاشق مثله أن ينشغل عن محبوبه حتي لوكان محاربا علي جبهة , نعم لقد عاش صفوت البططي من عام 1967 إلي عام 1974 جنديا ينتظر الشهادة في أية لحظة , ليس أمامه سوي النكسة الرهيبة وما عصفت به من شبان وأحلام , ليس أمامه سوي الحرب القادمة لا محالة , و لمسة الفن التي ضربته مبكرا فرآه ضرورة من ضرورات الحياة وليس ترفا , رآه رفيقا وفيا ينبغي أن يفرد ظله المضيئ في أحلك الأحوال , هكذا حفلت أعوام الجبهة بعضويته في فرقة ( أبناء سيناء ) التي راحت تقدم حفلاتها في المواقع العسكرية , بإشراف الفريق قدري عثمان , في تلك الفترة عُرف البططي باسم صفوت القناوي , وكان يكتب أشعارا لأغاني جماعية كان يستمر أدائها لساعة ونصف , وما من أدوات سوي الجراكن التي عاش البططي علي إيقاعها أجمل أيام حياته رغم المعاناة وشبح الموت الذي كان يطل من وراء كل مرتفع و ويعشش في كل ظل , لقد كانت تلك التجربة والتي كتب عنها جمال الغيطاني عدة مرات محور حياته القادمة وفيها يمكن أن نتلمس محطاته التي سينطلق منها في مسالك الحياة , فهناك الهوية الجنوبية التي راح يلصقها باسمه بغريزة الفتي الطالع لمستقبل ينبغي أن يكون فيه ( صفوت القناوي ) والتي سوف تستمر عبر أعمال كثيرة تكتسب فيه تلك الهوية حضورا أعمق , وهناك الصراع العربي الإسرائيلي الذي سوف يستمر مفتاحا لوعيه بالواقع , وهناك الفن المسرحي ـ خاصة ـ و الذي لا ينظر إليه بوصفه ترفا بل يعتبره علاجا لا يصح أبدا أن يكون جافا ولا بد من تغليفة في عناصر الفرجة , هكذا نفهم اهتمامه بمسرح الفرجة , فهو يناسب الصعيد ويستوعب موروثه ويناسب جمهوره وهو جمهور صعب, يراه البططي مختلفا عن أية جمهور آخر من حيث الحساسية المفرطة وموروث الحزن الهائل الذي يحمله والذي غذته الأمهات بالعديد المتواصل أثناء القيام بأعبائها المنزلية وتعاملهن مع الظروف الحياتية المختلفة , من هنا نفهم عدم حبه لمسرح العلبة الإيطالي واهتمامه بمسرح الجرن والسامر لهويته المصرية وقدرته .
لا أريد أن أتطرق هنا لصفوت البططي وملامحه الإنسانية الفريدة , ودوره الذي يلعبه في الجنوب , فهناك حكايات كثيرة لا تنتهي عن ذلك المثقف العاشق , ولا أعتذر عن تكرار تلك الصفة التي شيدت في روحه نبلا نفتقده بضرواة , وفي مواقفه نزاهة لا نصدق بأنها حية تُرزق , وفي وعيه تسامحا مثاليا , ما أشد احتياجنا إليه .
مسرحيات البططي : دراماالحرب والفن والجنوب
الحرب والفن والجنوب تلك الثلاثية التي تتحرك خلالها مسيرة البططي المسرحية سوف تجد براحها في شخصية بن عروس الذي نري أثره بقوة في مسيرة الشاعر والمسرحي من خلال مربعاته التي تتجسد في احتفاء البططي بالكلمة احتفاء كبيرا بوصفها العنصر الأكثر تأثيرا وقدرة علي نقل الرؤى المختلفة وهو ما يظهر في كافة مسرحياته , هذا بالإضافة إلي تجربته مع تلك الشخصية من خلال مسرحيته ( ملاعيب بن عروس) والتي تقدم رؤية تسجيلية توفق بين الروايات القليلة التي تعرضت لحياة ابن عروس والتي لم تكشف ملامح صورته الغامضة وكذلك الحكايات القليلة التي تجاهلتها المصادر التاريخية وهي حكايته مع الجريمة , وحكايته مع العروس التي أعادها إلي أهلها , وحكاية زملائه الذين تقاتلوا من أجل المال , وحكاية زهده وتوبته , وقد تم لضم تلك الحكايات في قصة حب تجمع بين أحمد ابن عروس وناعسة وتكون سببا في خروجه إلي الجبل والعيش مع المطاريد وألاعيبه مع المماليك , التي تتصدي لها ألاعيبهم أيضا مُحاولةَ إبراز صورته كمجرم يهدد الجماعة الشعبية في رزقها وشرفها , أي أننا بازاء ألاعيب متبادلة تنتهي بانتصار صورة الحقيقة , فمها كانت درجة التزوير والتزييف والتضليل ينجح الوجدان الشعبي في التقاط الحقيقة وحفظها حية ونابضة
وقد تناول البططي تلك الشخصية من خلال تقاطعها مع قسوة المماليك وظلمهم واستبدادهم ومؤامراتهم , وأبرز البعد الوطني لها من خلال شخصية ناعسة المقهورة التي ترمز للوطن , وقد انتصر في النهاية لعلاقة البطل بالناس , وسكت عن حكاية البطل مع الزهد .
وفي مسرحية ( القودة ) يجادل محمود دياب في مسرحيته ( أرض لا تنبت الزهور ) فيعود إلي نفس الحكاية مع تمصيرها بالكامل بحيث نصدق أن أحداثها تدور في الجنوب مع الإسقاط الواضح لموت الأب ( جمال عبد الناصر ) وتداعياته لكن مع التركيز علي أن السؤال لا يدو حول الخيار بين الحرب أو السلام بل حول التنازلات المستمرة التي تبلغ حد أن يقوم العرب بتقديم أكفانهم لإسرائيل وهو ما يعد حكما نهائيا بموتهم معنويا .
وفي مسرحيته ( الطيب والبشوشة ) يتناول علاقة الإسلام بالآخر معتمدا علي رسائل لوسي دوف جاردون التي جاءت لمدينة الأقصر للعلاج ودونت مشاهداتها في رسائل سجلت أحداثا كانت هي شاهدها الوحيد من أبرزها ثورة الفلاحين علي فاضل باشا , واعتمادا علي تلك الرسائل كتب البططي نصه ليقدم من خلال تلك السيدة والشيخ الأزهري يوسف أبو الحجاج الأقصري صورة ناصعة للإسلام وكذلك صراع البسطاء مع قسوة الحاكم ونضالهم المقدس ضد الظلم الصارخ والطغيان الغشوم.
وفي مسرحيته ( جحا يبحث عن وظيفة ) يسجل رفضه للتغيرات والتشوهات التي أصابت الإنسان المعاصر و عن طريق استدعاء جحا من التراث بشحمه ولحمه وملابسه المملوكية ليتابع من خلاله رصد المستجدات بما فيها التقنية المبهرة بعين عرفت حلاوة نموذج حضاري مختلف , قد يبدو في نظرنا منحطا ومظلما إلا إن جحا نموذجه الحضاري ويقرر في النهاية العودة إلي زمنه .
وإذا كانت المرأة كمدبرة وقائدة للأحداث تظهر بصورة جلية في كافة أعمال صفوت البططي إلا إنه في مسرحيتيه ( كيد النسا ) و ( أميرة العرب ) تبدو أكثر نصوعا , ففي الأولي تظهر ( شمة ) كامرأة فعالة تملك ثلث المشورة , ولها من البأس والحكمة ما تعالج به التفكك وتوحد به الرجال حول هدف مشترك , وفي الأخري تظهر ( الجازية ) لتقدم امتدادا لشخصية شمة مع إضافة فضاء الحب , حيث العلاقة الإنسانية التي نبتت منذ الطفولة بينها وبين ابن عمها حسن وتحولت إلي حب يتغني البططي بمحنته وجماله , ولا يظهر هنا اهتمام البططي بالموروث متمثلا في السيرة الهلالية بالصيغ المختلفة لها فقط بل بإيمانه بوجود شخصيات كثيرة جدا في السيرة قد تبدو هامشية أو حتي عابرة لكن يمكن أن تعتمد عليها نصوص مسرحية متعددة وتقدم من خلالها أعمالا هامة .
مشروع القناوي :غناء لخصوبة المكان
لم تقف تجربة البططي عند كتابة المربعات , أو المسرحيات بل امتدت لفن الأوبريت الذي يبدو مناسبا أيضا لإمكانياته وموهبته وتطلعاته واحتفاءه بالموروث الجنوبي , واستعادته لاسمه في الجبهة ( صفوت القناوي ) عبر عدد من الأعمال التي تبدو كمشروع موسوعي يتمحور حول ( قنا) ويسعي لرصد أجوائها الشعبية عبر حلقات منفصلة ومتصلة .
ففي أوبريت ( طهور قناوي) الذي حصل علي المركز الثالث في مهرجان الفنون الشعبية , يتناول طقوس ومراسم عملية الطهور بداية من مرحلة التزيين , مرورا بزيارة سيدي عبد الرحيم وصولا للسامر الذي يقام بفاعلياته المختلفة مثل نقوط الغرز وغيرها .
وفي أوبريت ( في رحاب السيد ) يقدم تفاصيل المولد من خلال أب يصطحب أولاده للزيارة , ويدور بهم علي كافة عناصر المولد بداية من المرور حول المقام , وتنقلهم بين الألعاب وتناولهم لأطهمة الشعبية المختلفة مثل البطاطا والسمسمية وشعر البنات وغيرها .
وفي أوبريت ( الفرح القناوي ) الذي حصل علي المركز الأول في مهرجان الفنون الشعبية , يتناول طقوس الفرح في قنا ويركز علي حضور الهواجس المرتبطة بالكائنات الغيبية الشريرة , كرفع العروس كي لا تخطو فوق العتبة , وتنجو بذلك من شر قد يكون مدسوسا فيها , وكذلك كوب اللبن كفأل حسن ومطهر لما يكون قد علق في العروسين من أثر شرير كما يركز علي الذهب البندقي الذي يحمي العروس من اضطراب الدورة الشهرية بالإضافة للعناصر الفرح التقليدية وأبرزها رقص الغوازي .
وفي أوبريت ( القلل القناوي ) يقدم لنا سيرة القلة منذ جلب الخامة من الجبل , مرورا بتخميرها وتعامل الفخراني مع الطينة وخواطره وهو يعمل فوق الدولاب التي لا تخلو من حضور كائنات غيبية , حتي مرحلة الحرق والنزول بالفخار إلي السوق .
وفي أوبريت ( ألعاب قنا ) يتناول الألعاب الشعبية ويركز علي لعبة ( البلابيصة ) التي يتعانق في كلماتها الفرعوني والقبطي والإسلامي عناقا بسيطا وتلقائيا لا افتعال فيه ولا تعسف , هذا بالإضافة إلي مجموعة ألعاب أخري مثل ( أم الفوِّيد) , و( الوابور) , و(سلقي ملقي) وغيرها .
وفي أوبريت (السوق) يركز أيضا علي ذلك البعد الغيبي المرتبط بالخصوبة فيهتم ( بشقة العروس ) أي دخولها للسوق لا بغرض التسوق بل للتجول فيه والمرور علي السلخانة لمقاومة تأخر الحمل , هذا بالإضافة للتركيز مع بائعة الحمام وزبائنها من أمهات العرائس , ولا ينسي علاقة الباعة بالسلطة عبر شرطة المرافق , وفي كل تلك الأعمال تظهر فتنته بالموروث , والناس , وغنائه المتواصل للمكان وخصوبته.
فتحي عبد السميع