" كنت تؤمن بأن المسيح سوف يأتى ،وعلى يديه ،
سيكون الخلاص ، ثم يقـيم العدل ، بعد أن شاعت
الفوضى بشهوة الخراب فى ممالك الرّبّ " .
جلست فى المقهى وحيداً ، ورحت أراقب البحر ، وطيور النورس ، أفتش فى الوجوه المثقلة الخطوات ، والمكحَّلة بالنعاس ، وأنا مازلت
أحبو صوب أجنحة المدى ، علًّنى أمسك باستفاقة العصافير النائمة فوق
شرفات الغبار ، وهى تحلم بالسفر إلى رئتين مشرقتين بالدفء، وقيثارة
تبوح لها بلحن هامس بارتعاشات الصباح الممطرة ببراعم الزهور فى عمق الأفئدة ، والحقول ، وماء يتدفق فى الأوردة .
تجمعت كرات الصقيع فوق زجاج المقهى ، والنادل يغفو أثناء تسكعه بين موائد الزبائن .
ارتـشـفت على مهل ، وبتلذِّذ وش فنجان القهوة ، وفيه وجوه كثيرة تتسلق خفقان شعاع شمس يفترش بقعة صغيرة ، وعيناى تضاجعـان
شيخوخـة أحلام الذين يعبرون أمامى بملابسهم الناشعـة بالبـرودة ، ورطوبة الجدران الباهتة .
توقفت عربات البوكس ، قفزت العساكر كالأرانب البرية ، وهى تحيط بالمقهـى ، وتحاصـره ، نزل ضابط وسيم جداً ، ومن أشعـة نجومه اللامعة فى عتمة الشمس المشرقة ، وثـبت طـفـلة متسخة الثياب ، وركضت صوب البحر ، فتلقـتها الفتاة التى القت صوب الأمواج شعاع ضوء ، ثم خبأتها فى كم فستانها .
هرب رواد المقهى ، وهم يتعثرون فى أربطة الأحذية الخشنة .
أمرنى بالوقوف ، لم يمهلنى أن أضع فنجان القهوة ، ثم صفـعنى ، بينما شهـوات الكلاب التى جاءت معه ، تحكم
الحصار من حولى ، ثـم انـتـزعنى ، ومضى بى صوب الميدان ، مـنـشـباً ذكورة أحد كلابه فى مؤخرتى ، وهو يضحك ، بعد أن فتح له صاحب المقهى زجاجة " بيـريل "
مثلجـة ، وكلابه تحتسى حلبة حصى ، وفى زقاق معتم ، أخرج من كم معطفـه كلباً صغيراً ، وتركه يبصـق على مؤخرتى ، ثم رحل بلا كلمة منه ، وكلابه تـتـقافز داخل
العربات ، بعد أن تركت الأكواب نصف مملوءة بالحصـى.
فـركضت صـوب الفتاة التى خبأتنى فى فتحـة فستانها ، وعندما لم أجدها ، ألقيت بنفسى فى ماء البحـر ، لأغسل
نتوءات الشفرات التى مزقتنى .
مضيت أتوكأ على حطام مؤخرتى المثخنة بأنياب الجائعين،
حتى وصلت عند المدافن ، جلست أنتظرك ، علّك تأتى فى
المساء ، وتضمـد جراحـى ، ثم تأخذنى معك فى رحلـة الصعود التى كانت تركض فى خلايا جسدك ، منذ أن بـدأ
وعيك فى الاستفاقة .
فجأة ، تذكرت أن غداً ، عيدكـم ، عيد الميلاد المجيـد ،
كل سنة وأنت أكثر إشراقاً ، وبهاءً ..
ماذا يا صديقى ، لو احتسينا القهوة ، وقليلاً ، أو كثيراً ،
من الفودكا ، لنعبر نهارات عفيـة بنكهة الزمن الجميل ،
وماذا لـو شاركتـك فى طقـوس العيد ، وقاسمتك الديك الرومى ، وجلسنا سوياً قبالة البحر ، والأطفال هناك على
رمـال الشاطـىء يعبثـون ، ويطلقون فى الفضاء صخب طائراتهم الورقية، الملونة ببراءة قفزاتهم ، والأفق مبتهج
بفـقـاقيع ضحكاتهم المسحورة بذيول طائراتهم المرفرفة
برقة ألوانها ، ثم ركضنا سوياً فى ضجيجـهم ، لنتجـاوز البحـر ، والمـدى ، ونتسلق نبض الحكايات الجميلة من الزمن الفائت ، فنرى كرنفالات الجنة , والتى تنبثـق منها
أنهاراً من الضوء ، قافـزة منها أطواق القواقـع بألونها الباذخة بالترف ، ورائحة أفضية من النور تدخلنا ، فنترنح
سكارى ، ونحن نغنى " أد أيه حلوة الحياة ! " ، ثم نتسكع
فى خلايا شارون استون ، وأنسجة نيكول كيدمان ، لنقيـم
تحت جلدهن ، وفى شرايينهن ، مملكتنا المبتـلة بأغنيات
قديمة ، لندفن ذاكرتنا فى جذع شجرة عجوز ، قـطـعـت
فروعهـا المسافـرة فى الخـراب ، ثم نبحث عن أحلامنا المخبـأة فى الغرف المبعثـرة ، فأغمز للبنت الواقفة عند حافة النهر ، والتى ابتسمت لى، وهى تلقى صوب الأمواج
شعـاع ضـوء ، ثم نقف عند سـدرة المنتهى ، لحظتها، سوف أتركك، وأمضى بعيداً عنك ، لأنك تعودت أن تخبىء
خـوفك فى سـروالك ، وأمضى وحدى رافضاً أن أقايض الآخرين ، والمخبرين الخونة ، على ملكوت الرّب ، غيـر
مبال ،إذا صلبت على عمود النور ، أو فرمت فوق حجارة
المعبد القديم ، وعيناى تتابعان خطو البنت فـوق أمـواج
النهر الذى ابتلع أمسيات غربتنا المهاجرة فى صقيع الكون
، والتـى تحفهـا نجوم شاردة ، صافعة بعنف ، ابتسامة صغيرة ارتسمت فوق شفتىَّ البنت التى رفعتنى بحذر من فوق حجارة المعبد القديم ، ولملمتنى بحنين أحلامى المخبأة فى ضفاف الحكايات القديمة ، ثم أدخلتنى من فتحة
فستانها ، والذى طالما كانت تقتحمه العيون الوقحة ، بخواء روحها التى طلاها التبغ بالتفاهات ، وهى تفتش راكضة فى غواية تفاصيل جسدها ، فخبأتنى بين نهدين
صغيرين ، وبكرين ، لم يتم اكتشافهما ، فما زالت قطرات الندى عالقة بحلمتيها الصغيرتين ، فتسكعت تحت شرايينها
وأنا أركل الهواء ، علب المثلجات الفارغة ، والملقاة على قارعة السحب الكثيفة المتراكمة ، ثم رحت أجوس عشبها الطرى ، والمبلل بحنينها لسحابة تفترش فضاءها المسكون بأحلامها الصغيرة ، فحملتها ذاكرتها الهشة ،
ورحلت ، وهى تحاول أن تمسك بتفاصيلها 0 ثم أمضى صوب النهر ، وأمد يدى إليك ، وأحتويك بين ذراعىَّ ،
منتزعاً خوفك الذى يبلل عبَّك ، لنطارد الأسماك فى النهر
كما كنا فى حكايتنا المسحورة ، والفتاة تقف بلهفة الحنين،
وأحلامنا المغسولة فى جداول تنساب عبر أمسياتنا المنداة
بنكات المقاهى ، وأمسيات تفوح منها رائحة مشبعة بالرطوبة ، وكوابيس النهار بشراسة العتمة فى حجرة صغيرة لا تتجاوز مساحتها نصف متر ، متصاعدة منها
رائحة أبخرة صرخاتنا ، كلما تلقينا صفعات الريح ، التى
لم نعرف كيف نحنى لها رأسينا الصغيرين ، والرفيق الذى
كان معنا ، يشاركنا همومنا ، بصقيع وقع خطوها ، والذى كان يسحلنا ، لم يكن فى استطاعته مقاومة قسوة الريح ،
فركع عند أقدام من قايضوه ، وراح يلحس أحذيتهم الخشنة ، مبتلعاً أفكارهم الباردة ، والملوثة ، وقد ترك فى نفوسنا جرحاً ينزف رملاً أسود ، بعد أن أرتدى حذاءً خشناً ، وراح يركل مؤخرتنا بقسوة صدمة الدهشة ،
وتركنا فى الظلمة والبرودة ، ثم رحل تاركاً نزيفاً قاتماً يمر فى خلايا الفراغ ، برنين العنف الموحش ، والصفعات
التى ما إن تبدأ فى لطمنا بعنف ، لا نعرف متى تتوقف ،
ونحن نصطدم بالجدران المليئة بالشقوق ، والمسكونة بالعقارب والحيّات ، هل تذكر الشاويش جاد الله الصعيدى،
والذى علمنا كيف نصطاد الأفاعى ، ثم كيف نسلخها ، وننتزع منها العرق السام ، برفق ، وليونة ، ثم نلتهما
نيئة إذا كانت الأحوال لاتسمح بإشعال النار ، حتى لا
يكتشفنا العدو 0
هل تذكر – يا نبيل – أول مرة اصطدت فيها أفعى ، كادت
أن تلدغك ، لولا تدخل الشاويش جاد الله برشاقته ، فأمسك
برأس الحيَّة بعد أن ألقى عليها بخرقة قديمة 0
هل تذكر أيام الحرب ، أم أنها رحلت حاملة معها ذاكرتنا
المطموسة بقسوة صفعات الحجرة الضيقة 0
كنت تؤمن بأن المسيح سوف يأتى ، وعلى يديه سيكون
الخلاص ، ثم يقيم العدل ، بعد أن شاعت الفوضى بشهوةالخراب فى ممالك الرّبّ 0
كنت تحلم كثيراً ، بصعودك معه ، بعد أن ينثر نورانيته فى
الجهات الأربع ، فينبت العدل فى هذا الكون الغامض ، وثماره المختلفة الألوان ، المذاق ، سوف تملأ الدروب ، الحارات ، والميادين الكبيرة 0 وقد كنت تلح علىَّ مراراً ،
أن تصحبنى معكما فى رحلة صعوده الأخير 0 يااااااه ،
كنت أحضنك ، ثم أمضى صوب الفتاة التى كانت تخبئنى
فى شرايينها ، تحت جلدها ، من عيون العملاء ، والمخبرين الخونة ، وأحياناً ، كنت لا أجدها ، فأمضى
صوب المقهى ، أراقب المارين وهم يهرولون للحاق
بأعمالهم ، متدثرين بخوفهم ، وأطراف أصابعهم منكمشة
داخل جيوبهم المثقوبة ، وزقزقة النعاس تداعب وجوههم
بنكهة قهوة الشتاء 0
أحتسى قهوتى منتظراً الفتاة التى لا تأتى ، فأطلب فنجان قهوة آخر ، وأنا مازلت أنتظر ، فربما تأتى أنت ، وتدعونى لأصطحابى معك ، إلى حلمك القديم ، ولكنك ،
لم تنتظر مجيئه ، ورحلت بلا صعود عن عالمنا ، بعد أن
أغتصب أخوتك نصيبك فى بيت العائلة الكبير بالضاهر ،
بعد أن رفضت التفريط فى بيت الأجداد ، بجوار جامع
الظاهر بيبرس ، على رأس شارع بهاء الدين بن حنا ،
لإقامة مول تجارى بدلاً من البيت الأثرى ، ثم ألقوك على
قارعة الشتاء القارس بلا معطف ، رحت تقاوم عند شارع الجيش ، وعندما ارتفع البناء ، صعدت روحك مبتلة بقنينة الوجع ، التى مازالت موضوعة بعناية فوق أرفف عوالم
سفلية تركض فيها العتمة ، وظلال الأشباح المتحركة فوق
جدرانها 0
لم تنتظر تحقيق حلمك ، بعد أن يأتى ، وينثر نوره الوضَّاء
فوق ضفاف البحر ، وأديم الأرض ، لتنبت أزهاراً فى مرايا الروح ، ويصنع الأطفال من وردها الملون ، عناقيد
مفتونة بالضحك 0
تركت المدافن بصمتها المعتم ، وسرت صوب الفتاة التى ألقت فى النهر شعاع ضوء ، وعندما لم أجدها ، ألقيت
بنفسى فى النهر ، لأغتسل ، وأنا مازلت أبحث عن الفتاة التى خبأتنى فى فتحة فستانها ، وعندما لم أجدها ، ركضت
مرة أخرى صوب المقابر ، وأنا أحاول أن أخفى عُرْى
مؤخرتى ، بعد أن لحست الإسفلت ، غبار الأسئلة ، وبقايا
رذاذ الأمواج الناشعة بأربطة الأحذية الخشنة ، وقبعت عند قبرك ، متدثراً بهالات من السكون ، وبخوفنا القديم ، وعيناى شاخصتان إلى السماء ، فى انتظار مجيئه النورانى سوف أحدثه عن أحلامك الصغيرة ، حكاياتك القديمة ، وعن ذهابك إلى المرأة التى هجرتك ، لا لتتوسل إليها ،بل لتعيد لها قرطها الذى نسيته فوق مخدعك الدافىء بهمسها الطازج بين طيات ملاءة السرير ، وآهاتها المخبأة فوق جدران الحجرة ، وأن تسترد منها ابتسامتك الجميلة ، والتى خبأتها فى جلدها ، وعندما ألتقيتها ، أنكرت معرفتها بك ، وكادت أن تصفعك ، لولا أنك لم تدر لها خدك الأيمن ! ، ثم ألقيت بقرطها تحت ضجيج عجلات السيارات المارقة 0
سوف أحدثه عن حكاياتنا المطموسة فى ذاكرة الحجرة الضيقة ، وعن الذى ركلنا ، ومضى ، ثم أصبح – فيما
بعد – مديراً لمؤسسة كبرى 0
سوف أمكث هنا ، أو هناك ، بين العتمة ، وشواهد القبور،
انتظر مجيئه ، وعندما يجيىء ، بعدما يقيم العدل ، سوف يلقى علىَّ عباءة نورانية من فيض نوره ، وسيقبل أن
أنضم إلى عرس صعوده ، سوف أتمسك بحقك فى الصعود
معه ، لحظتها ، سوف تسقط من سراويلنا ، ذاكرتنا المتقيحة بأوجاع الغرفة الضيقة ، والتى كانت تركض فيها
الفوضى ، بوشايات الخونة ، وشراسة العتمة ، وركلات
الأحذية الخشنة 0
فتحـى سعـد
يناير 2005