الصبار ينمو فى مرايا الروح
كانت تسير وحدها ، بامتداد الأفق المكحَّل بالغيوم ،
أمواج البحر الهادرة تنكسر فوق قدميها الحافيتين ،
فتتفتت إلى جزيئات صغيـرة متناثـرة فوق الرمال المدهونة بالبلل ، وبقعة ضوء تتسلل من بين طيات
الغيوم المتراكمة .
من بين السحـاب المتلفعة رمال الشاطـىء المبللة بالسكون ، انطلق راكضاً صوب البحر .
لا أحد هنا ،
لا أحد هناك ،
ولا أحد عند النقطة التى يمتزج فيها الأفق بدكنته ،
ومياه البحر .
راحت تدندن بأغنية عاطفية الكلمات ، وهى تصغى
إلى همس الأمواج ، تشم الهواء ، فتدخلها روائح
مشبعة بالصمت ، الصقيع ، وهى تتطلع إلى الغيوم
التى نسجت فى مرايا الروح ، طلاسم مقبضة ، عبر
خلاياها المكتظة بالغبار ، والبرودة .
ميزت رائحة مّا ، ركضت وراء تلك الرائحة حتى أقصى حدودها الغامضة . عجزت عن تفسير تلك الرائحة ، وقفت منهكة فى منتصف الطريق ، عاودت
الدندنة ، ودت أن تلقى بنفسها فى الماء ، وتصرخ
طالبة النجدة ، علَّه يسمعها ابن روحها ، فيأتى من خلف زاوية الغيوم ، ويزيح الحجر الذى تعثرت فيه ،
يرمى فى دمها شعاع قبلة ،فتتوهج شفتاها الباردتان،
ينتشلها من صقيع الوقت الذى يدثرها بشراسة عتمة الفراغ ، فيسرى الدفء فى أنسجتها ، جميـع خلايا
جسدها ، فتنهض من رقدتها ، وابتسامـة صغيـرة تغزلها ضفائر ألق تلقيها صوب الأفق الداكن برائحة
البرودة ، ورنين الفراغ ،لحظتها ،يتوهج الكون بهاءً
وضياءً ، فتـركض بقـع الغيـوم هاربة خلف الجبال البعيدة ،والشمس اللامعة تفرش أشعتها لتغسل الكون بضياء الضحات الدافئة .
سارت تركل حبات الرمال المبللة بجدائل مضفورة من
أشعـة الشمس ، وثيابها تتساقط منها قطعـة وراء قطعة ، فيغسلها رذاذ الأمواج المسحورة بالصخب ،
لم تلق بالاً لحالة العـرى التى ارتـدتها ، راحت تمد يديها إلى عين الشمس قاطفة عناقيد العنب ،فتسقطها
بين شفتيها حبة وراء حبة ، شعرت بحالة سكر تعربد فى أوصالها ، ثم راحت تدندن بأغنية حالمة .
إقترب منها ، وهو فى اندفاعه صوب البحر ، ساورها
القلق كلما ضاقـت المسافات بينهما ، اجتاحتها مرة أخرى تلك الرائـحة .
لم تحاول أن تخفى عريها ، ركضت نحوه ، لتختبىء فى ضلوعه ، ضاقت المسافات أكثر ، تلاشت ، وعند
النقطة التى فيها سوف يلتقيان ، كان وجهـه مختلفاً عن وجه ابن روحها ، الذى عمَّدته برحيق رضابها ،
لم يقف ، تجاوَزَها راكضاً صوب البحر .
صرخت مع الأفق والغيوم . غطت صرخاتها على هدير الأمواج ، عندما مر من جانبها ، كان يحمل رأسه ، بيديه ، فوق صدره .
تلفتت بعينين يركض فيهما الفزع ، تابعته وهو يغوص فى اليمِّ ، ورأسه تتدحرج مع الأمواج المتلاطمة ، وصرخاتها تذوب فى بقع الصمت
المنتشرة فوق رمال الشاطىء ، وعندما اختفى من أمام عينيها ، راحت تنوح وهى تنزع خصلات شعرها وتلقيها فوق الشاطىء ، فنبتت صبارة ضخمة ، أوراقها خضراء تميل إلى السواد .
أفاقت من نومها ، نهضت بخطوات ثقيلة وهى تبسمل ، وبيد مثقلة انتزعت من الثلاجة زجاجة الماء ، أفرغتها فى جوفها اليابس ، ثم دلفت إلى حجرتها ، أمسكت بالموبايل ، راحت ترن على ابن روحها ، رنيناً متواصلاً ، عندما لم تتلق منه رداً ، عاودت الآتصال وهى ترتجف ، مرة .. مرتين ، انتابها الجزع .
خرجت تجوب شوارع المدينة المقفرة فى ذلك الصباح البارد ، تجاوزت الميدان الكبير ، متجهة صوب البحر ، عند النقطة التى كان اختفى فيها وقفت حائرة ، تنظر بدهشة الصدمة إلى حقول شاسعة من أشجار
الصبار الضخمة التى نبتت بامتداد الأفق ، وسكان
المدينة يسيرون عرايا فى موكب صامت صوب الطرف الآخر من البحر .
فـتـحـى سـعـد
ينايـــر 2006
قـــنــــــا