حدقت فى عينيها الجميلتين ، والواسعتين وسع
أحلامى المشنوقة فوق حافة الوقت ،احتسيت بقايا
فنجان القهوة الذى اعتادت أن تقدمه لى كلما زرتها .
شعرت بضيق وقرف شديدين لأننى لم أستطع شراء
نصف كيلو لحمة لأطفالى الصغار ،فالوقت يمر – دائماً-
ومرتبى يتبعثر فى سداد فواتير الكهرباء، ايجار الشقة،
وبعض الأشياء الضرورية كالبقال والبوتيك الذى يقسِّط
مشترواتنا .
تناولتْ من يدى فنجان القهوة ، وراحت ترجه رجات دائرية خفيفة بين يديها ، ثم نظرت إلىّ وإشراقة عينيها
تحملنى كريشة محلقة بى فى فضاءات مؤتلقة تغمرنى بضوء شفيف لنهارات مكسوة بدفء وليد لشموس طالعة متساكبة منها أشعة عفية . ثم وضعت ساقاً فوق
ساق وهى تعبث بخصلات شعرها المتدلية فوق جبينها
الأبيض الوضَّاء ، تأملت وجنتيها المحمرتين ، نزلت
نظراتى ببطء تمسح بقايا خارطة الجسد الرشيق ، استقرت عيناى المتوهجتان بطوفان الغوايات عند ألق
وركيها اللذين انزاحت عنهما جيبتها السوداء القصيرة،
المفتوحة من الجنب ،غطت بيديها ما استطاعت منهما،
بينما شعرت بموجات كاسحة من الخجل تجتاحنى عندما ضبطتى وأنا أتلصص بعينىّ محاولاً اختراق ما
تخفيه الجيبة السوداء ، تناولت منديلاً ورقياً ، وضعته
فوق حواف الفنجان ، رجته رجة أخيرة ثم قلبته فوق
المنضدة الصغيرة ، فنظرت بسرعة ناحية الشرفة ،
وبحركة غير إرادية ، كانت عيناى تنظران ناحية
الغيوم المتجمعة ، وكان الوقت من هذا العام لا ينذر
بهطول أمطار ، سبحت بعيداً بعينىّ محاولاً قراءة
ما توارى فى الغيوم الداكنة ، كثيراً ما حاولت قراءة
الغيوم ، ودائماً ما كنت أرصدها ، لكننى لم أفهم ما
تخفيه رغم يقينى الدائم بأن لها لغتها الخاصة من
خلال حركاتها البطيئة ، وأحياناً السريعة المتحركة
التى تحاول ملاحقتها بنظراتك ، وصورها المتقلبة
والمتغيرة أيضاً .
أشعر بإرهاق شديد عندما يعجز فكرى عن توفير
ما أعطيه للجزار كى أرى ضحكات أطفالى وهى
ترسم بالونات البهجة فى الأفق المترهل بنتوءات
العتمة ، فتسرى فى أوصالى رعشات مغمورة لإيقاعات هوس صخبهم ، تزداد كثافة الغيوم
المتجمعة ، فأطيل النظر فيما وراء الشرفة ،
تطاردنى مشاهد متلاحقة ومحفورة فوق جدران
ذاكرتى ، وذاكرتى هشة ، دائماً ما تخذلنى ، ولأن
هذه المشاهد محفورة فوق جدرانها الباهتة ، فهى
تطاردنى وتلاحقنى حتى فى اللحظات التى أدلف
فيها إلى حجرتى كيما أنفض عن ذهنى ما علق به
من رواسب يوم ثقيل ، مزدحم بطلبات بيتية يخُال
إلىّ أنها لا تنتهى أبداً .
أطفالى الصغار لا يفهمون أنك عاجز عن تلبية
احتياجاتهم ليكفوا عن الصراخ ، فتطاردك المشاهد
تراها عبر الفضائيات لأطفال صغار يرشقون المدرعات المجنزرة بالحجارة ، وهى تدهسهم ، فلا تسمع أنين
صرخاتهم ، وشباب يهرولون حاملين الأطفال
والعجائز الذين ينزفون مع دمائهم المسالة دهشة براءتهم ، وأحلامهم التى شاخت تحت ضجيج
المجنزرات المقتحمة مخيماتهم كل صباح ، تغتال
ما تغتال ، وتغتصب ما تشاء من الفتيات اللواتى
لم يتجاوزن العاشرة بعد .
أتقلب فى فراشى ، فيطل علىّ هذا الوجه الكئيب
والمراوغ بابتسامة كاذبة ، وهو يدلى بالأكاذيب
المتوضئة بسفك دماء أبرياء يحلمون برغيف
خبز ، ومساحات صغيرة أمام البيت يلعبون فيها
الكرة الشراب ، والأستغماية ، دونما أن يخيفهم
عسكرى الوردية ، أو عسكرى الحرية المزعومة ،
ومدرسة يتعلمون فيها رسم القطة المشمشية cat ،
والكلبة الشقية Mad Dog .
مازلت أتقلب فى فراشى مستاءً إلى حد القرف من
أكاذيب تشعرك بأنك ساذج حد العبط ، أحاول أن
أفسر مفهوم كلمة إرهاب التى تتردد كثيراً كمصطلح
مطَّاطى ، فتلاحقنى صور لأطفال مبتورة أطرافهم ،
ومفتوحة بطونهم ، وأخرى ملقاة على قارعة الدهشة
تنتظر أن تكفنها نظرات المشاهد عبر الفضائيات ،
وفتيات صغيرات يحلمن بإتمام تعليمهن وزوج
يضمهن إلى بيت صغير دافىء الحجرات ، فتطأهن أحذية الجنود الثقيلة فاضة غشاء براءتهن .
تطاردنى هذه الكلمة وهى تدق رأسى بطنين مؤذٍ ،
لمفهومها المتحرك ، متلولبة فى أفضية مطاطية
وهلامية ، فيطل علىَّ الفنان العربى الكبير
" أيمن زيدان " فى المسلسل الرائع " هولاكو "
مجسداً شخصية هذا الدموى الكبير ، بنظرات عينيه
اللئيمتين ، المتوهجتين بألق الدماء المسالة فى طرقات
التاريخ المنسى ، وصورة المستعصم وهو يسعى
لنيل الرضى حتى لا تسقط بغداد ، فأسقط فى
دائرة تزنزننى بسياج دهشة المباغتة ، أتعجب للشبه
بين هاتين العينين اللئيمتين ، وهاتين العينين
المليئتين بالأكاذيب المدهشة لرجل يشعرك دوماً بأنك
ساذج إلى حد العبط ، وهو يرقص فوق تمثال الحرية
الشامخ بالكبرياء المتعجرف ، تحاول أن تربط بين
هذه المصطلحات " إرهاب ، حرية ، ديموقراطية ،
ديماجوجية " ، وفى النهاية تعتدل فى فراشك لتشعل سيجارة ، ثم تحدق فى عتمة الحجرة ، ورنين الصمت
يلف شقتك فى هذا الوقت المتأخر من الليل ، وامرأة
ممددة بجوارك فوق فراش منهك بالتجاعيد بعد شهر
من زفافك ، فيصيبك الضجر ، والقرف .
تناولتْ فنجان القهوة المقلوب ، ثم اختلست نظرة
سريعة إلى وجهى ، وبسرعة تفادت التقاء نظراتها
بنظراتى المتسكعة فى هوس تضاريس الجسد المعلق
على حافة غواية مصابيح الجنة .
راحت تحدق فى الفنجان ، فأطالت النظرة ، ثم نظرت
إلىَّ نظرة خاطفة ، فضبطتنى مرة أخرى وأنا أتسلق
نبض ارتعاشات ساقيها المكشوفتين عن لحم أبيض،
رخو ، ومساحات مضمومة من العشب الطرى ،
تفضى بك إلى نهرى دجلة والفرات ، ثم النيل من
بعدهما ، ثم سفينة تركبها لتنجو من الطوفان الكاسح،
لتعتلى قمة جبل المقطم منتشياً بطزاجة الهواء النقى
والمعقم ، وأمامك أسوار قلعة صلاح الدين التى تنشع
جدرانها بمياه الصرف الصحى لمدن غارقة فى وحل
النخبة من روادى ملاهى الهرم ، وبازارات الشانزلزيه،
ثم تعلن فى الناجين أن كعبة القصاد أصبحت مزاراً
سياحياً ، ومنتجعات تركض فيها لاهياً مع فاتنات
هوليوود ، تل أبيب ، وأميرات باكنجهام أو ويلز ،
بعد أن تمنح صكوك الغفران ، فتمر عبر بوابات
الضياء من المدينة العتيقة إلى نهر الكوثر ، بلا
مضايقات من موظفى الجمارك ، وبلا تفتيش
لحقائبك ، أو شق رأسك بحثاً عما تحمله من أفكار
متطرفة !! لتشرب من النهر الرقراق شربة تظمأ
بعدها وأنت فوق حواف شاطئيه ، فيباركك الأنبياء
والقديسين وملائكة العرش عند سدرة المنتهى ،
وهى تبتسم فى وجهك الطفولى ، وأنت تتأبط بروك
شيلدز وجوليا روبرتس ، ثم تتفحص فيزا دخولك ،
تبرز لهم صكوك الغفران الممنوحة لك من الحاخام
الأكبر ، فتسمح بمرورك لتقايض على ملكوت الرب ،
محولاً أرصدتك البنكية الراكدة فى لاس فيجاس ،
وتقيم منتجعاً عند سدرة المنتهى ، لتستجم فيه ،
وأنت تتخلص من شرور العالم القديم ، ومن أعدائك
القدامى ، الحفاة ، العراة ، ومعك امرأة رائعة تشبه
المستحيل ، تبتسم لك وهى ترتدى بعضاً من أوراق
التوت .
ابتسمتْ وهى تعتدل لتفسح انفراجة أكبر لعينىّ
المتسللتين ، فتعلقت بها أكثر ، وركضت متسكعاً
أطوف أفضيتها البهية بالتوهج وهى تمعن النظر
فيما سطره الفنجان لى ، وكلما اعتدلت فى جلستها انكشفت لعينىّ مساحات أكبر لنهارات مشبعة برنين
الغوايات لعوالم مليئة بالدفء والضوء ، تنتشلك من
صقيع رتابة الوقت ، والأشياء الكثيرة التى تصيبك
بالسأم ، وتجعلك تركض بدون أن تفكر لتقف على حافة الإنتحار .
تفحصتنى طويلاً بعينين ناعستين برغبة الإمتلاء ، ثم
نظرتْ مرة أخرى فى الفنجان وابتسمت لى
ابتسامة ساحرة ،مطت شفتيها الصغيرتين ، اللتين
كحبتى الكريز ، قالت :
- سوف تتحقق كل أمنياتك .
- فسِّرى أكثرّ ؟
- امرأة تعشقها إلى حد الهوس ، لكنك ، لا تجسر على مصارحتها ، فأنت حريص ألا تفقدها ، وهى
تحبك أكثر وتمنت كثيراً أن تنتزعك من أوردتها
المتدفقة بزقزقة عصافير تصدح مسبحة بحبك فى
صباحات عفية بروعة لحظات الإشراق الأولى ،
فلم تستطع سوى أن تصغى لزقزقة عصافيرها ،
وهى تعيش منتظرة اللحظة التى تخلع فيها رداء
خوفك ، وخجلك ، الشديدين ، لتصغى معها لزقزقة
عصافيرها المحلقة فى فضاءات من الضوء الشفيف
المتساكب فى ضلوع روحها ، ثم ثلاث عتبات ما أن
تجتازها حتى يتدفق عليك المال الكثير .
نهضت متقدماً ناحيتها ، وكلماتها تغازل عظامى ،
خلايا جسدى ، وهى تنظر إلىّ بعينين مراوغتين
بدهشة المباغتة ، أمسكت بيديها منتزعاً فنجان القهوة ، وهى لازالت تحدق فىّ بدهشة استكانة النظرات ، وضعت الفنجان فوق المنضدة ، ثم نظرت
إلى عينيها الساحرتين ، والمتوهجتين بنشوة مراوغة بالاستكانة ، أمسكت بيديها الصغيرتين
والناعمتين ثم جثوت على ركبتى .
ركع المستعصم عند أقدام هولاكو ، ومن منكبيه
العريضين كانت تنسرب فى الكون حمامات بيضاء
تحلق فى مساحات فسيحة من الضوء والبراءة ،
ومن عمامة الخلافة ، كان الأطفال يركضون بعناقيد
من الفل مسحورة برجرجة ضحكاتهم . ومن عينيه
المكبلتين بعتمة المسافات وبرودة أصدقاء خونة لهم
نكهة قهوة الشتاء ، كان يستعطف عينين لئيمتين
بشهوة الخراب ، ألا تسقط حماماته البيضاء مع
أسوار بغداد .
وبعينين أنهكتهما ارتحالات طيور النورس عن شاطئيها قلت لها :
- أنتِ من أعشقها .
ضممتها إلى صدرى برفق ، ثم ضغطت بذراعين
قويتين ، بشدة معتصراً شفتيها الصغيرتين اللتين
كحبتىّ الكريز ، فطوقتنى بذراعين واهنتين دبت
فيهما فجأة أجنحة الحياة لتحلق فى أفق يدور فى
بلورات الضوء . فطوقتنى المشاهد المطاردة
بجبروت المباغتة ، لتلاحقنى ، راكضة فى ذاكرتى
أجساد صبية ينزفون مع دمائهم ، ضجيج براءتهم
فوق أرصفة الفجيعة ، وصبايا لم يتجاوزن العاشرة
وهن يلدن قروداً تتقافز فى مخيمات الصمت ، متسلقة أشجار العهر النابتة فى أفق مزين بعناقيد فل
ملونة بحمرة الشفق الطفولى ، قاطفة ثمار الحنظل
لمروجى أكاذيب البراءة ، بين دهشة العابرين وقعود
الواقفين فى قمم الولايات العربية المفككة ، بوجوهم
الملغومة بانشطارات الكون الفسيح ، وبأسراب حمامات تتساقط معها عناقيد الفل الدامية لصخب
أطفال فقدوا بهجة الركض ، يتراشقون فى سراديب قمم الصمت رذاذ السكون ، وصهيل لناى مشحون
برغبة رنين الانفلات من نكهة برودة جارحة لأجنحة
فقدت رغبتها فى الطيران ، وضياع عناقيد الفل المسحورة بالضحك المشنوق فوق شواطىء بلا رمال ، وحصى يغريك بنعاس باذخ بالترف المفتوح
على شرفات مسكونة بضجيج المقايضة ، وأطفال
يستحمون فى دروب الهلع ، يزرعون عناقيد من
الحصى .
أحتوتنى بذراعيها ، سرت رعشات خافقة بالألق ،
مقتحمة عظامى ، وفى دمائى سرت نشوة الضياء ،
وتحولت الرعشات إلى طوفان جامح يجتاح خلايا
جسدى ، يجرف من ذاكرتى صوراً ومشاهداً
لأسراب حمامات معلقة فى أرجلها عناقيد مضرجة
بصخب براءة مستحمة فى كوابيس النهار ، فأحتويتها ، ورحت أجوس بلسانى ارتخاء شرايين عنقها ، متلذذاً بطزاجة قبلاتها ، حملتها محلقاً فوق
شواطىء تضرب أمواجها طيور النورس ، وكان
صخب الأطفال يعتلى وشيش موجاته ، ورسومات
للقطة المشمشية والكلبة الشقية ملقاة بجوار بيوت
مبنية من الرمال ، فأختلطت ألوان الرسومات
الزاهية برذاذ الأمواج .
فـتـحـى سـعـد
Fathysaad61@yahoo.com